تعدد قراءات القرآن

الناقل : heba | المصدر : www.dar-alifta.org

مقدمة : تعدد القراءات ألا يدل على الاختلاف فيه ، وهو نوع من التحريف ؟
  القراءات : جمع قراءة ، وقراءات القرآن مصطلح خاص لا يراد به المعنى اللغوى المطلق ، الذى يفهم من اطلاع أى قارئ على أى مكتوب ، بل لها فى علوم القرآن معنى خاص من إضافة كلمة قراءة أو قراءات للقرآن الكريم، فإضافة " قراءة " أو "قراءات " إلى القرآن تخصص معنى القراءة أو القراءات من ذلك المعنى اللغوى العام ، فالمعنى اللغوى العام يطلق ويراد منه قراءة أى مكتوب ، سواء كان صحيفة أو كتابًا ، أو حتى القرآن نفسه إذا قرأه قارئ من المصحف أو تلاه بلسانه من ذاكرته الحافظة لما يقرؤه من القرآن ومنه قول الفقهاء : القراءة فى الركعتين الأوليين من المغرب والعشاء تكون جهرًا ، فإن أسرَّ فيهما المصلى فقد ترك سُنة من سنن الصلاة ، ويسجد لهما سجود السهو إن أسر ساهيًا . فقراءة القرآن هنا معنى لغوى عام ، لا ينطبق عليه ما نحن فيه الآن من مصطلح :  قراءات القرآن .  وقد وضع العلماء تعريفًا للقراءات القرآنية يحدد المراد منها تحديدًا دقيقًا .  فقالوا فى تعريفها  :
 " اختلاف ألفاظ الوحى فى الحروف أو كيفيتها من تخفيف وتشديد وغيرهما (1) .
وقد عرفها بعض العلماء فقال :
" القراءات : هى النطق بألفاظ القرآن كما نطقها النبى - صلى الله عليه وسلم - . ." (2)
ومما تجب ملاحظته أن القراءات القرآنية وحى من عند الله عزَّ وجل ، فهى - إذن - قرآنٌ ، ولنضرب لذلك بعض الأمثلة :
 قوله تعالى : ( لقد جاءكم رسول من أنْفُسِكُمْ )(3) . هذه قراءة حفص عن عاصم ، أو القراءة العامة التى كُتب المصحف فى خلافة عثمان بن عفان رضى الله عنه عليها ، والشاهد فى الآية كلمة "أنفُسِكُم" بضم الفاء وكسر السين ، وهى جمع : " نَفْس " بسكون الفاء ، ومعناها : لقد جاءكم رسول ليس غريبًا عليكم تعرفونه كما تعرفون أنفسكم لأنه منكم نسبًا ومولدًا ونشأة ، وبيئة ، ولغة .
وقرأ غير عاصم : " لقد جاءكم رسول من أَنْفَسِكُمْ " بفتح الفاء وكسر السين ، ومعناها : لقد جاءكم رسول من أزكاكم وأطهركم .
و" أنْفَس " هنا أفعل تفضيل من النفاسة .  فكلمة " أنفسكم " كما ترى قرئت على وجهين من حيث النطق .  وهذا هو معنى القراءة والقراءات القرآنية .
مع ملاحظة مهمة ينبغى أن نستحضرها فى أذهاننا ونحن نتصدى -  فيما يأتى - للرد على الشبهة التى سيوردها خصوم القرآن من مدخل :  تعدد قراءات القرآن أن هذه القراءات لا تشمل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات فى الآية دون كلمات الآية الأخرى ، وقد رأينا فى الآية السابقة أن كلمات الآية لم تشملها القراءات ، بل كانت فى كلمة واحدة هى " أنفسكم ".
وهذا هو شأن القراءات فى جميع القرآن ، كما ينبغى أن نستحضر دائمًا أن كثيرًا من الآيات خلت من تعدد القراءات خلوًّا تامًّا .
ومثال آخر ، قوله تعالى :
 " مالك يوم الدين " والشاهد فى الآية كلمة " مالك " ، وفيها قراءتان :
 " مالك " اسم فاعل من " مَلِكَ " وهى قراءة حفص وآخرين .  " مَلِك " صفة لا اسم فاعل ، وهى قراءة : نافع وآخرين .
ومعنى الأولى " مالك " القاضى المتصرف فى شئون يوم الدين ، وهو يوم القيامة .
أما معنى " مَلِك " فهو أعم من معنى " مالك " أى من بيده الأمر والنهى ومقاليد كل شىء .  ما ظهر منها وما خفى .
وكلا المعنيين لائق بالله تعالى ، وهما مدح لله عز وجل .
ولما كانت هذه الكلمة تحتمل القراءتين كتبت فى الرسم هكذا "ملك " بحذف الألف بعد حرف الميم ، مع وضع شرطة صغيرة رأسية بين الميم واللام ، ليصلح رسمها للنطق بالقراءتين .
ومثال ثالث هو قوله تعالى : ( يوم يُكشف عن ساق )(4) .
والشاهد فى الآية كلمة " يُكشَف " وفيها قراءتان الأولى قراءة جمهور القراء ، وهى " يُكشف " بضم الياء وسكون الكاف ، وفتح الشين . بالبناء للمفعول  والثانية قراءة ابن عباس " تَكْشِفُ " بفتح التاء وسكون الكاف ، وكسر الشين ، بالبناء للفاعل ، وهو الساعة ، أى يوم تكشف الساعة عن سياق .  قرأها بالتاء ، والبناء للمعلوم ، وقرأها الجمهور بالياء والبناء للمجهول .
والعبارة كناية عن الشدة ، كما قال الشاعر :
       كشفت لهم ساقها            * * *         وبدا من الشر البراح (5).
هذه نماذج سقناها من القراءات القرآنية تمهيدًا لذكر الحقائق الآتية : 

  • إن القراءات القرآنية وحى من عند الله عز وجل . 
  •  إنها لا تدخل كل كلمات القرآن ، بل لها كلمات محصورة وردت فيها ، وقد أحصاها العلماء وبينوا وجوه القراءات فيها .
  • إن الكلمة التى تقرأ على وجهين أو أكثر يكون لكل قراءة معنى مقبول يزيد المعنى ويثريه . 
  •  إن القراءات القرآنية لا تؤدى إلى خلل فى آيات الكتاب العزيز ، وكلام الله الذى أنزله على خاتم رسله عليهم الصلاة والسلام .

ومع هذا فإن خصوم الإسلام يتخذون من تعدد قراءات بعض كلمات القرآن وسيلة للطعن فيه ، ويرون أن هذه القراءات ما هى إلا تحريفات لحقت بالقرآن بعد العصر النبوى .
وكأنهم يريدون أن يقولوا للمسلمين ، إنكم تتهمون الكتاب المقدس بعهديه ( التوراة والإنجيل ) بالتحريف والتغيير والتبديل ، وكتابكم المقدس ( القرآن ) حافل بالتحريفات والتغييرات والتبديلات ، التى تسمونها قراءات ؟
 وهذا ما قالوه فعلاً ، وأثاروا حوله لغطًا كثيرًا ، وبخاصة جيش المبشرين والمستشرقين ، الذين تحالفوا - إلا قليلاً منهم  - على تشويه حقائق الإسلام ، وفى مقدمتها القرآن الكريم .
ونكتفى بما أثاره واحد منهم قبل الرد على هذه الشبهة التى يطنطنون حولها كثيرًا ، ذلكم الواحد هو المستشرق اليهودى المجرى المسمى : " جولد زيهر " الحقود على الإسلام وكل ما يتصل به من قيم ومبادئ .
إن هذا الرجل لهو أشد خطرًا من القس زويمر زعيم جيش المبشرين الحاقدين على الإسلام فى عهد الاحتلال الإنجليزى للهند ومصر .
أوهام جولد زيهر حول القراءات القرآنية :
 المحاولة التى قام بها جولد زيهر هى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، نزل به الروح الأمين إلى كونها تخيلات توهمها علماء المسلمين ، وساعدهم على تجسيد هذا التوهم طبيعة الخط العربى ؛ لأنه كان فى الفترة التى ظهرت فيها القراءات غير منقوط ولا مشكول ، وهذا ساعد على نطق الياء تاء فى مثل " تقولون " أو " تفعلون " ! فمنهم من قرأ بالتاء " تقولون " ومنهم من قرأ بالياء " يقولون " .
هذا من حيث النقط وجودًا وعدمًا ، أما من حيث الشكل أى ضبط الحروف بالفتح أو الضم مثلاً ، وأرجع إلى هذا السبب قوله تعالى : ( وهو الذى أرسل الرياح بُشرًا . . ) (6).
فقد قرأ عاصم : " بُشرا " بضم الباء
وقرأها الكسائى وحمزة : " نَشْرا " بالنون المفتوحة بدلاً من الباء المضمومة عند عاصم .
وقرأ الباقون: " نُشُرا " بالنون المضمومة والشين المضمومة ، بينما كانت الشين فى القراءات الأخرى ساكنة (7).
وفى هذا يقول جولد زيهر نقلاً عن الترجمة العربية لكتابه الذى ذكر فيه هذا الكلام (8) :
" والقسم الأكبر من هذه القراءات يرجع السبب فى ظهوره إلى خاصية الخط العربى ، فإن من خصائصه أن الرسم الواحد للكلمة قد يقرأ بأشكال مختلفة تبعًا للنقط فوق الحروف أو تحتها ، كما أن عدم وجود الحركات النحوية ، وفقدان الشكل ( أى الحركات )  فى الخط العربى يمكن أن يجعل للكلمة حالات مختلفة من ناحية موقعها من الإعراب .  فهذه التكميلات للرسم الكتابى ثم هذه الاختلافات فى الحركات والشكل ، كل ذلك كان السبب الأول لظهور حركة القراءات ، فيما أهمل نقطه أو شكله من القرآن " .
إن المتأمل فى هذا الكلام ، الذى نقلناه عن جولد زيهر ، يدرك أن الرجل يريد أن يقول فى دهاء وخبث .  إن هذه القراءات تحريفات معترف بها لدى المسلمين خاصتهم وعامتهم ، وأن النصوص الإلهية المنزلة على رسولهم أصابها بعض الضياع إنه لم يقل صراحة بالتحريف وإنما وضع المبررات لوجود التحريف فى القرآن الحكيم .
ثم أخذ - بعد ذلك - يورد أمثلة من القراءات وينسبها إلى السببين اللذين تقدم ذكرهما ، وهما :

  •  تجرد المصحف من النقط فى أول عهده .
  • تجرد كلماته من ضبط الحروف .

فإلى السبب الأول نسب قوله تعالى :
( ونادى أصحاب الأعراف رجالاً يعرفونهم بسيماهم قالوا ما أغنى عنكم جمعكم وما كنتم تستكبرون) (9).
والشاهد فى كلمة " تستكبرون " وهى قراءة الجمهور .  وقد قارنها جولد زيهر بقراءة شاذة " تستكثرون " بإبدال الباء ثاء ، يريد أن يقول: إن الكلمة كانت فى الأصل " يستكبرون " غير منقوطة الحروف الأول والثالث والخامس فاختُلِف فى قراءتها :
فمنهم من قرأ الخامس " باء " والأول تاء فنطق: تستكبرون ، ومنهم من قرأ الخامس " ثاء " فنطق " تستكثرون .
هذا هو سبب هاتين القراءتين عنده .
وكذلك قوله تعالى : ( وما كان استغفار إبراهيم لأبيه إلا عن موعدة وعدها إياه . . ) (10).
والشاهد فى كلمة " إياه " ضمير نصب منفصل للمفرد الغائب الذكر .
ثم قارنها بقراءة شاذة لحماد الراوية هكذا " أباه " بإبدال الياء من " أباه " باء " أباه " أى وعدها إبراهيم عليه السلام أباه ؟ (11).
أما اختلاف القراءات للسبب الثانى ، وهو تجرد كلمات المصحف عن الضبط بالحركات ، فمن أمثلته عنده قوله تعالى :
( ومَنْ عِنْدَهُ علم الكتاب )(12).
وقارن بين قراءاتها الثلاث : " مَنْ عنْدَهُ " - " مِنْ عِنْدِه " -  "مَنْ عِنْدِهِ " ؟ !
هذا هو منهجه فى إخراج القراءات القرآنية من كونها وحيًا من عند الله ، إلى كونها أوهامًا كان سببها نقص الخط العربى الذى كتب به المصحف أولاً عن تحقيق الألفاظ من حيث حروفها ومن حيث كيفية النطق بها .  واقتفى أثره كثير من المبشرين والمستشرقين.
 

 
الرد عليها
أ. د / عبد العظيم المطعني

لقد حظى كتاب الله العزيز بعناية منقطعة النظير ، فى حياة النبى - صلى الله عليه وسلم -  ، وبعد وفاته .  ومن الحقائق الراسخة رسوخ الجبال أن طريق تَلَقِّى القرآن كان هو السماع الصوتى .
سماع صوتى من جبريل لمحمد عليهما السلام .
وسماع صوتى من الرسول إلى كتبة الوحى أولاً وإلى المسلمين عامة .
وسماع صوتى من كتبة الوحى إلى الذين سمعوه منهم من عامة المسلمين .
وسماع صوتى حتى الآن من حفظة القرآن المتقنين إلى من يتعلمونه منهم من أفراد المسلمين .
هذا هو الأصل منذ بدأ القرآن ينزل إلى هذه اللحظة وإلى يوم الدين ، فى تلقى القرآن من مرسِل إلى مستقبل .
وليست كتابة القرآن فى مصاحف هى الأصل ، ولن تكون  .  القرآن يجب أن يُسمع بوعى قبل أن يقرأ من المصحف ، ولا يزال متعلم القرآن فى أشد الحاجة إلى سماع القرآن من شيوخ حافظين متقنين ، وفى القرآن عبارات أو كلمات مستحيل أن يتوصل أحد إلى نطقها الصحيح عن مجرد القراءة فى المصحف ، ولو ظل يتعلمها وحده أيامًا وأشهرا .
وبهذا تهوى الأفكار التى أرجع إليها جولد زيهر نشأة القراءات إلى الحضيض ، ولا يكون لها أى وزن فى البحث العلمى المقبول ؛  لأن المسلمين من جيل الصحابة ومن تبعهم بإحسان لم يتعلموا القرآن عن طريق الخط العربى من القراءة فى المصاحف ، وإنما تعلموه سماعًا واعيًا ملفوظًا كما خرج من فم محمد - صلى الله عليه وسلم - ، ثم قيض الله لكتابه شيوخًا أجلاء حفظوه وتلوه غضّا طريّا كما كان صاحب الرسالة يحفظه ويتلوه كما سمعه من جبريل أمين الوحى أجل .
كان . .  سيكون لأفكار جولد زيهر وجه من الاحتمال لو كان المسلمون يأخذون القراءة قراءة من مصاحف  .  أما وقد علمنا أن طريق تلقى القرآن هو السماع الموثق ، فإن أفكار جولد زيهر تذهب هباء فى يوم ريح عاصف .
ثانيًا : إن القراءات الصحيحة مسموعة من جبريل لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ومسموعة من محمد - صلى الله عليه وسلم - لكتبة الوحى ، ومسموعة من محمد ومن كتبة الوحى لعموم المسلمين فى صدر الإسلام الأول ، ثم شيوخ القرآن فى تعاقب الأجيال حتى يرث الله الأرض ومن عليها .
لقد سمع المسلمون من محمد المعصوم عن الخطأ فى التبليغ " فتبينوا " و " فتثبتوا " فى قوله تعالى :
( يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا ) (13) بالباء والياء والنون .
وسمعوها منه " فتثبتوا " بالتاء والثاء والباء والتاء وكلا القراءتين قرآن موحى به من عند الله .  وليس كما توهم جولد زيهر، إنهما قراءتان ناشئتان عن الاضطراب الحاصل من خلو كلمات المصحف من النقط والشكل فى أول أمره ؟ .
والقراءتان ، وإن اختلف لفظاهما ، فإن بين معنييهما علاقة وثيقة ، كعلاقة ضوء الشمس بقرصها : لأن التبين ، وهو المصدر المتصيد من " فتبينوا " هى التفحص والتعقب فى الخبر الذى يذيعه الفاسق بين الناس ، وهذا البَين هو الطريق الموصل للتثبت .  فالتثبت هو ثمرة التبين . ومن تبيَّن فقد تثبت .
ومن تثبت فقد تبين .
فما أروع هذه القراءات ، ورب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، إن قراءات القرآن لهى وجه شديد الإشراق من وجوه إعجاز القرآن ، وإن كره الحاقدون .
وكما سمع المسلمون من فم محمد ، الذى لا ينطق عن الهوى - صلى الله عليه وسلم - فى الآية السابقة : " فتبينوا " و " فتثبتوا " سمعوا منه كذلك ، " يُفَصِّل " و " نُفصِّلُ " فى قوله تعالى :
 ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون )(14).
و " نفصل الآيات "
 وفاعل الفصل فى القراءتين واحد هو الله عز وجل :
وقد اختلف التعبير عن الفاعل فى القراءتين ، فهو فى القراءة الأولى " يفَصِّل " ضمير مستتر عائد على الله عز وجل فى قوله :
 ( ما خلق الله ذلك إلا بالحق ) أى يفصل هو الآيات .  فالفاعل هنا مفرد لعوده على مفرد " الله ".
وفى القراءة الثانية عُبِّر عن الفاعل بضمير الجمع للمتكلم "نُفَصِّل" أى نفصل نحن .
والله واحد أحد ، ولكن النون فى " نفصل " لها معنى فى اللغة العربية هو التعظيم إذا كان المراد منها فردًا لا جماعة .  ووجه التعظيم بلاغةً تنزيل الفرد منزلة " الجماعة " تعظيمًا لشأنه ، وإجلالاً لقدره .
وفى هاتين القراءتين تكثير للمعنى ، وهو وصف ملازم لكل القراءات . 
وللبلاغيين إضافة حسنة فى قراءة " نفصل " بعد قوله :  " ما خلق الله . .  " هى الانتقال من الغيبة فى " ما خلق الله " إلى المتكلم فى " نفصل " للإشعار بعظمة التفصيل وروعته .
وبعد : إن إرجاع القراءات القرآنية لطبيعة الخط العربى الذى كان فى أول أمره خاليًا من النقط والشكل ، كما توهم " جولد زيهر " ومن بعده " آثر جيفرى " فى المقدمة التى كتبها لكتاب المصاحف ، لأبى داود السجستانى ، وتابعهما المستشرق " جان بيرك " ، إن هذه النظرية مجرد وَهْم سانده جهل هؤلاء الأدعياء على الفكر الإسلامى، مبدؤه ومنتهاه الحقد على الإسلام والتطاول على القرآن ، لحاجات فى نفوس " اليعاقيب " .
وقد قدمنا فى إيجاز ما أبطل هذه الأوهام ، وبقى علينا فى الرد على هذه الشبهة أن نذكر فى إيجاز كذلك جهود علمائنا فى تمحيص القراءات ، وكيف وضعوا الضوابط الدقيقة لمعرفة القراءات الصحيحة ، من غيرها مما كان شائعًا وقت جمع القرآن فى عهد عثمان بن عفان " رضى الله عنه ".
تمحيص القراءات :
 وضع العلماء الأقدمون ضوابط محكمة للقراءات الصحيحة التى هى وحى من عند الله .  وتلك الضوابط هى : 1
- صحة السند ، الذى يؤكد سماع القراءة عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - .
2- موافقة القراءة لرسم المصحف الشريف ، الذى أجمعت عليه الأمة فى خلافة عثمان- رضى الله عنه - مع ملاحظة أن الصحابة الذين نسخوا القرآن فى المصحف من الوثائق النبوية فى خلافة عثمان ، نقلوه كما هو مكتوب فى الوثائق النبوية بلا تغيير أو تبديل .  ورسم المصحف الذى بين أيدينا الآن سنة نبوية ؛ لأن النبى - صلى الله عليه وسلم - أقر تلك الوثيقة ، واحتفظ بها فى بيته حتى آخر يوم فى حياته الطيبة .
ولذلك أجمع أئمة المذاهب الفقهية على تحريم كتابة المصحف فى أى زمن من الأزمان ، على غير الرسم المعروف بالرسم العثمانى للمصحف الشريف .
ونقل هذا الإجماع عنهم كثير من علماء تاريخ القرآن (15).
3- أن تكون القراءة موافقة لوجه من وجوه تراكيب اللغة العربية ؛ لأن الله أنزل كتابه باللسان العربى المبين .
4- أن يكون معنى القراءة غير خارج عن قيم الإسلام ومقاصده ، الأصول والفروع .
فإذا تخلف شرط من هذه الشروط فلا تكون القراءة مقبولة ولا يعتد بها .
وعملاً بهذه الضوابط تميزت القراءات الصحيحة من القراءات غير الصحيحة ، أو ما يسمى بالقراءات الشاذة ، أو الباطلة .
ولم يكتف علماؤنا بهذا ، بل وضعوا مصنفات عديدة حصروا فيها القراءات الصحيحة ، ووجهوها كلها من حيث اللغة ، ومن حيث المعنى .
كما جمع العلامة ابن جنى القراءات الشاذة ، حاصرًا لها ، واجتهد أن يقومها تقويمًا أفرغ ما ملك من طاقاته فيها ، وأخرجها فى جزءين كبيرين.
أما ذو النورين عثمان بن عفان رضى الله عنه ، حين أمر بنسخ الوثائق النبوية فى المصاحف ، فقد أراد منه هدفين ، ننقل للقارئ الكريم كلامًا طيبًا للمرحوم الدكتور/ محمد عبد الله دراز فى بيانهما :
" وفى رأينا أن نشر المصحف بعناية عثمان كان يستهدف أمرين :
أولهما : إضفاء صفة الشرعية على القراءات المختلفة ، التى كانت تدخل فى إطار النص المدون - يعنى المصحف -  ولها أصل نبوى مجمع عليه ، وحمايتها فيه منعًا لوقوع أى شجار بين المسلمين بشأنها ، لأن عثمان كان يعتبر التمارى ( أى الجدال ) فى القرآن نوعًا من الكفر .
ثانيهما : استبعاد ما لا يتطابق تطابقًا مطلقًا مع النص الأصلى ( الوثائق النبوية ) وقاية للمسلمين من الوقوع فى انشقاق خطير فيما بينهم ، وحماية للنص ذاته من أى تحريف ، نتيجة إدخال بعض العبارات المختلف عليها نوعًا ما ، أو أى شروح يكون الأفراد قد أضافوها إلى مصاحفهم " (16).
هذه هى عناية المسلمين من الرعيل الأول بالقرآن الكريم وتعدد قراءاته ، وحماية كتاب الله من كل دخيل على نصوص الوحى الإلهى .
هذا ، وإذا كان جولد زيهر ، وآثر جيفرى المبشر الإنجليزى ، وجان بيرك قد أجهدوا أنفسهم فى أن يتخذوا من قراءات القرآن منفذًا للانقضاض عليه ، والتشكيك فيه ، فإن غيرهم من المستشرقين شهدوا للقرآن بالحق ، ونختم ردنا على هذه الشبهة بمستشرق نزيه ، أثنى على القرآن وقال إنه النص الالهى الوحيد ، الذى سلم من كل تحريف وتبديل ، لا فى جمعه ، و فى تعدد مصاحفه ، ولا فى تعدد قراءاته .  قال المستشرق لوبلوا :
[ إن القرآن هو اليوم الكتاب الربانى الوحيد ، الذى ليس فيه أى تغيير يذكر ] .  ومن قبله قال مستشرق آخر ( د . موير) كلاما طيباً فى الثناء على القرآن ، وهو : [ إن المصحف الذى جمعه عثمان ، قد تواتر انتقاله من يد ليد ، حتى وصل إلينا بدون أى تحريف ، ولقد حفظ بعناية شديدة ، بحيث لم يطرأ عليه أى تغيير يذكر ، بل نستطيع أن نقول إنه لم يطرأ عليه أى تغييرعلى الإطلاق فى النسخ التى لا حصر لها ، المتداولة فى البلاد الإسلامية الواسعة ، فلم يوجد إلا قرآن واحد لجميع الفرق الإسلامية المتنازعة وهذا الاستعمال الإجماعى لنفس النص المقبول من الجميع حتى اليوم ، حجة ودليل على صحة النص المُنزل، الموجود معنا والذى يرجع إلى ( عهد ) الخليفة المنكوب ، عثمان الذى مات مقتولا ] (17).

ــــــــــــ
(1) البرهان فى علوم القرآن ( 1/ 318 ) ، مرجع سبق ذكره .
(2) القراءات القرآنية تاريخ وتعريف ( ص 64 ) للأستاذ / عبد الوهاب الفصلى .
(3) التوبة : 128.
(4) القلم : 42.
(5) معانى القرآن للقراء (3 /177 ) .
(6) الفرقان : 48 .
(7) انظر : رسم المصحف (29 ) للدكتور / عبد الفتاح شلبى ، مكتبة وهبة .
(8) المذاهب الإسلامية (ص4) ، ترجمة د. محمد يوسف موسى .
(9) الأعراف : 48 .
(10) التوبة : 114 .
(11) رسم المصحف ( 30 ) ، مرجع سبق ذكره .
(12) الرعد : 43 .
(13) الحجرات : 6 .
(14) يونس : 5 .
(15) ينظر : البرهان فى علوم القرآن ، مرجع سبق ذكره .
(16) " مدخل إلى القرآن الكريم " ( ص 43 ) مرجع سبق ذكره .
(17) حياة محمد تأليف W . muir ص 33 نقلا عن : " مدخل إلى القرآن الكريم " . مرجع سبق ذكره ، ص 40 .