منشأ هذه الشبهة : هو قوله تعالى : ( وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة قل اتخذتم عند الله عهداً فلن يخلف الله عهده أم تقولون على الله ما لا تعلمون ) (1) أخذوا من هذه الآية كلمة " معدودة " وتوهموا أن القرآن أخطأ فيها ؛ لأنها - عندهم - جمع كثرة ، والمقام الذى استعملت فيه يتطلب جمع القلة ، ثم علقوا قائلين : " وكان يجب أن يجمعها جمع قلة ، حيث إنهم أرادوا القلة ، فيقول : أياماً معدودات " . هكذا عبروا عن جهلهم ، وهم يحسبون - أو لا يحسبون - أنهم العلماء الأفذاذ الذين يعلمون ما لم يعلمه أحد - حتى الله - من شئون اللغة والبيان ، وهم - بحق - لا يكادون يفقهون حديثاً .
هذه الآية نزلت تحكى قولاً قاله اليهود ، يكشف عن الغرور الذى ملأ أنفسهم ، فقد زعموا أنهم إذا دخلوا النار ، فإنها لا تمسهم إلا مساً خفيفّا ، وأنهم لن يُخلدوا فيها ، بل يقضون عدة أيام . وهذا تطاول منهم ، لأن شئون الآخرة لا يعلمها إلا الله . لذلك كذَّبهم الله ، وألزمهم الحُجة البالغة له عليهم وحصر مصدر هذا الذى ادعوه فى أمرين : الأول : أن يكون عندهم من الله عهد بما قالوا ، والله لا يخلف عهده ، وهم فى الواقع لا عهد عندهم من الله يحدد فيه مدة مكثهم فى النار ، ودرجة العذاب الذى سيصيبهم فيها . الثانى : أو هُمْ يفترون على الله عز وجل ، وماداموا ليس عندهم عهد من الله ، فهم - إذاً - كاذبون والذين يفترون على الله الكذب لا يفلحون . أما مسألة الكثرة والقلة ، التى بنى عليها هؤلاء الكارهون لما أنزل الله على خاتم رسله - صلى الله عليه وسلم - ، فلا اعتبار لها هنا ، وهم وإن حفظوا شيئاً فقد غابت عنهم أشياء . ولذلك أوقعهم جهلهم فيما حاولوا أن يفروا منه ؛ لأنهم قالوا إن معدودة ، جمع كثرة ، واستعمال جمع الكثرة - هنا - خطأ ؟ ؛ لأن اليهود أرادوا جمع القلة - أى أنهم يمكثون فى النار أياماً قليلة . فجاء تعبير القرآن غير وافٍ بالمعنى الذى كانوا يقصدونه ، وكان الواجب على القرآن أن يقول : أياماً معدودات ، بدلاً من ( أياماً معدودة ) هذا هو قولهم ، وهو محض الخطأ لو كانوا يعلمون وذلك للاعتبارات الآتية : فأولاً : لأن " معدودة " ليست جمعاً بل مفردًا ، ليست جمع كثرة ولا جمع قلة . وهؤلاء " العباقرة " جعلوها جمع كثرة ، بسبب جهلهم باللغة العربية ، لغة الإعجاز . وثانياً : أن " معدودات " التى يقولون إنها الصواب وكان حق القرآن أن يعبر بها بدلاً من " معدودة " ظانين أن " معدودات " جمع قلة . وهى ليست جمع قلة كما توهموا ، فهى على وزن " مفعولات " وهذا الوزن ليس من أوزان جموع القلة (2) بل من أوزان جموع الكثرة ولا ينفعهم قولهم إن اليهود أرادوا القلة ، لأن هذه القلة يدل عليها سياق الكلام لا المفردات المستعملة فى التركيب . وثالثاً : إن هذا التعبير لا ينظر فيه إلى جانب قلة أو كثرة ، ولكن ينظر فيه من جانب آخر ليس عند هؤلاء الأدعياء شرف الاتصاف به ؛ لأنهم دخلاء على لغة الإعجاز والتنزيل . هذا الجانب هو : معاملة غير العاقل معاملة العاقل أو عدم معاملته (3) . ووصف الأيام بـ " معدودة " فى ما حكاه الله عن اليهود هو وصف لها بما هو لائق بها ، لأن الأيام لا تعقل فأجرى عليها الوصف الذى لغير العقلاء ، وما جاء على الأصل فلا يسأل عنه ، ولكنهم لجهلهم المركب بلغة الإعجاز حسبوا الصواب خطأ ، والخطأ صواباً . لأنهم زجوا بأنفسهم فيما لا ناقة لهم فيه ولا جمل . أما معاملة غير العاقل معاملة العاقل ، فلها دواعٍ بلاغية لا يعرف عنها مثيرو هذه الشبهات كثيراً ولا قليلاً . وهى فى النظم القرآنى من الكثرة بمكان ، ولا يعامل غير العاقل معاملة العاقل إلا بتنزيله منزلة العاقل لداع بلاغى يقتضى ذلك التنزيل . وإذا كان القرآن قد عبَّر فى وصف " أياماً " فى آية البقرة هذه بـ " معدودة " وهو وصف غير العاقل جارٍ على الأصل ، فإنه عبَّر عن وصفها بـ " معدودات " فى موضع آخر ، هو قوله تعالى : ( ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات وغرهم فى دينهم ما كانوا يفترون ) (4) . فكان ينبغى أن يسأل هؤلاء عن اختلاف التعبير فى الموضعين بدل أن يخطِّئوا الصواب وهم جاهلون . وها نحن نضع بين أيديهم الحق ناصع البياض . فى آية البقرة جاء وصف " أياماً " - " معدودة " بصيغة الإفراد ، وليس جمع كثرة كما زعموا . وفى آية آل عمران جاء وصف " أياماً " - " معدودات " جمعاً لا إفراداً . فلماذا - إذاً - اختلفت صيغة الوصف ، والموصوف واحد ، هو " أياماً " ؟ إذا قارنَّا بين الآيتين وجدنا آية البقرة مبنية على الإيجاز هكذا : " وقالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودة . . " . ووجدنا آية آل عمران مبنية على الإطناب هكذا : " ذلك بأنهم قالوا لن تمسنا النار إلا أياماً معدودات " . وازن بين صدر آية البقرة " وقالوا " . وبين صدر آية آل عمران " ذلك بأنهم قالوا " . تجد أن جملة " ذلك بأنهم " هذه العبارة اشتملت على اسم الإشارة الموضوع للبعيد ، الرابط بين الكلامين السابق عليه ، واللاحق به . ثم تجد " الباء " الداخلة على " إن " فى " بأنهم " . ثم " إن " التى تفيد التوكيد ، ثم ضمير الجماعة " هم " . هذه الأدوات لم يقابلها فى آية البقرة ، إلا واو العطف " وقالوا " إذاً المقامان مختلفان ، أحدهما إيجاز ، والثانى إطناب . وهذا يبين بكل قوة ووضوح لماذا كان " معدودة " . فى آية البقرة ؟ و " معدودات " فى آية آل عمران ؟ كان وصف " أياماً " فى آية البقرة " معدودة " لأن المقام فيها مقام إيجاز كما تقدم فناسب هذا المقام الإيجازى أن يكون الوصف موجزاً هكذا " معدودة ". وكان الوصف فى آية آل عمران مطنباً " معدودات " بزيادة " الألف " ليناسب مقام الآية الإطنابى كما تقدم (5) . فانظر إلى هذه الدقائق واللطائف البيانية المعجزة التى عميت عنها مدارك " الخواجات " المتعالمين .
الهوامش: ---------------------------- (1) البقرة : 80 . (2) أوزان جموع القلة هى : فِعْلَة ـ أفْعَال ـ أفعُل ـ أفْعِلَة . (3) غير العاقل هو ماعدا الإنسان من مخلوقات الله الأرضية . (4) آل عمران : 24 . (5) انظر : ملاك التأويل ، القاطع لذوى الإلحاد والتعطيل فى توجيه المتشابه من آى التنزيل ( 1 / 281 ) للعلامة أحمد بن الزبير القرناطى . دار النهضة العربية .