بتـــــاريخ : 11/5/2008 6:32:14 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1567 0


    شيء يجنن!

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : يوسف إدريس | المصدر : www.balagh.com

    كلمات مفتاحية  :
    قصة شيء يجنن

    لست في حِلّ من ذكر اسم المدينة التي يوجد فيها ذلك السجين العمومي، فالقصة لم تصبح بعد حكاية ولا تزال في حكم الخبر الذي يتناقله النزلاء وموظفو السجن وأقارب هؤلاء وأولئك. وعلى أية حال فالسجون العمومية ليست كثيرة والحمد لله، بالكاد يوجد منها سجن في عاصمة كل مديرية مخصص للمحكوم عليهم بالحبس أو السجن من المديرية نفسها وما يحيط بها من مراكز أو محافظات.
    والبداية مثل فرنسي يقول فتش عن المرأة، ولكننا لن نجد امرأة واحدة في ذلك السجن العمومي فهو من النوع المخصص للرجال، والأنثى الوحيدة المسموح لها بالتجول في أنحاء السجن ليست امرأة ولكنها كلبة، أو على وجه التخصيص كلبة المأمور. وللمأمور في أي سجن عمومي منزل مقام داخل السجن لا تستطيع أن تفرقه عن بقية بناياته من الخارج ولكنه قطعاً فاخر المنظر من الداخل، ويحتل في العادة مكاناً قريباً من المدخل، وله باب خاص ولكنه محوط بالسور الرهيب الذي يحيط بالسجن من كل جانب.
    ورغم أن (ريتا) –وهو اسم الكلبة- كانت تتمتع في السجن بحرية تحسد عليها، إلا أنها ظلت سيئة الحظ لفترة طويلة، لا لأنها الحيوان الوحيد الذي يحيا في مكان كل ما فيه من البشر ولكن لسبب آخر، فكونها في بيت المأمور داخل السجن كان يمنعها منعاً باتاً من الاختلاط ببني جنسها من الكلاب في الخارج، وبالذكور منهم خاصة. والظاهر أن المسكينة بعدما تعلقت بأهداب الصبر فترة طويلة لم تعد في النهاية تستطيع، وبدأت تفقد السيطرة على نفسها وأعصابها، وساءت أخلاقها، وأصبحت مصدراً لشكوى لا تنقع من السيدة الشابة زوجة المأمور التي كانت تصغره بخمسة عشر عاماً على الأقل. مرة تهاجم النملية وتبعثر محتوياتها وتدلق صفيحة السمن على الأرز، ومرة ترفض الطعام ويظل لعابها يسيل بلا سبب واضح، وليالي بطولها تمضيها في عواء غريب كأنها قد انقلبت ذئبة، وأحياناً تضبط في حالة استكافة غير لائقة لمداعبة أحد المساجين، وأخيراً ذلك اليوم الذي هبهبت فيه بشدة في وجه الولد الصغير حتى اصفر من الهلع، وحتى اقترح المسجون العجوز الذي يخدم في البيت أن (يرشوا) له في المكان الذي روع فيه. في ذلك اليوم بالذات أصرت الزوجة الشابة على أن يختار المأمور بين أحد أمرين: إما أن يتخلص من الكلبة بالتي هي أحسن، وإما أن تترك له البيت والسجن بأسره. والمأمور مع أنه كان رجلاً شديد التدين أسمر البشرة سميناً ذا لغد و(شامة) دائرية في حجم القرش تحتل وجنته اليمنى، إلا أنه كان شديد التعلق بريتا ربما لأنها من النوع الأصيل الذي كان يعتز المرحوم والده بتربيته (ووالده كان هو الآخر مأمور سجون، وتعلّم هواية تربية الكلاب من رئيسه الانجليزي أيام كان الانجليز هم الرؤساء في كل شيء حتى في السجون) شديد التعلق بها إلى درجة كانت تدفعه لمناقشات بالغة العمق مع واعظ السجن حول نجاسة الكلاب وأين تكمن بالذات نجاستها، مناقشات كادت تدفعه لإيثار مذهب الإمام مالك على أبي حنيفة الذي يتبعه، لأنه سمع أنه مذهب في بعض الروايات يبيح تربية الكلاب إذا كانت للحراسة.. ومن تحصيل الحاصل أن نقول إنه كان أيضاً شديد التعلق بزوجته الشابة، ولا يمكنه بأي حال أن يفرط فيها. كل ما حدث أنه رأى أن المشكلة لا تستدعي أياً من الحلين، وحلها واحد لا غير .. أن يعقدوا الكلبة على كلب. وكان باستطاعة ريتا أن تحصل على عشرات الكلاب الذكور بحركة واحدة من ذيلها فقط لو فتحوا لها باب السجن وتركوها تجرب حظها بالخارج، ولكن المأمور كان لا يمكن أن يسمح لها بهذا العبث لخوفه أن يتلوث نسلها من ناحية، ولأنه كان يتمنى لو استطاعت ريتا أن تنجب ذكراً من أب أصيل حتى يستعيض بابنها عنها، إذ كان وجودها وهي الأنثى داخل السجن الرجالي الذي تتجول فيه كما يحلو لها قد بدأ يقلقه ويحس أنه وضع لا يمكن أن يرتاح إليه مأمور حمش مثله.
    كان على ريتا إذن أن تبقى رهينة المحبسين (سجنها وحرمانها) حتى يقدر لها أن تظفر بكلب يعطيها نسلاً أصيلاً معروف النسب.
    وشاء حظها الحسن ألا تبقى هكذا طويلاً، فقد كان بالسجن موظف محكوم عليه في اختلاس اسمه فوزي واسمه المشهور به في السجن فوزي بك، وكان يعامل معاملة حرف ألف ويمضي طول النهار يتنقل بين مكاتب الموظفين بقامته الفارعة النحيفة وبدلة السجن التي فصلها له ترزي ونظارته السميكة، ووجهه المسحوب الطويل طولاً لا حد له حتى يكاد الناظر إليه يعتقد أنه إذا ابتسم لابد أن يبتسم بالطول. وكانت عائلة فوزي بك هذا تأتي لزيارته زيارة خاصة مرة كل أسبوع تتم عادة في غرفة المأمور الذي كان ولوعاً بحضورها وبالاشتراك في أحاديثها ولو كانت عائلية أو خاصة، وبانتهاز الفرصة كلما سنحت الفرصة لقرص ابنة فوزي بك الكبيرة ذات الستة عشر عاماً في خدها، وخدها كان يشبه التفاحة شكلاً، ومن المؤكد أنه كان يشبهها طعماً. في زيارة من تلك الزيارات جاء كلب ضخم من نوع (الوولف) مع العائلة، ومن لحظة أن وقع نظر المأمور عليه أدرك أن ريتا قد حلت مشكلتها وأنه عثر لها أخيراً على فارسها. وبالمناسبة كان الكلب اسمه فارس، وإذا كانت الكلاب تقاس بما فيها من كلوبة فقد كان من الواضح أن فارس يتمتع بقدر وافر منها. وما كاد المأمور يعرض الأمر على فوزي بك حتى أنه لم يوافق فقط، ولكنه أخذ يكيل للمأمور عبارات الثناء المنمقة على (بالغ عطفه) و(عظم تواضعه) وتنازله بإسناد هذا الشرف إلى كلبه المتواضع..
    وهكذا بعد الزيارة أخذوا (فارس) إلى مخزن الملابس والمهمات ليحتجزوه حتى يحضروا ريتا. وكان المخزن حافلاً بكوام الملابس الجديدة والمستعملة والكهنة، ولابد أن الكلب أخذ يسلي نفسه بالقفز فوقها والتطلع من نوافذ المخزن العالية، إذ بعد قليل سمعه النزلاء والحراس ينبح نباحاً شديداً ويحاول دفع رأسه بين حديد والنوافذ ليغادر المخزن. ولا يعرف أحد للآن على وجه الدقة ماذا رآه الكلب بالضبط وأثاره، فالمخزن كان يطل من جهته الخلفية على فناء السجن الداخلي حيث كان المسجونون حرف ب في حالة (طابور) أي في حالة فسحة. ربما مشهد المئات منهم ببدلهم الزرقاء ذات السراويل التي تقصر أحياناً فلا تكاد تصل إلى الركبة وتطول أحياناً حتى تجرجر على الأرض، والتي يبدون فيها على هيئة بشعة تكاد بشاعتها تبعث على الضحك، أو ربما تكون (الزيارة من خلال السلك) تلك التي يقف فيها مئات الأهالي في ناحية وعشرات المساجين في ناحية أخرى ويحشد كل منهم طاقته في صوته ليصرخ ويشتاق ويسلم لتصبح الزيارة مظاهرة مجنونة حافلة بالأيدي المشوحة والاستغاثات والدموع، ربما هو مشهد الخارجين للمحاكمة الجالسين القرفصاء ببدلهم القذرة على الأرض في تشابه لا تكاد تميز فيه شخصاً عن شخص ولا بدلة عن تراب، ربما هو الجو العام للسجن الذي يطبع كل شيء بطابع غريب مرير ويبدو فيه المساجين آلافاً من البقع الزرقاء والبيضاء المنتشرة كالجراد البشري مرصوصة على الأرض تقطع الطوب، متعلقة بالحيطان تطليها وخالعة ملابسها تسلك المجاري وسائرة اثنين اثنين وبين كل اثنين جردل فيه ما فيه من ماء أو (يمك) أو قاذورات. أو لابد أن التي أثارت (فارس) هي القضبان .. في كل مكان قضبان وكل شيء بينك وبينه قضبان .. بعض الناس قالوا إن الذي أفقد الكلب صوابه كان منظر أرغفة عيش السجن. وقال آخرون بل هو إحساسه أن الباب أغلق عليه وأصبح أسير الجدران. المهم أن الكلب ظل نباحه يرتفع ولا يترك فرجة في المكان إلا وجرب فيها نفسه وجسمه حتى زرق من خلال فتحة التهوية في المخزن، وقفز المسافة الكائنة بينه وبين دور تسعة، ومنه إلى سور المسجد، إلى الخلاء. وحدث هذا قبل أن ينتبه أحد، بل دون أن ينتبه أحد .. فالحقيقة أنهم لم يكتشفوا هربه إلا حين ذهبوا يفتحون باب المخزن وقد أحضروا ريتا.
    هاج المأمور طبعاً، وكادت الشامة اللاصقة بوجنته تقفز غضباً وتخترق عين السجان الذي ذهب يبلغه بما حدث. وأسرع فوزي بك يعتذر عن تصرف كلبه ويعد بإنزال العقاب به وتوصية الأسرة بحرمانه من الطعام. وظل طوال الأسبوع كلما قابل المأمور يعتذر، حتى حان موعد الزيارة التالية، وجاء الكلب مع العائلة، ونبه المأمور زيادة في الاحتياط بأن يحجز الكلب في إحدى الزنازين الانفرادية التي يوضع فيها كبار المجرمين إذا عصوا أو أذنبوا، وخصص لحراسته أرذل سجان في العنبر. ولتسهيل المهمة أكثر وضعت ريتا في الزنزانة هي الأخرى حتى لا يضيع الوقت في البحث عنها. وأخذ فارس بعد الزيارة من صحبة العائلة إلى الزنزانة حيث أدخل فيها بخدعة وأغلقوا عليه الباب، ووقف السجان يراقبه من خلال (العين) الموجودة في الضلفة. وما كاد الباب يغلق على الكلب، ويدرك أنه أصبح سجين جدران أربعة حتى راح يهبهب دون أن يعير ريتا أقل انتباه وكأنه لا يراها، ثم تحولت هبهبته إلى عواء، وما لبث السعار أن انتابه فمضى يقفز ويجري في اتجاه النافذة وينشب أظافره في الضلفة ويخربش الحائط، بينما علا نباحه حتى كاد يصم الآذان. وكلما أوغل في محاولاته انكمشت ريتا على نفسها وانكمشت واضعة ذيلها بين فخذيها محتلة من ركن الحجرة القصي أصغر مساحة يمكنها أن تحتلها، تاركة بقيتها لهذا البركان الهائج. ظل الشاويش يراقبه منتظراً أن يعقل ويهدأ بلا فائدة، كلما كان الوقت يمتد كان سعاره يزداد والزبد الذي حول فمه يتكاثر. وجرى الشاويش بالأخبار إلى المأمور، وسبه المأمور قائلاً إنه هائج لأنه لابد جائع، وأمره بأن يقدم إليه ثلاث قطع كبيرة من اللحمة التي يأكل منها المساجين، وعاد الشاويش مهرولاً لينفذ الأمر غير أنه ما كاد يفتح الباب ليلقي اللحم حتى فوجئ بقفزة هائلة من الكلب وثب فيها على أكتافه وألقاه أرضاً وبقفزة أخرى كان قد أصبح خارج العنبر، وبثالثة كان قد أصبح خارج السجن ومضى يجري ويجري مبتعداً لا يلوي على شيء.
    ولم تكن السقطة وحدها هي كل الجزاء الذي حل بالشاويش، فقد أقسم له المأمور بشارب أبيه أنه لن ينساها له، وأنه سينتهز أول فرصة وينقله إلى سجن الواحات. بل شمل غضب المأمور فوزي بك نفسه، واستمع الرجل للتأنيب وهو صاغر، وحاول أن يعتذر فرفض اعتذاره، ولم يسمح له المأمور بفرصة إلا أن يرسل في طلب الكلب فوراً وإلا كان ما كان.
    وأرسل أحد السجانة إلى منزل عائلة الرجل ليحضر الكلب المارق. ولكنه عاد يقول إن الكلب لم يعد بعد، وإن العائلة تقضي وقتاً عصيباً في انتظار عودته. وأرجعه المأمور إليهم ليخبرهم بأن عليهم إحضار الكلب متى عاد وفي أي ساعة يعود ولو كان في منتصف الليل. ولم يعد الكلب للعائلة إلا بعد انقضاء يومين يبدو أنه ظل تائهاً فيهما في المدينة، وخضوعاً للأوامر أحضروه وكانوا قد استعدوا له هذه المرة، فأمر المأمور بإدخاله حين حضوره مع ريتا في الفناء الداخلي لسجن التأديب، وهو فناء تحيطه الزنازين من كل جانب، وسقفه مصنوع من القضبان، وبابه من حديد وقضبان أيضاً ولا يمكن أن يهرب منه أبداً. وكان على الكلب أن يبقى مع ريتا في هذا الفناء حتى يتم كل شيء على أن يقدم لهما الطعام والماء خلال المسافات الكائنة بين القضبان ثلاثة عساكر بالبنادق، على رأسهم شاويش التأديب المعروف بقسوته وجرأته.
    وتم كل شيء تماماً وفق ما أراد المأمور، ولكن الكلب بدا كأنه فقد عقله نهائياً هذه المرة، فقد قضى يوماً بطوله ينبح ولا يكف عن النباح، وفي الليل لم يدع أحداً يغمض جفنه لا في فناء السجن ولا في بيت المأمور، وقرب الفجر أحس الديدبان بحركة في سقف فناء التأديب، وقبل أن يصرخ ويقول (م اللي هناك) كان الكلب قد أرغم جسده على المروق بقوة جبارة من خلال المسافة الصغيرة الكائنة بين حديدتين، وفي ومضة كان يقفز من سقف إلى سقف إلى خارج السجن.
    ولم يعد لمنزل العائلة لا ليلتها ولا ما تلاها من أيام وليال، وبحثوا عنه في كل مكان فلم يجدوه أبداً، كان بلا ريب قد غادر المدينة كلها إلى غير رجعة

    كلمات مفتاحية  :
    قصة شيء يجنن

    تعليقات الزوار ()