كان المساء قد بدأ يظلم. وكانت القرية الصغيرة الواقعة قرب الجدول البعيد ي غابة من الصنوبر قد برزت في ذلك الغسق الخاص بليالي الربيع الملأى بالنجوم، إذ زاد الضباب، وهو منبعث من الأرض، ظلال الأحراج قتاماً، وملأ الثغرات بغمام فضي أزرق … كان كل شيء ساكناً متأملاً، والقرية هاجعة في هدوء.
كانت رسوم الأكواخ التسعة داكنة تكاد لا ترى، تشع الأنوار هنا وهناك، وبين الفينة والفينة يسمع صرير بوابة، أو فجأة ينبح كلب ثم يسكت. ومن حين لحين كان يخرج من الغابة الهامسة من وسط الظلام شبح عابر سبيل أو فارس، أو عربة تجتاز مطرطقة. إنهم سكان قرى الغابة الموحشة ذاهبون إلى كنيستهم لإحياء عيد الربيع العظيم.
كانت الكنيسة على رابية جميلة في منتصف القرية. والجرسية القديمة عالية ظلماء.
وكان صرير أدراج الجرسية يرتفع كلما صعد عليها (ميخايتش) قارع الأجراس الهرم وفانوسه يتأرجح في الهواء كنجمة متألقة.
كان من الصعب على الشيخ العجوز أن يتسلق الأدراج. لم تخدمه ساقاه على ما يرام وعيناه قد أصابهما الكلال … إن شيخاً هرماً مثله كان يجب أن يأخذ راحته منذ زمن، ولكن الله عزوجل لم يشأ له ذلك. لقد دفن أولاده وأحفاده. ورافق كثيراً من الشيوخ والشباب إلى مثواهم الأخير وهو لا يزال حياً. كانت العيشة شاقة. وقد حيا عيد الربيع مراراً وتكراراً حتى لم يعد يستطيع أن يتذكر كم مرة انتظر الساعة المعينة على تلك الجرسية. والآن لقد شاء له سبحانه وتعالى أن ينتظر مرة أخرى.
ذهب الشيخ إلى فتحة في القبة واتكأ على الحاجز فرأى في الظلمة المحيطة بالكنيسة مقبرة القرية حيث تترامى الصلبان العتيقة بأذرعها المبسوطة، وكأنها تبسط حمايتها على القبور المهملة، وقد انحنت فوقها أغصان بضع أشجار عارية ـ هنا وهناك. وهبت مع النسيم رائحة براعم عطرة إلى (ميخايتش) حاملة بين ثناياها شعوراً من الكآبة توحيه النومة الأبدية.
ترى ماذا سيحل به بعد سنة؟ أسيتسلق مرة أخرى هذا العلو الشاهق تحت الجرس النحاسي، ليوقظ الليل الناعس برناته الصافية، أم سيكون ملقى هناك في زاوية مظلمة من المقبرة وعلى صدره صليب؟
هتف صوت مرتعش، صوت خادم الكنيسة العجوز منادياً ((ميخايتش يا ميخايتش)) ورفع نظارته إلى أعلى الجرسية مغطياً عينيه الملأى بدموع الكبر بيديه المرتعشتين. فأجابه قارع الأجراس ((ها هو ذا أنا. ماذا تريد؟)) وأسقط نظراته من قمة الجرسية واردف ((ألا تراني؟)).
((لا. لا أستطيع. أظن أن الوقت قد حان لقرع الجرس، ماذا تقول؟)) ونظر كلاهما إلى النجوم: ربوات من قناديل الله مضاءة في الفضاء. وتأمل ميخايتش قليلاً ثم قال: ((لا لم يحن الوقت بعد … إني أعرف تماماً … )).
كان يعرف حقاً. لم يكن في حاجة إلى ساعة، فإن نجوم الله كافية … السماء والأرض، والسحابة البيضاء المنسابة بلطف على صفحة السماء، والغابة الحالكة الهامسة، وحتى تجعد مياه الجدول في الظلام، كلها معروفة لديه … إنها قطعة من نفسه.
نهض الماضي البعيد متجسماً. وتذكر كيف صعد هذه الجرسية لأول مرة مع والده. يا الله، ما أبعد ذلك الزمان، ولكن ما أقربه أيضاً … رأى نفسه شاباً أشقر بعيون متوقدة، والريح ـ لا الريح التي تثير الغبار في الطرقات بل الريح التي تصفق بجناحيها الصامتين ـ تشعث شعره … تراءت له أكواخ القرية ضئيلة، وتباعدت عنه الغابة وبدت الساحة التي بنيت عليها القرية هائلة الاتساع لا نهاية لها.
ابتسم العجوز الأشيب عندما نظر إلى تلك الفسحة الصغيرة وهزّ رأسه … تلك كانت طريقه إلى الحياة، والشاب لا يرى طرفها الآخر. والآن ها هي ذي كأنما وضعت على كفه من أولها حتى تلك الزاوية البعيدة التي خيّل إليه بأنها ستكون مقره الأخير … ومهما يكن الأمر فالمجد لله! لقد حمل وقر الحياة بشرف وآن وقت الراحة. وخيل إليه كأنما الأرض الرطبة أمه تناديه … قريباً، قريباً جداً.
حان الوقت ونظر (ميخايتش) مرة ثانية إلى النجوم. ثم نزع قبعته ورسم إشارة الصليب. وقبض على حبال الأجراس. وفي لحظة جاوب هواء الليل صدى قرعة داوية، ثم أخرى، فثالثة، فرابعة … الواحدة تلو الأخرى مالئة ذلك المساء الهادئ بأنغام صاخبة فرحة.
وقف الجرس. وابتدأت الحفلة الدينية. وكان من عادة (ميخايتش) في السابق أن ينزل من الجرسية بعد قرع النواقيس ليقف في زاوية بجانب الباب لكي يصلي ويسمع التراتيل. وكانت هذه أول مرة خالف فيها عادته ومكث في الجرسية. خيل إليه أن الأدراج عديدة. وشعر بتعب كلي. فما كاد أن يقعد مكانه حتى اجتذبته أصوات الأجراس النحاسية المتلاشية في الفضاء وراح يفكر في ذهول. بماذا؟ لم يعرف … كانت القبة مظلمة وفانوسه يرسل ضوءاً باهتاً في ثناياها. ولم يزل الرنين متشبثاً بالأجراس المغمورة في الظلام. وبين حين وحين تصل إلى مسامعه من الكنيسة تمتمة ضئيلة من التراتيل. حركت رياح الليل الحبال الموصولة بألسنة الأجراس. وسقط رأس الشيخ على صدره مضطرب الفكر وقال ((ها هم يرتلون)) وتصور نفسه في الكنيسة يصغي إلى جوق من الأولاد، ورأى الأب نعوم الذي توفي منذ زمن قائماً بحفلة الصلاة، ومئات من رؤوس الفلاحين تسجد وتنتصب كسنابل القمح الناضجة في مهب الريح … ورسم الفلاحون إشارة الصليب … لقد رأى وجه أبيه الصارم، ورأى أخاه يصلي بحماس. ووقف هو أيضاً مزهواً بفتوته، مليئاً بأمل لا واعٍ من السعادة … أين كانت تلك السعادة؟ … توقدت أفكار العجوز لحظة وومضت بصور من حياته الماضية …
رأى بعين خياله أعمالاً شاقة وأحزاناً وهموماً … أين كانت السعادة؟ إن حفنة واحدة من المصاعب لتغضن الوجه الصبوح وتحني الظهر القوي.
هناك على الشمال وقفت حبيبته بين نساء القرية ورأسها محني بخشوع. يا لها من امرأة طيبة، فليكن مثواها النعيم! لكم قاست تلك المرأة المسكينة. عمق شاق وفقر دائم. إن الأحزان التي لا مفر منها في حياة المرأة ستذوي جمالها، وعيناها سيفقدان بريقهما، وسوف يجثم على وجهها محل الوداعة خوف دائم من مصائب غير منتظرة …
لقد مر كل ذلك ولفّه الماضي بين طياته. كانت الدنيا كلها لديه الآن محصورة في قبة الأجراس هذه، حيث تندب الرياح في الظلام فتحرك الحبال.
وبغتة سمع شخصاً يصرخ: ((ميخايتش يا ميخايتش هل نمت فوق؟)) فرد العجوز ناهضاً على قدميه ((ماذا؟ بالله! أصحيح إنني نمت؟ لم يحدث شيء كهذا من قبل)). وبيد سريعة خبيرة قبض على الحبال.
وكان حشد الفلاحين يعج في فناء الكنيسة كالنمل، والأعلام الموشاة بالذهب تختال في الهواء … دار المحتفلون دورة حول الكنيسة وسمع (ميخايتش) الهتاف ((قام المسيح من الأموات!)) فجاوب قلب العجوز بحرارة هذا الصراخ … وخيل إليه أن الشموع تشتعل أكثر بهاء، وإن الجموع أكثر حماسة، وكأنما الأعلام داخلتها الحياة. لقد جمعت الريح أمواج الأصوات وحلقت بها في الفضاء لتمتزج برنين الأجراس الداوية.
لم يدق العجوز الأجراس قط كهذا من قبل، وكأنما قد انتقل قلب الشيخ إلى النحاس الجماد فغنت الأجراس، وضحكت، وصعدت ضحكاتها إلى ربوات النجوم، ثم انسكبت على الأرض فياضة مرتعشة.
وتراءت الجرسية القديمة كأنها تنتفض وتهتز. وصفقت الريح بجناحيها على وجه قارع الأجراس العجوز وكررت ((قام المسيح!)).
نسي القلب الهرم حياته الملأى بالهموم. نسي قارع الأجراس أن حياته محصورة في هذه القبة الموحشة، وإنه وحيد في الحياة كجذع شجرة قديم صفته العواصف … لقد سمع أناشيد المرتلين وهي تعلو إلى السماء ثم تسقط ثانية على أرض الأحزان، وخيل إليه أنه محاط بأبنائه وأحفاده، وأنه يسمع أصواتهم، أصوات الشباب تمازج أصوات الشيوخ، كجوق يرتل عن السعادة والفرح اللذين لم يعرفهما في حياته … سحب الحبال، وسالت الدموع على خديه، وجعل قلبه يخفق بشدة، إذ تراءت له السعادة أخيراً.
أصغى الناس إلى النواقيس، وقال كل لصاحبه ((لم أسمع ميخايتش العجوز يدق ببراعة كهذه من قبل!)).
وفجأة رن الجرس الكبير بصوت متلجلج ثم صمت. ودقت الأجراس الصغيرة بتقطع ثم سكنت خجلى، لتصغي إلى الصدى الهائل الخفاق وهو يموت تدريجياً في الهواء.
سقط قارع الأجراس على المقعد، وتدحرجت دمعتان كبيرتان على خديه الشاحبين. ((اسمعوا أيها الناس، اصعدوا شخصاً آخر. لقد دق قارع الأجراس دقته الأخيرة)).