مقدمة : تعدد القراءات ألا يدل على الاختلاف فيه ، وهو نوع من التحريف ؟
القراءات : جمع قراءة ، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق ، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب ، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام ، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب ، سواء كان صحيفة أو كتابًا ، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء : القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا ، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة ، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا . فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام ، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح : قراءات القرآن . وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا . فقالوا فى تعريفها :
" اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (1) .
وقد عرفها بعض العلماء فقال :
" القراءات : هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى - صلى الله عليه وسلم - . ." (2)
ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عزَّ وجل ، فهى - إذن - قرآنٌ ، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ )(3) . هذه قراءة حفص عن عاصم ، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها ، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين ، وهى جمع : " نَفْس " بسكون الفاء ، ومعناها : لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة ، وبيئة ، ولغة .
وقرأ غير عاصم : " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين ، ومعناها : لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم .
و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة . فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق . وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية .
مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى - فيما يأتى - للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل : تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى ، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات ، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن ، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا .
ومثال آخر ، قوله تعالى :
" مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك " ، وفيها قراءتان :
" مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين . " مَلِك " صفة لا اسم فاعل ، وهى قراءة : نافع وآخرين .
ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين ، وهو يوم القيامة .
أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء . ما ظهر منها وما خفى .
وكلا المعنيين لائق بالله تعالى ، وهما مدح لله عز وجل .
ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم ، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام ، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين .
ومثال ثالث هو قوله تعالى : ( يوم يُكشف عن ساق )(4) .
والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء ، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف ، وفتح الشين . بالبناء للمفعول والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف ، وكسر الشين ، بالبناء للفاعل ، وهو الساعة ، أى يوم تكشف الساعة عن سياق . قرأها بالتاء ، والبناء للمعلوم ، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول .
والعبارة كناية عن الشدة ، كما قال الشاعر :
كشفت لهم ساقها * * * وبدا من الشر البراح (5).
هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية :
- إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل .
- إنها لا تدخل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات محصورة وردت فيها ، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها .
- إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه .
- إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز ، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام .
ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه ، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى .
وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين ، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه ( التوراة والإنجيل ) بالتحريف والتغيير والتبديل ، وكتابكم المقدس ( القرآن ) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات ، التى تسمونها قراءات ؟
وهذا ما قالوه فعلاً ، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا ، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين ، الذين تحالفوا - إلا قليلاً منهم - على تشويه حقائق الإسلام ، وفى مقدمتها القرآن الكريم .
ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا ، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى : " جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ .
إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر .
أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية :
المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين ، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى ؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول ، وهذا ساعد على نطق الياء تاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون " ! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون " .
هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا ، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً ، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى : ( وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا . . ) (6).
فقد قرأ عاصم : " بُشرا " بضم الباء
وقرأها الكسائى وحمزة : " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم .
وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة ، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (7).
وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (8) :
" والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى ، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها ، كما أن عدم وجود الحركات النحوية ، وفقدان الشكل ( أى الحركات ) فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب . فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل ، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات ، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن " .
إن المتأمل فى هذا الكلام ، الذى نقلناه عن جولد زيهر ، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث . إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم .
ثم أخذ - بعد ذلك - يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما ، وهما :
- تجرد المصحف من النقط فى أول عهده .
- تجرد كلماته من ضبط الحروف .
فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى :
( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) (9).
والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور . وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء ، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها :
فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون ، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون .
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده .
وكذلك قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه . . ) (10).
والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر .
ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " أباه " بإبدال الياء من " أباه " باء " أباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه ؟ (11).
أما اختلاف القراءات للسبب الثانى ، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات ، فمن أمثلته عنده قوله تعالى :
( ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب )(12).
وقارن بين قراءاتها الثلاث : " مَنْ عنْدَهُ " - " مِنْ عِنْدِه " - "مَنْ عِنْدِهِ " ؟ !
هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها . واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.