بتـــــاريخ : 11/19/2008 8:40:20 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1234 0


    الكرســــــي

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : منال فياض | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الكرســــــي منال فياض

    أيقظتني عصافير الدوري فوق غصون شجرة التوت اليابسة خلف نافذتي. أخذت نفساً قوياً حتى امتلأ صدري بهواء الفجر. الوقت مازال باكراً رجعت للنوم ثانية لأنهض عند الظهيرة شعرت بالاشمئزاز لأن أقول دائماً (أبشع منظر في الدنيا صورة رجل نائم حتى الظهر. وأحلى ما في الدنيا.. طفل نائم وقت الظهر). وقفت طويلاً أمام المرآة معجبة بنفسي. ومن خلفي الشجرة الميتة تظهر في المرآة أيضاً، جسدي سيهترئ. ولكل شيء مصير. كل المناظر الرومانسية في الغرفة تأمرني أن أبدأ بالشعور الجميل. ولكن الوقت طويل ومازال لدي وقت كاف لحب عظيم.‏

    فنجان القهوة الصباحي لم يشبع رغبتي في احتساء فنجان آخر في الهواء الطلق اليوم عطلتي في الجامعة. اتصلت بصديقتي الوحيدة ودعوتها للفطور في مكاننا المعتاد في مقصف يطل على البحر لكنها اعتذرت بسبب سفر زوجها المفاجئ.‏

    ركبت سيارة أجرة. أرقب بعيون ذابلة الناس بأعمارهم المختلفة يهرولون في مسيرة دائمة عشوائية لا تنتهي. لوائح الإعلان الصارخة بكلمات كبيرة.. كل لائحة تجارية وطبية تصرخ بسكان الأرصفة أن يدفعوا.‏

    وصلت إلى حارة أقل ازدحاماً شوارعها نظيفة والنظافة هكذا تخيف. الأرصفة أيضاً يغطيها بلاط حجري. الإعلان الأخير شد فضولي، فنزلت من السيارة، فجأة مشيت خطوات قليلة نحو بناء عريض يشعر بالرهبة، يحيط به خضار الشجر من كل الجهات. ومن بين الورق الصغير يظهر لونه الأبيض اللامع مبهراً للنظر. دخلت الباب الواسع وبدأت المشي في طريق بنيّة ضيقة جداً يكللها شجر السرو على جانبيها. بدأت الغناء بهمس ناسية أنني لم أعد طفلة. الطريق تنسي المرء عمره عندما يصير في أعماق الطبيعة الخالدة بعيداً عن ضجة المدينة والسعي وراء لقمة العيش والغياب الدائم في عتمة العيادات والمستشفيات.‏

    انتهت الدرب بجنة واسعة أزهار عباد الشمس البرتقالي بحجمه الكبير تحيط بتمثال ضخم لطفل من البرونز الأسود يمد يديه الفضيتين في الهواء بلهفة لحضن أم غائبة عن الوجود ومن بين فخذيه يخرج خيط من الماء ليصب في بركة صغيرة.‏

    وقبل أن أدخل في الباب الضيق وصل إلى سمعي صوت موسيقا كلاسيكية. رجال يصرخون مع صوت فرقعة أصابع أصوات أطفال أيضاً... تهدأ الموسيقا حتى تغيب ويخرج صوت امرأة ليهدئ من صخب الصراخ، جف لعابي... دفعت نفسي إلى الفسحة الواسعة كعب حذائي أسمعه يرن فوق بلاط الرخام. هدوء اشتعل فجأة ليملأ المكان بقوة الإيقاع. إيقاع يحكي حكاية شعب قديم لدرجة أنني رأيت أحصنة تصهل. وقلعة حجرية. أب يقتل.. أم محمرة الوجه فوق تنورها.. رجال بعيون زرقاء. صليب يكسر.. صليب يعمر.. صرح يبنى. قبر يهدم من أجل جثة أخرى.. تفجر قلبي.. وبالكاد جمعته لأكمل رحلتي مع اللوحات التشكيلية المعلقة على الجدران.. أحتاج ساعات كي أنهيها بالتأمل والتفكير.. الواقع مع الروح الحالمة وفي اللوحة الأخيرة التي أوقفتني لتحمل بين جفني دمعتي قلق انجذب نظري إلى الكرسي الرمادي المائل إلى الصفرة الداكنة. وفوقه رجل مرسوم بالأبيض يذوب كشمعة أشعر بأنه سيتلاشى بعد دقائق. الرجل الثلجي يتململ مع الموسيقا يتحرك فمه بشكل منحنيات.. أخفضت نظري وقبل أن ألقي نطرة أخيرة.. التقت عيناني بعينيه اللامعتين كان يجلس مع رفاقه خلف طاولة طويلة.. وجه نشيط وشفاه يغطيها شارب كستنائي لأول مرة أشعر بالسهم الخفي -قاتل السكون- سهم يفتح القلب على الحياة لتبدو أجمل. مرة أخرى مسحت بنظري كل المناظر. رأيتها بمنظور آخر. حتى وصلت إلى اللوحة الأخيرة. سألته بجرأة مصطنعة عن رمزها بعد أن وقع نظري عليه بغير قصد. صار يشرح لي. معاني كلماته لم أسمعها لكن نغمها الرجولي عبأ أوردتي بالدماء يبدو أنه أذكى مما توقعت. دعاني لفنجان شاي مع الكعك بكل أدب. لم أتردد جلست قبالته شاعرة بالضعف والخجل. كان الحديث طويلاً. بدأت أتحدث بطلاقة فجأة تحرك الكرسي وحده من قبالتي توقفت فجأة عن الكلام. نسيت نوع الحديث الذي بدأته من ساعة. صعقت. رجل بهذا المرح والثقة والشخصية القوية مصاب بالشلل قررت أن أرحل في سبيلي فما أكثر الأحلام التي تنتهي بالمفاجآت والغرابة علي أن أختفي فوراً قدماي لم تطاوعاني على الوقوف. يبدو أنه لحظ الاصفرار في وجهي عندما تحرك كرسيه. انطفأت نجمة النهار في حدقته الواسعة رفع يده وأشار إلى اللوحة وراءه:‏

    (أنا من رسم تلك اللوحة).‏

    لو تحدثت وماشيته في تلك اللحظة. لفرطت دموعي لذا لذت بالصمت، وهو يحدثني عن القذيفة التي فتتت رفاقه الأربعة في جنوب لبنان ولم يبق إلا هو شاهداً على نار شبت لتأكل السيارة العسكرية وتلوكها. تغير صوته عندما قال: (ليتني كنت معهم محترقاً بدمي.. هاهي الأيام تزول- عمر ويمضي أنا كافر أنا أتعذب...).‏

    نظرت في عينيه العسليتين دخلت فيهما إلى أعماقه قلت له بغير شعور (أنت بطل.. ياسيد جمال.. أنت شهيد يتحرك..) ثم تصنعت ابتسامة ردَّ علي بمثلها.‏

    غير حديث الحرب تكلم عن عيشته ووضعه المالي. بيت كبير وسيارة مع جنديين بالإضافة إلى الراتب الشهري الذي يتقاضاه من الجمعية.‏

    أكملنا الحديث في الحديقة أجرّ الكرسي بقوة أنثوية ليتحرك ببطء.‏

    أسندت ظهري على جذع ضخم لشجرة عملاقة. حاولت ألا أنظر إلى قدميه فأشعر بضعفه. الشمس تختفي من الوجود تأخرت فليكن لم يبق سوى ظلين بشريين وعشرات الظلال لجذوع الشجرات. أحسست ببرودة كفي عندما وقعت في كفه الدافئة شبهني بوردة البنفسج. صرت أمشي مع الكرسي. صرخ صوت من قرب.. اقتربت الخطوات السريعة نظر الشاب القصير إلينا بابتسامة وأخذ الكرسي بكل هدوء. العجلات تدور مسرعة على الطريق الضيق الذي بدأ مخيفاً بعض الشيء في تلك العتمة جمال يناديني أن أسير بمحاذاته أمسك بذراعي وأمر الجندي أن يتمهل (اذهبي الآن... أتمنى أن تتوقف الحياة عند تلك اللحظة لكن ما باليد حيلة) صرنا قبالة سيارته أمرني بالرحيل فجمدت كالصنم في مكاني.. لم يكن يريد أن أرى ما رأيت انتشله الشاب لافاً إياه بذراعيه. ثم وضعه في السيارة السوداء. ومن خلف الزجاج بدا وجهه لامعاً قوياً كوجه فارس أسطوري حلمت به كثيراً.‏

    في المساء فتحت النافذة على مصراعيها. بدت شجرة التوت مخيفة وهي عارية في عز الصيف. الجو حار جداً ولا نسمة هواء تبدد الاختناق.‏

    والسرير بارد جداً أمام الحرارة الساكنة في كل الأشياء وحتى في الهواء كتبت قصيدة قصيرة قضيت فيها أربع ساعات من الألم الروحي قصيدة لم تتجاوز عشر كلمات، أظن بأني السبب في بكائه الآن. كنت أدري بأن الحب الكبير الذي نشأ بيننا قد ذكره بعجز تناساه مدة سنتين وكنت واثقة بأن الدمع لا يزيد الرجال إلا رجولة اشتعلت عيناه حقداً غابت قليلاً عن الوجود وضع الورقة في جيب قميصه الأبيض. رد علي بجمود وتكلف (شكراً يا آنسة) ثم نزل في جنينة الشجر، وحدي وقفت أرقبه كيف يغيب في البهو عبر الباب الضيق أعماني الدمع والعتمة انتظرته في اليوم الثالث جميع رفاقه خلف الطاولة الطويلة يضحكون ويتهامسون خجلت أن أسأل عنه... انتظرته كثيراً.. لم يظهر. صرت قلقة كعصفورة أضاعت فرخها.‏

    في اليوم. الرابع. لم يظهر.‏

    في اليوم الأخير. لم يظهر.‏

    بدأت أزور الحديقة عندما تفتح لأسبوع كامل من كل عام. وأقول.‏

    في العام الثاني. لم يظهر.‏

    في العام الثالث. لم يظهر.‏

    في العام العاشر. لم يظهر.‏

    كلمات مفتاحية  :
    قصة الكرســــــي منال فياض

    تعليقات الزوار ()