بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:54:57 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 935 0


    شيء ما من الطفولة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : وهيب سراي الدين | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    1)‏

    حتى الآن، لا أدري، لماذا هذه المرحلة، من حياتي. كانت ذات أثر بالغ، في نفسي. أكثر من أية مرحلة أخرى- مرحلة طفولتي

     

    نعم كانت لنا قرية. بل كنّا نسكن، بقريتنا، في بيت متواضع، مؤلف من غرفتين، وسور يحيط بهما. ويطلق عليه اسم "حوش".‏

    الحجر من البازلت. لونه أسود مزرقّ. قاسٍ، أصمّ. يفلّ الفولاذ!‏

    هذا بعض مما أذكر. ولكن الأهم من كل ذلك، هو، ذكرياتي عن تلك المرحلة. ذكريات طفولتي. فضاؤها اللامحدود. أجواؤها المشبعة بزخّ الخيال، ورشق الأساطير، واجتراح المعجزات.....‏

    أعتى الخوارق يتمّ، كجرعة ماء....‏

    كان يحدث كل هذا، في وسط مناخ مشحون بالتهويل والتخويف.‏

    الأشخاص : غيلان، مرده، جان.....‏

    العلاقات : طلاسم." رصد" "سحر"....‏

    أواه...! أيها الخوف اللذيذ! كم كنا نعشقك، ونحن أطفال؟ ونستمتع برجفانك، ونذوب برهبة أهوالك؟‏

    نصغي. نلتهم الكلمات. الأبدان تقشعرّ. الشعر يشب.‏

    القيامة تقوم... غير أننا نبقى متعلّقين في أرجوحة تينك الشفتين العجفاوين الرِّخوتين .؟ هاتي، ياجدتي كيف حوّل العفريت الأميرة" ست الحسن" إلى حورية و"رصدها"، بأفعى....و...‏

    (2)‏

    أجل، نحن ثلاثة أطفال، في بيتنا، أكبرنا في السابعة. كنّا نلتفّ حول جدتي " أمّ سلمان". لتقصّ علينا حكاياتها المخيفة والشائقة معاً.‏

    وكان معظم تلك الحكايات يدور حول "خربة" قريتنا الواقعة، في الجنوب منها. كانت خربة نشطة في عالم الخوف. تغزل الأذهان منها خرافات ،" تطيرّ العقل....":‏

    -(كان، ياأحفادي، يوجد في قديم الزمان. وسالف العصر والأوان، مملكة مستقلّة، في تلك الخربة. ملكها اسمه "آشور باشور". وكان عنده جيش عرمرم. عاش مع شعبه، في "لذة ونعيم". مدة من الزمن. ولكن لما شعر بازدياد قوته، استولى على القرى المجاورة. ومنها قرية غريبة بأطوارها. سكانها مخاليق عمالقة. والعياذ بالله! يعودون بأنسابهم، إلى فصائل الجنّ. مليكهم اسمه" أهرمان".‏

    وهو مارد له عشرون يداً وخمس عشرة رجلاً. وعشر عيون. وطوله تسعة أمتار....‏

    وقال: نحن بني الجنّ. لم نعتدِ عليكم. لماذا اعتديتم علينا، أنتم، يابني الأنس؟ إذن سأدمّر مملكتكم. وأحوّلها إلى سراب. هيّا....‏

    وهبّت رياح عاصفة، في الحال. دمّرت القصور والبيوت. وحوّلتها إلى هذه الواقعة، في جنوب القرية.‏

    ولكن الملك " آشورباشور" تمكنّن أن يخطف خرزة زرقاء، من رجل المارد " أهرمان"، قبل أن يقضي عليه. فتحوّل إلى نسر أبيض. صعد إلى الجبل. وصار يندب مملكته المهدّمة.‏

    ويحوّم حول خرائبها. ويقولون إنه مازال، عائشاً حتى الآن.‏

    يستعرض جنده، مرّة كل سنة. يظهرون أشباحاً من خلال فيافي السراب المهيمن على الخربة. الرماح على أكتافهم، والسيوف على جنوبهم وهم يسيرون بأنساق متراصة، مترادفة. وصوت لجبهم يخترق الآذان)-:‏

    -"متى نشاهد هؤلاء الجنود، ياجدّتي، أم سلمان"؟‏

    -" في عزّ الظهيرة، من منتصف شهر آب، من كل سنة، ياأولادي... إياكم الذهاب إلى الخربة. فهي "مرصودة"، من قبل ملك الجنّ أهرمان.....".‏

    ***‏

    وأكّد أشخاص عديدون، من أهالي قريتنا، ظهور هؤلاء الجن السرابيين، في الوقت المحدّد من شهر آب:‏

    -" شاهدنا جنوداً، في الخربة، شاكي السلاح؛ لباسهم خوذٌ، ودروع. وفي أيديهم تروس، ورماح، وسيوف. يسيرون صفوفاً صفوفاً. ورهيج غبارهم يتراقص في عنان السماء...."!‏

    ***‏

    وكنّا لانشبع. ونحن نسترق السمع، بشغف ولهفة، لقصّ جدّتي الماتع. ونجري معها عمليات التخييل، لهذه المملكة البائدة. التي حرستها الجنّ بالسحر، و"الرصد" فبقيت، كالأرض الحرام. لا أحد يقتحمها. أويدوس حجارتها المطحلبة. ونرانا نجنحّ، مع الكلممات الهامسة. ونخترق حمى القصر الفاخر. ومبيت الحراس المسر بلين بالأسلحة، للدفاع عن مليكهم. وثكنات الجند المحصّنة. وجماهير الناس المحتشدة، في الساحة العامة، لمشاهدة الملك. ولتتلقي تبريكاته....و....‏

    ونستزيد في البحث والسؤال، لمعرفة مصير هذا الملك البائس:‏

    -" وماذا حدث، بعد أن ترك الملك مملكته...."؟‏

    -" يقولون إنه ظلّ يتوسّل إلى " أهرمان". ويحوّم حوله، حتى حوّله، من نسر أبيض. إلى رجل أبيض. نفخ في عود قصب. فأصبح الجناحان يدين. والمنقار أنفاً. والريش الناعم جلداً أملس.و....".‏

    (3)‏

    ماتت جدّتي " أم سلمان". وصرنا صبية كباراً. ولكن، مازالت حكاياتها عالقة في أذهاننا. وفي ذات يوم.- والوقت عصر- كنّا نحن صبية القرية مجتمعين، في الساحة العامة، لنقوم بممارسة ألعابنا المعتادة:‏

    "الحاجوح". "الحورة"، "القلعة"....‏

    فاجأنا وجوده بيننا. لاندري من أين حل؟ ولا ندري كيف أتى؟ رجل سامق، طويل، ذو بشرة بيضاء. تكاد تكون شفيفة. يرى من خلالها. وممازاده، في نظرنا رشاقة وطولاً، نحافة جسمه. وضيق حضره وكتفيه. أنفه ذو مارن مستدقٍّ معقوف. وجهه مسطور كالمثلث.رداؤه قباء فضفاض، أبيض كبشرته. يحمل بيده عود قصب مثقوباً عدة ثقوب.‏

    جلس على حجر، في فيء جدار واتخذ من عود القصب ناياً.‏

    وراح يعزف عليه. عزف، وعزف. هرعنا إليه.نشط أكثر فزمّ شفتيه على فتحة نايه. وأخذ يحرّك اصابعه.‏

    وينفخ حبال رقبته المعروقة. كأنه يريد أن يخرج أعماقه، أمامنا، دفعة واحدة. انسابت الألحان الشجية تدغدغ آذاننا. ياللروعة! يا للعذوبة! التففنا حوله حلقاتٍ متراصّة. لاحركة." الطير على رؤوسنا".‏

    بل سحر الموسيقى كمَّ أفواهنا، وأبطل كل نأمة فينا. لانعلم كم مضى، من الوقت. إنما غشينا المساء. ماذا يريد زائرنا الجديد، بعد كل هذا الجهد الذي قدّمه؟ حتماً، يريد كما يفعل الغجر:‏

    دراهم.‏

    ونقدناه شيئاً منها، قبل أن ينصرف. قبلها على قلّتها. من كان يحمل، منا، دراهم. نحن أولاد القرى، في ذياك الزمن؟ على كلٍّ.‏

    أعددنا له العدّة، في اليوم التالي- وإن كان ما جمعناه مبلغاً متواضعاً- لعلّه يأتي.‏

    وأتى.‏

    صرنا نرقب مجيئه، عصر كل يوم. نعقد الحلقات حوله ليشنّف أسماعنا. ونستجلي، معه، أسمى المشاعر. وأرقّ الأحاسيس. اصطلحنا على تسميته بالغجري. لأن الموسيقى، عندنا، مهنة الغجر. إذ لم يقم بحفلات موسيقى، في قريتنا، سوى هؤلاء القوم، الذين نطلق عليهم تسمية "النَّور". ولكن منذ سنوات، لم يقدموا إلينا ليحييوا حفلاتهم تلك. وكاد الناس ينسونهم. هل شعروا بذنبهم تجاهنا، وأوفدوا إلينا هذا الموسيقى الفذّ؟ بيد أنه يختلف عنهم كثيراً.‏

    من حيث الشكل هيئته مختلفة: طول فارع جسم نحيل. شدّة بياض بشرة.‏

    أما من حيث المضمون، فجبلّته مختلفة أيضاً: ليس طمّاعاً مثلهم يقتنع بما يقدّم له.‏

    كما أن "نايه" المصنوع، من عود القصب. يختلف عن آلاتهم الموسيقية؛ "البزق، والطنبور، والطبل....". أواه! أيها الناي الرائع! كم أدهشتنا، وأمتعتنا، بصوتك العذب الجميل؟ وكم ملكت فينا النفوس، وسيطرت على الأفئدة؟ ننصت، ننصت بخشوع. كأننا في معبد. لم يبقَ فينا سوى أرواحنا ترفرف على أهداب اللحن القدسي. تعرّج وتتعالى، لتخترق عتبات السحر والجمال. ويمّحي الزمن. كما كان يمحّي سابقاً، على شفاه الجدّات. وهن يسردن علينا، من حكاياتهن ممالا يخطر على بال، ولاتقع عليه عين.‏

    وإذا ما صحونا. فصوت الناي. قد توقف. والظلام قد خيّم والرجل قد اختفى.‏

    (4)‏

    ثابر الرجل الأبيض، أو الغجري، على زيارة قريتنا وظلننا نلتفّ حوله مفتونين بعزف نايه المؤثر. هل يستذكر به ما ضياً تليداً؟ أم يسطر بهذا العزف أشجى ملحمة للحزن؟‏

    وأخذنا نتساءل: لماذا اختار الناي له آلة، من آلات الموسيقى المعروفة؟ ألأن صوت القصب حنون، يخترق أعماق النفس الإنسانية؟ أم لسبب آخر؟‏

    لابأس. ولكن لماذا صار يتّجه بنا، نحن أتباعه، نحو الجنوب؟ نراه كل يوم، ينتقل من مكان إلى مكان آخر، صوب الجنوب. لاشك أن هذا الرجل مغلف بالأسرار!‏

    حقيقية في ذات مساء. لم نجد أنفسنا إلا ونحن، في وسط باحة واسعة. تحيط بها جدران مهدّمة، وأكوام حجارة. لقد اخترقنا" الخربة". ولكن اين الغجري؟‏

    لم نجده!!

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()