بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:43:22 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 947 0


    الخفقة الأولى

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : مي الحسني | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الخفقة الأولى

    كان الحديث قد تشعب بين ليلى وخالتها حين دلفت مها برفقة وفاء إلى صالة الاستقبال.. وقامت مها بتعريف الضيفتين ببعض.. ولمست وفاء حسن اللقاء وطلاقة الوجه من ربة البيت.. ولمست وفاء حُسن اللقاء وطلاقة الوجه من ربة البيت.. والتفت والدة هشام إلى وفاء بعد أن اتخذت مكاناً إلى جانبها حيث أنست فيها ذاك الجمال الهادئ تتوجه مسحة الحزن، وذاك الحياء الذي ينطق به محياها، فقالت:
    - لقد حدثني هشام عنك طويلاً وذكرك بما أنت أهل له.. كما أعلم مدى تعلق مها بك واعتزازها بشخصك وهذا ما جعلني أتوق للقياك.. وها هي الصورة تكتمل أمامي بهذا الإطار الرقيق الجميل.. فأهلاً بك.
    أحست وفاء بالتعبير يخونها فأجابت بكلمات متغثرة:
    - إنني أشعر بالسعادة تغمرني وأنا بينكم.. وألمس كل رعاية وحنان من كل فرد منكم.. وهذا يجعلني أحس بدفء العائلة معكم.. ولكم أنا شاكرة لله فضله، حامدة له نعمته.. لقد بذل الدكتور هشام يرعاه الله لاكثير وهو يوصلني إلى شاطئ الأمان والاستقرار.. وها أنا الآن أقر عيناً وأهدأ بالاً.. لقد كانت رحلة إلى الله ما زلتُ أحثّ الخطى فيها.. أوَليس العمر كله رحلة قصيرة بين محطتين!
    - صدقتِ يا وفاء.. وطوبى لمن تزود لهذه الرحلة وأعد لها عدتها.
    وتساءلت ليلى بمكر:
    - ما الذي كنت تشكين منه يا وفاء حتى لجأتِ إلى هشام للعلاج؟
    - كانت حالة من التعب النفسي والفكري احتجتُ فيها إلى يدٍ أمينة تنتشلني من ذاك الضياع الروحي بعد أن سدّ اليأس كل منافذ الرجاء في ذاتي وتيقنتُ أنني صائرة إلى الهلاك لا محالة.. فهيأ الله جلت قدرته لي ذلك على يد الدكتور هشام.
    فردت ليلى بخُبثٍ مُبطّن:
    ولماذا لم تلجئي إلى مستشفى الأمراض العقلية والنفسية وتمكثي هناك طلباً للعلاج؟
    شعرت وفاء بطعنةٍ قاسية أصابت قلبها وروحها.. وجالت في مقلتيها دموع حائرة وهي تتطلع إلى مها بلوعةٍ صامتة ونظراتٍ حزينة..
    وأدركت أم هشام قسوة الموقف ومدى الجرح الذي أصاب وفاء وهي في بيتها وضيافتها فتطلعت إلى ليلى بغضب:
    - ما الذي تعنيه بقولك هذا يا ليلى؟ وهل كل مَن يقصد الدكتور هشام للعلاج بحاجة إلى مستشفى الأمراض العقلية؟ هذا هراء.. وهل نسيتِ أنت الفترة التي خضعت فيها للعلاج على يديه بعد الأزمة النفسية التي تعرضتِ لها؟ .. إن هذا مُناف للذوق ومخالف للأصول كما أرى!
    تملك وفاء الحرج إزاء ما حدث ورأت أن تتدارك الموقف بحكمة، فنهضت تقول:
    - أرى أن الوقت أدركني يا خالتي وأنا مضطرة للانصراف.. ألتمس منك العذر وأشكركم.. أستودعكم الله.
    وعند الباب عانقتها أم هشام بحنوٍ وحب وشدت على يدها قائلة:
    - أنا بانتظار زيارة أخرى يا وفاء.. وسأكون سعيدةً جداً بذلك..
    وقبل أن تفتح وفاء الباب وصل الدكتور هشام فعاجلته أمه:
    - هيا يا هشام.. أوصل وفاء إلى بيتها ولتكن مها برفقتكم.. في أمان الله.
    * * *
    علم هشام بما حدث عصر ذلك اليوم فآلمه الأمر أيما إيلام.. فهو يدرك رهافة الحس لدى وفاء، ويكاد يتلمس عميق الجرح الذي سببه حديث ليلى معها.. بات يحس بمسؤوليته تجاهها ويعترف أمام نفسه بعميق اهتمامه بها وحرصه على راحتها.. ويود صادقاً لو يبذل كل ما في يديه من أجل إسعادها.. فكيف تُجرح وهي في بيته، وكيف تُهان وهي في حمايته!
    إن ليلى طائشة متهورة دفعها الحقد وربما الغيرة إلى هذا الموقف الأهوج.. وسيطلب من مها أن تقدم الاعتذار لها نيابة عنه..
    وجد نفسه بحاجة إلى سطورها بدفء معانيها وحلاوة عباراتها ورشاقة ألفاظها.. إلى السيل المتدفق من الرقة والعذوبة والحنان فامتدت يده إلى مجموعة كتاباتها واستوقفته سطور استسلم لندائها:
    (رُويدك أيها الليل.. أما يستطيع مداك البعيد أن يحتوي أحزاني وأشجاني.. أما يستطيع صمتك الموحش أن يُسكت أنّة الألم في قلبي؟ .. أما تستطيع أنت بكل ما فيك من عظمةٍ ورهبة أن تمسح دفق الدموع من عيني؟..
    رُويدك أيها الليل.. أما ترى جفاف أيامي وكآبة ساعاتي؟ خذني إلى صدرك فقد أقفرت دنياي.. ضُمّني إليك فأنا أشعر بالخواء يملأ روحي والمرارة تلون كل ما حولي.. أجد العذاب ينهشني فهل تفهم العذاب أيها الليل؟.. هل ذُقتَ طعم لوعته؟.
    يمتزج فيك الخوف والحب بشكل فريد.. أهاب ساعاتك يهدّني فيها السهاد ويضنيني الأرق.. أرهب صمتك يجسد لي الوحدة والوحشة وأنا بحاجة إلى مَن يُهدهد هذا القلب ويناغيه ويناجيه.. أخاف منك أيها الليل إذ تغفو العيون وتسهر عيناي.. وتهجع الأجساد وأتقلب بين يديك كطير ذبيح لا يُدركه الردى فيستريح ولا هو يبرأ من جراحه فيطير.. أخشى نواح الريح تصفر بين جنباتك وكأنها موكب جنائزي يشيع شباباً ذوى وربيعاً انتحر..
    حبيب أنت إليّ أيها الليل.. تسمع شكواي ولا تملّ وأذرف بين يديك غزير الدمع ولا تضجر.. أبثك لواعج هذه النفس فترنو نجومك إليّ بحنو وإشفاق.. فهل تسمعني أيها الليل؟..
    قلبُ طفل هذا الذي يخفق بين جوانحي تُقنعه البسمة ويرضيه القليل.. قلب طفل هذا الذي تحتضنه أضلعي لم يعرف الحقد ساعةً ولا وجد الكره إليه سبيلاً.. قلبُ طفلٍ هذا الذي أحيا به فمتى يشب هذا الطفل ويكبر..
    طويلة معاناتي أيها الليل.. فهل هناك مَن يُدرك سرّ هذه المعاناة، وهل هناك مَن يعلم بالمرارة التي تتفجر في أعماقي؟..
    إستمع إلى صدى نجوى حزينة تتكسر بين طيات ظلماتك أيها الليل.. تطلع إلى دموع تحجرت في مآقٍ أرهقها السهاد وحرّقها فيضُ المدامع أيها الليل..
    لماذا يشتد أوار المعاناة في روحي كلما تمطت ساعاتك؟ وأي ألمٍ هذا الذي يعتصر كياني ويصهر في حممه قلبي.. يسحقه.. ثم.. ثم أجمع بقاياه الضائعة في قارورةٍ عطرٍ أهديها – فيما بعد – بسمةً إلى شفاهٍ حزينة!)..
    أحس الدكتور هشام بهذه الشاعرية الساحرة التي ينطق بها الليل والتي جسدتها عباراتُ وفاء.. وأدرك مدى العمق الذي تستشعره نفس ملهمة كنفس وفاء لهذا الليل.. فلطالما ناجته وبثته لواعجها وسكنت إليه وسكبت على صدره عبراتها.. أوَليس هذا الليل أنيس كل حزين وسمير كل مسهد ورفيق كل مسافر ونجوى كل ذي حسٍ مرهف..
    تقدم نحو النافذة المطلة على حديقة الدار.. أسند رأسه إلى قضبانها وترك النسمات الباردة تعبث بإحساسه ومشاعره وعواطفه.. السكون يلفّ المكان.. والصمت يرسم بريشته المرهفة ظلالاً من الشفافية والرقة..
    النجوم تطرّز صدر الليل بتألقها وجمالها.. والقمر يبدو شاحباً وهو يودع لياليه المقمرة..
    شعر الدكتور هشام بوجيب قلبه بين أضلاعه لأول مرة.. وها هو يضيف لليل بُعداً ثالثاً.. فلقد كان ـ قبل الساعة هذه الوقت المفضل للمطالعة والكتابة.. ثم هو محرابه الأثير تذوب عنده بين يدي خالقه روحه بين صلاة ودعاء وابتهال.. وها هو الآن مرآة صافية للتأمل والإحساس بالجمال.. ومسرح شاعري للخيال المتدفق والأحلام المتوثبة..
    العمق.. الغموض.. المدى البعيد.. الجلال والجمال.. سمات لعالمين ساحرين فاتنين طالما رحلت وفاء بقلمها إليهما عبر السطور وأفرطت في مناجاتهما: الليل والبحر.. ولكل منهما سحره وروعته وجلاله.. وها قد ارتشف من سحر الليل بكأس روية مترعة وهو بحاجة إلى الكأس الأخرى يروي بها ظمأه.. إلى البحر ومناجاته..
    وصار يقلب الصفحات من جديد بحثاً عن سطور تدنيه وتقربه إلى هذا العالم الجميل.. وكأن السطور تناديه تشده إليها وهو يستسلم لإغرائها باختياره وينجذب إلى ندائها بارادته..
    لاحت له صفحة عليها بقايا قطرات جفت لم يتبين حقيقتها فدفعته اللهفة إلى كشف سرها ومعرفة كنهها فوجدها تنطق:
    (أيُ حراب للألم أنت أيها البحر؟ .. يا مَن إليك طال شوقي وطال في بُعدك اغترابي.. تحنن على هذا الوجود الممزق أيها البحر.. واحتو في موجك الصاخب صخب عذاب أيامي.. خُذني إلى عنفوانِ الموج هذا في ظلامِ الليل هذا..
    أذوب وجداً بين أمواجك وشوقاً وولهاً.. أفلا يشفع لي كل ذلك عندك؟ .. فأمسح برذاذك الحبيب هذا دموع وجلي واضطرابي..
    تأسرني هذه الفتنة الطاغية النائمة بين أحضانك.. تلهب فيّ الشوق.. تُذكي بين جنباتي الحنين.. تشدني إليك.. تناديني.. وتلح في النداء..
    هيجان موجك للعيان ظاهر.. وهدير صخبك يهزّ الأسماع.. وهيجان الألم وطوفانه في أعماقي خفي صامت.. صامت.. لا يترجمه إلا طوفان الدموع هذه في صمت الليل هذا..
    لا تهزأ بهذا الدمع أيها البحر.. لا يستفنك تدفقه .. لا تقل أين موضع قطرات دمعٍ من أمواج بحرٍ زاخرٍ هادر .. لا تُعرض عن دموعي أيها البحر بل احتوِ ضعفها بقوتك وعذابها بحنانك وحرمانها بفيضك..
    وتعانقني أطرافك.. تقبلني قطراتُك.. أتحسس دِفئها وحلاوتها على وجهي.. تزيدني إليك حنيناً وولهاً.. أفما ترى كيف يمتزج الدمع ورذاذك على السطور أيها البحر؟ .. فهل هفت قطراتك إلى جدب السطور؛ أم هي أشفقت على هذه الدموع فأرادت عناقها؟!.
    إسرق من عمري لحظاتٍ ترتمي بين يديك أيها البحر.. لا أدري أأنشد السعادة أم الوهم.. الواقع أم الخيال .. الحقيقة أم الحلم؟! وكلها هي عندك .. فاجعل لي في قلبك الكبير ركناً قصياً آوي إليه هرباً من ذاتي ..
    هو ذا قلبي لك أيها البحر مقفرة جوانبه .. خاوية عروشه .. أسير للوحدة .. نهب للشجن .. غريب في دنياه .. غريب في عالمه ..
    فهل من يدٍ تمتد إليه فتحيي القفر في جوانبه .. وتملأ الخواء فيه .. وتبعد شبح الغربة عنه .. وتمسح الشجن عنه .. وتعيد الحياة إليه ..
    وهل يطول انتظاري أيها البحر؟).
    وحانت من الدكتور هشام التفاتة نحو الساعة التي تصدرت الجدار أمامه فألفاها جاوزت الثانية بعد منتصف الليل.. فجمع الأوراق وأودعها مكتبه، ثم توجه إلى حيث يتوضأ لقيام الليل..
    * * *
    بقايا الدمع ما زالت عالقةً بأهدابٍ وفاء وهي تذرع الغرفة جيئةً وذهاباً وأنفاسها تزداد سرعةً واضطراباً.. لم يكن باستطاعتها مقاومة شحنة الانفعال في أعماقها والألم في صدرها.. كل ما في داخلها يضطرب يموج .. يتفجر .. تقاوم تارة وتستسلم أخرى .. تقنع تارة وتسخط أخرى..
    أرخت جفنيها في دعة واحتوت رأسها بكفيها في إذعانٍ وراحت تتساءل بصوتٍ مسموع وكأن هناك مَن ينصت إليها ويستزيدها:
    لماذا؟ .. نعم لماذا؟ .. أحاول أن أنسى فيأبى الزمن أن يترك لي حتى فرصة النسيان .. أحاول أن أهرب من وجعي وحزني فيتراءى لي الألم ساخراً هازئاً شامتاً .. أحاول أن ألتمس إلى العزاء سبيلاً فتأبى عليّ الدنيا حتى معنى الهروب!.
    ما لي كلما لملمتُ الجُرح بعد الجرح هبت ريح عاصفة ففتحت الجراح كلها؟! .. ما لي كلما قلتُ أنني أدركت شاطئ الأمان ومرفأ السلام ادلهمت السماء وأرعدت وزمجرت فضلّ قاربي ولفت الحيرة روحي..؟! ما لي كلما حاولت نسيان الخِصام بيني وبين الدنيا ومددتُ لها يدي وفتحت لها صدري قلبت لي ظهر المجنّ وطعنتني من حيث لا أرتجي؟! ما لي كلما قلت للهموم وداعاً وللفرحة أقبلي ترددت ضحكة هيسترية ساخرة تهزأ بي؟! .. ما لي .. وأحست وفاء بدُوارٍ شديد يحجب الرؤيا أمامها.. بدا كل ما حولها يتأرجح.. يترنّح ..
    أسندت رأسها إلى الجدار وتطلعت بلوعةٍ نحو النافذة .. القمر ينحدر عبر المغيب وقد اختنق نوره .. والنسمات العذاب تتسلل إلى أغوار النفس البعيدة .. رفعت عينيها إلى السماء وهتفت من أعماقها: يا رب .. وراحت تنصت إلى صوت عزيز يدعوها:
    (أنتِ بحاجة إلى أقراصٍ من الإرادة وخُزانتها ذاتك.. وأنت بحاجة إلى حُقن من العزم ومصدرها روحك.. وأنت فوق كل ذلك بحاجة إلى الإيمان فهو المعين الذي لا ينضب وعنده يجد كل ظامئ ما هو بحاجة إليه من الصبر والأمل والرجاء) ..
    وشعرت بجلاميد التوتر والعذاب والحزن تذوب .. تتلاشى .. وافترت شفتاها عن ابتسامةٍ ندية كبوح الفجر أضاءت وجهها وروحها وقلبها ..
    ثمة سؤالٍ ظل يتردد في خاطرها ويلح عليها ..
    ترى لماذا ينظر الناس إلى الطب النفسي نظرةً تختلف عن مثيلتها للطب العضوي؟ أفلا يمرض الكبد أو المعدة وتصاب الساق أو اليد؟ .. فلمَ الخجل والحساسية المفرطة إذا ما مرضت الأعصاب أو أصيبت نفس الانسان بخللٍ أو إجهاد! .. لماذا لا يتردد المريض في التوجه إلى طبيب الأمراض الباطنية والقلب؛ ويتردد في التوجه إلى العيادة النفسية؟
    متى ينكسر الحاجز النفسي بين الناس والطب النفسي فلا يعود هناك حرج في زيارة المريض لطبيب الأمراض النفسية، ودون أن يقترن ذلك بفكرة إصابة المريض بخلل عقلي أو لوثة جنون!؟.
    إن ذلك يقع على عاتق الأطباء أنفسهم.. فعليهم أن يصححوا المفاهيم الخاطئة بالتوعية الصحية السليمة القائمة على ركائز علمية طبية صحيحة..
    وابتسمت وفاء من جديد حين وجدت نفسها تصل إلى درجة الاقتناع هذه بالعقل والتفكير المتزن.. ولتصل إلى درجة أعلى من الاطمئنان والرضا..
    نهضت وهي تردد: وهل يُرتجى غيث بدون سحاب.. وتوجهت للوضوء إلى حيث صلاة الليل والتهجد

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الخفقة الأولى

    تعليقات الزوار ()