بتـــــاريخ : 10/23/2008 7:05:05 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1606 0


    القرآن الكريم – حول أسس التعامل معه

    الناقل : heba | العمر :43 | المصدر : www.dar-alifta.org.eg

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    ما هى الأسس التى ينبغى علينا أن نتعامل مع القرآن الكريم على أساسها ؟
    والجواب : 
        أن المسلم يواجه – في شئونه الاجتماعية أو الإنسانية- أموراً يحتاج فيها إلى ترشيد القرآن وتوجيهه، فإنه ينبغي أن يتفاعل مع كتاب الله سبحانه وتعالى من منطلق أنه "كتاب هداية" {يَهْدِي بِهِ اللّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}– الآية 16, سورة المائدة. وهذا يقتضي الالتزام بعدة معالم إرشادية:
    أولها- أن هذا القرآن كتاب هداية. ويُقصد بهذا معنيان: أنه تستنبط منه الهداية فيما تتنازع فيه العقول وتختلف فيه الآراء، ومن ثم يمنح المسلم عقلَه للقرآن ؛ كي يتكون هذا العقل وفق منظومة القرآن وصراطه. والمعنى الثاني أنه ليس كتاب معلومات، وإن وردت فيه معلومات كثيرة أو قليلة، فهو ليس بالأساس كتابًا لعلوم الكيمياء والفيزياء وما شابه، ولا جاء مخصَّصًا لعلوم السياسة والاجتماع والاقتصاد وما شابه، وإن كان فيه نبراس هذه العلوم، في قواعده المحكمة وآياته الجامعة، التي -وإن اختصرت لفظًا- إلا أنها فياضة المعاني.
        هذا الكتاب كتاب هداية، لأنه يمنح العقل المسلم الذي يهتدي بنوره منظومة شاملة من عناصر التفكير المنهجي التي تجعله قادراً على تفسير وتقويم كل ما يصل إليه من معرفته الكونية أو الوجودية. وهذا "التقويم" – بمعنى إشباع المسائل بأمور قيمية- بـجعل المسائل إما مقبولة أو غير مقبولة، واجبة الإتيان أو واجبة الترك، هو الذي يتميز به الباحث المسلم المرتبط بالقرآن عمن سواه.
        فعلى سبيل المثال، لا يختلف المسلم مع سيجموند فرويد -عالم النفس المشهور- في توصيفاته وملاحظاته الواقعية، للنفس التي تعاني الاكتئاب والإحباطات والعقد النفسية، لكن يختلف الباحث المسلم معه في تعميم ذلك على النفس البشرية، ثم في اقتراح الحلول لهذه الحالات. فرويد يعمم ملاحظاته، ويعتبر ذلك حال كل النفوس، بينما الناظر في القرآن يجد هذه الأوصاف أقرب إلى "النفس الأمارة بالسوء"، وأنها -وإن استشرت في مجتمع ما- فإن وجود النفس اللوامة لا ينعدم.
        كما أن الحل ليس في اتباع الشهوات أو إقرار الإباحية الجنسية على نحو ما اقترح فرويد، فالحل -من هداية القرآن الكريم- مختلف تمامًا. فالمسلم يأخذ هذه الملاحظات الواقعية ويعرضها على (كتاب الهداية) ليحدثه عن أصناف النفس أو النفوس البشرية، فيجد أسفلها وأعلاها ما بين نفس مطبوعة أو مختومٍ عليها، ونفس مدسَّاة، ونفس أمَّارة بالسوء (تتبع الشهوات)، ونفس لوامة، ونفس ملهَمة، ثم نفس راضية ومرضية ثم مطمئنة .. ففي القرآن العظيم دليل لمقامات النفس البشرية ودليل إرشادي للارتقاء بها، وإخراجها من الظلمات والعمى والعمه والسفول والضيق والغم إلى النور والبصيرة والرشد والتسامي والفرَج والأمن.
        لا تجد الحل الإباحي لمشكلات الشباب متماشيًا مع كتاب الهدية، إنما تجد قوله سبحانه وتعالى : {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمْ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ-} الآية 33, سورة النور, وقوله سبحانه وتعالى : {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ } –إلى قوله سبحانه وتعالى - {وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ َّ}- الآيتان 30- 31, سورة النور.
        ومن أشهر الأمثلة على هذه المسألة أيضًا نظرية النشوء والتطور لداروين، وفيها يتضح فارق الرصد عن التفسير والتأويل. فالرصد لا خلاف عليه، لكن تحميل المرصود قيمة أو قيمًا معينة، هذا ما لابد من مرجعية الوحي فيه. وهنا موطن الخلاف حول "ما هو العلم؟" إذا قصدت بـ"العلم" الجزء المتعلق بالرصد والملاحظة فقط، فلا خلاف بين مسلم وغير مسلم، فهذا الجزء محايد، أو كما يسمونه "علم موضوعي". أما حين تمد مفهوم "العلم" إلى عمليات التفسير والتقويم، وهو الواقع في كل عمل بحثي، إذ لا يخلو من اختيارات للمفاهيم ومضامينها، ولا يخلو من أحكام صريحة وضمنية، ولا يخلو من تفضيلات وقيم وتأويلات، فكل هذه تحتاج إلى كتاب الهداية، فإن التزم الباحث بمنظومته جاز تسمية هذا العمل علمًا إسلاميًا، وإلا فهو علم بروتستانتي أو علم ماركسي، أو علماني ...إلخ.
        القرآن يقول –على سبيل المثال- عن الزنى: {إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً }- الآية 32, سورة الإسراء, لكن لا يقدم مناهج رصد حالات الزنى، وكشف مدى تفشي ظاهرة البغاء في مجتمع ما، ولا كيف يتم تصميم استمارة استبيان أو استقصاء للآراء في ذلك، ولا الآليات الجزئية لتعقبها تعقب الشرطي، إنما يقدم مبادئ، وأحكامًا (تقييمات بالقول أو الرفض) وأحكامًا فعلية للموقف السلوكي والمعنوي من الظاهرة {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى... }- الآية 32، سورة الإسراء, {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ... }- الآية 2, سورة النور. فالباحث يتعرض لمشكلته (الظاهرة محل الدراسة) كيفما أمكن له من طرائق الرصد والملاحظة، ويجتهد في الاقتراب منها من كل طريق، بيد أن كل ذلك مشروط: أن يكون تحت مظلة وسلطان القيم والأحكام والمبادئ والقواعد التي يرشده إليها القرآن. 
         وخلاصة القول: إن القرآن ليس كتاب إدراك للواقع أو معرفة للوجود، إنما هو وحي يضبط هذا الإدراك، ويضبط هذه المعرفة، ويوجههما إلى عناصر معينة، علاوة على أنه يقوّم هذا الواقع، ويحدد التوجه الأقوم نحو هذا الواقع وينظمه ويصلحه.

    ثانيهما- التعامل مع القرآن باعتباره "المرجعية العليا" التي يطمئن القلب والعقل إليها، لكي يأخذ عنها ويستنبط منها عناصر تحرُّكه الذهني والنفسي والسلوكي، منها:
    (1) يتعامل الباحث الاجتماعي المسلم- على تنوع أغراضه- مع القرآن لاستنباط "القواعد والمبادئ العامة" منه، التي توجه النظر، وتضبط التقويمات. ومنها رفع الحرج: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}- الآية 78، سورة الحج, المشقة تجلب التيسير، والأمر إذا ضاق اتسع: {يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْر َ}- الآية 185، سورة البقرة, حرية العقيدة: { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}- الآية 256, سورة البقرة... { فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُر ْ}- الآية 29، سورة الكهف, {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}- الآية 125, سورة النحل, {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ}- الآية 34، سورة فصلت, {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ }- إلى قوله سبحانه وتعالى {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ}- الآيات من 67 إلى 71, سورة التوبة. ففي الكتاب العزيز جمل عامة وجمل مطلقة يمكن لمن تدبرها -إذا كانت لديه الملكة اللغوية والحس التنظيري- أن يستنبط منها القواعد والمبادئ العامة من قبيل ما ذكرنا.

    (2) استنباط "السنن الإلهية" الحاكمة لحركة الإنسان والمجتمعات، والتي توجه النظر أيضًا وتساعد على حسن فهم الوقائع والأحوال المتغيرة، بناء على أن كل شيء مخلوق بقدر {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}- الآية 49, سورة القمر. وأن لله سنةً أو عادةً في تقدير الحياة وأحداثها، وفي تدبير أحوال الناس: {فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا}- الآية 43، سورة فاطر, {قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذَّبِينَ.. }- الآية 137, سورة آل عمران.
        ومن هذه السنن سُنَّة الدفع بين الناس أو التدافع: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا}- الآية 20, سورة الحج, {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ}- الآية 251، سورة البقرة, وسُنة الاختلاف والتعدد والتنوع {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ}- الآية 118, سورة هود. {وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُم ْ}- الآية 22، سورة الروم, والسُّنة التي تقول: {وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ}- الآية 128، سورة الأعراف, وسنة التداول والمداولة: {وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ}- الآية 140, سورة آل عمران.

    (3) استنباط "الأحكام الشرعية" منه، وهي التي تحكم التوجُّه والسلوك نحو الظاهرة محل الدراسة. فالباحث أيًّا ما كان يدرس، إذا ما كان هذا الشيء محل الدراسة مما يخلق لديه توجهّا ما، فهو مطالب بأن ينظر في مرجعيته (القرآن الكريم) لكي يضبط توجهه المعنوي والسلوكي منه. فمثلاً يدرس الحرب الأمريكية على فيتنام، فيقرها مبدئيًا -ضمن بحثه- أو يعترض على مبدئها وكليتها أو على بعض ممارساتها، كل ذلك لابد أن يكون من منطلق "الأحكام الشرعية" التي تحرّم الظلم والعدوان بإطلاق، سواء من المسلم أو من غيره، وسواء على المسلم أو على غيره. وكذلك الدارس للشئون الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والفنية.. لابد أن يحتكم في قضايا الواجب والجائز والمنع إلى مرجعية القرآن، وأن يراجعه بتدبر، ويراجع علماءه ليعرف "حُكم الله سبحانه وتعالى " في الكليات والجزئيات.

    (4) استنباط "المقاصد الكلية أو العامّة"، وهي الأهداف العليا للشريعة التي تمثل روحها، والتي تضبط التفكير والاستنباط، وتضبط التعامل مع الشريعة نفسها. وهي حفظ النفس والديانة والنسل والعقل والمال أو ما يمتلكه الأفراد. ومن ثم لا يقر في بحثه سياسة أو نهجًا لدولة أو شخص أو مجتمع ما إذا تعارضت مع هذه المقاصد العليا التي هي بمثابة "حدود الله عز وجل وحرماته": حرمة النفس البشرية {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ }- الآية 151، سورة الأنعام, {أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا}- الآية 32، سورة المائدة, وهذا عام لكل نفس. كذا حرّم تغييب العقل أيًا كانت الوسائل. وهذه الغايات كلية تشتمل على غايات أخرى مضمَّنة، كحفظ سلامة البدن وصحته ومن ثم نظافة البيئة ومكافحة التلوث، وكحفظ العقل من التغرير بألوانه... وهكذا.

    ثالثها- هذا التعامل مع القرآن لابد أن تحكمه ضوابط فهمٍ، أهمها:
    1- الكتاب نفسه: بمعنى أنه حجة على نفسه، أو أن بعضه حجة على بعض، أو بتعبير أدق: أنه لابد من "الجمع بين أدلة ونصوص (آيات) كل مسألة"؛ حتى لا نقع فيما نهى الله سبحانه وتعالى عنه بشدة بقوله سبحانه وتعالى : {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاء مَن يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}- الآية 85, سورة البقرة. والجمع بين الآيات يُجلي الفهم، سيما إذا تم حسم مسائل المُحكَم والمتشابه، والعام والخاص، والمطلق والمقيَّد، والناسخ والمنسوخ، فلابد من الوعي بذلك حتى لا يقع الباحث المسلم في خطأ الفهم والاستدلال.
    2- السُّنَّة: وهي ضابط آخر لفهم القرآن والاستنباط منه لدى الباحث، فهي شارحة مبيَّنة له؛ ذلك لقوله سبحانه وتعالى : {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ}- الآية 64, سورة النحل، {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِين }َ- الآية 89, سورة النحل، {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ }- الآية 44، سورة النحل, {إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ وَلاَ تَكُن لِّلْخَائِنِينَ خَصِيمًا}- الآية 105, سورة النساء.
    3- اللغة العربية: فالقرآن كتاب عربي مبين، يُعقل بالعربية، لقوله سبحانه وتعالى : {إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ }- الآية 2، سورة يوسف, {كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }- الآية 3، سورة فصلت, {بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ}- الآية 195, سورة الشعراء. وهذا للبيان والتبيين: {وما أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}- الآية 4, سورة إبراهيم.
    4- الإجماع: فما أجمعت الأمة أو علماء عصر على فهمه بمعنى، وجب لمن عَلِم به أن يتقيد به ولا يخالفه، وإن جاز له أن يفهم غيره بغير مخالفة المجمع عليه. وهذا ضابط بيان لا ضابط إنشاء (كما هو في جزئية أصول الفقه).
    5- المقاصد الشرعية: بحيث لا يكر الفهم والاستنباط الجديد، الذي يصل إليه الباحث على هذه المقاصد بالبطلان، كالشأن في الإجماع.
    6- هذا بالإضافة إلى مجموعة قواعد مهمة في الفهم استنبطها العلماء منها:
    أ- التعامل مع القرآن باعتبار أن "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب". وهذا معنى تفعيل القرآن والإفادة من هديه في كل زمان ومكان، فلا نـقف بالآيات عند أسباب أو مناسبات نزولها الخاصة، بل نتعامل مع "اللفظ في عمومه"؛ وبالتالي تكون كل حالة تشبه السبب الأصلي، أو يمكن إلحاقها بمضمون سبب النزول، داخلةً تحت مظلة النص قطعًا. وقد عبرّوا عن ذلك بجملتين مهمتين: "العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب"، "صورة سبب النزول قطعية الدخول في النص". وهذه القاعدة الثانية تعني أن كل حالة تمثل "صورة" لسبب نزول الآية، فهي داخلةُُ في النص، محكومة بحكمه قطعًا.
    ب‌- ومنها التعامل أيضًا مع القرآن من منطلق أن العبرة -في فهم القرآن والأخذ عنه ومنه- بعموم اللفظ لا بالسياق ولا بالسباق ولا باللحاق. وهذهِ يمكن أن تمثل الأدوات التي ينبغي أن نراعيَها عند الرجوع إلى القرآن في أبحاثنا في علوم الحياة والإنسان. هذه الأدوات علاوة على دورها في التمكين من الاستنباط ودورها في ضبط الفهم، فهي تقوم أيضًا بدور الفاصل عند الاختلاف في الفهم والاستنباط.
    فمثلاً في قوله سبحانه وتعالى : {وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ }- الآية 251، سورة البقرة, قد يفسر البعض "الدفع" على أنه الحرب، معتمدًا على السياق والسباق الذي يقول: {وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاء وَلَوْلاَ دَفْعُ اللّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الأَرْضُ وَلَكِنَّ اللّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ}- الآية 251، سورة البقرة, فيكون الرد بالقاعدة المذكورة من أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السياق ولا بالسباق ولا باللحاق. فيصحّ أن نفهم من لفظها العام معنى أوسع من معنى الحرب الذي دل عليه السياق.
        وكذلك يصحّ فهمُ الشافعي لقوله سبحانه وتعالى : {فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ }- الآية 2, سورة الحشر, أن الأمر من الله سبحانه وتعالى بالعبرة والاعتبار فيه إشارة إلى شرعية "القياس"؛ كدليل من الأدلة الكلية الشرعية، ولا يؤخذ بدفع ابن حزم أنها نزلت في سبب متعلق باليهود، لأن القاعدة المذكورة تقول: العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
    ج‌- التعامل مع القرآن مع إدراك التمييز بين المعنى الأصلي والمعنى التابع: فعبارة "أهل البيت" في قوله سبحانه وتعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ}- الآية 33، سورة الأحزاب, قد يحسب البعض أن معناها على ظاهرها المتبادر إلى الذهن: أهل أيَّ بيت أو أهل كل بيت، وليس كذلك.  فمعناها على غير المعنى الأصلي لـ"الأهل" ولـ"البيت"، بل هي اصطلاح قرآني، وإن اختلفوا في مدلوله: هل هو أهل بيت النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم أهل بيت إبراهيم، أم أهل بيت الله الحرام (أهل مكة)؟ والخلاصة أن المعنى الأصلي هو الذي يمكن ترجمته ترجمة حرفية دون اختلال في المعنى، على خلاف المعنى التابع؛ ومن ثم لا يمكن ترجمة "البيت" هنا على house أو home.
    د‌- إدراك التمييز بين نوعي الاختلاف في الفهم والاستنباط: بين اختلاف التنوع واختلاف التضاد، فالأول مقبول؛ وفيه قد تكون كل الآراء صحيحة بل قد يمكن الجمع بينها، بينما الثاني واقع بين صحيح وغير صحيح، أو ربما يكون الرأيان غير صحيحين، لكن لا يمكن أن يصح تفسيران متضادان، لقوله سبحانه وتعالى : {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللّهِ لَوَجَدُواْ فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا }- الآية 82, سورة النساء.
    هـ- أن يتعامل مع القرآن على مستوى الحرف، فهو منقول بعشر قراءات كلها متواترة، وكلها مضبوطة على مستوى الحرف، ونقصد حروف المباني، التي نقلت صوتًا وشكلاً وضبطًا بلا خلاف، وقد سبقت الإشارة إليها.
    و- أن يتعامل مع القرآن الكريم على أساس أنه كتاب إعجاز، وليس كتابًا عاديًا، فكل ما فيه معجِز: لفظه ومعانيه، وترتيبه وعباراته، وكلماته وحروفه، ونبوءاته وقواعده المحكمة، وهذا متصل بمعنى هدايته، فهو خارج دائرة الإمكان أو الاستطاعة البشرية، {قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا }- الآية 88, سورة الإسراء.
        وأغلب هذا يأتي بالتأمل والتدبُّر، ومراجعة القرآن التارة والأخرى، ووصله بالسُّنَّة، والنظر في الدلالات (راجع نظرية الدلالة في أصول الفقه). وهذه القواعد تحتاج من الباحث -بعد إدراكها- أن يتمرن ويتمرس فيها حتى تصير جزءًا من عقليته ونظره المباشر في القرآن. وهذا الأمر تتولد عنه آثار وثمار عظيمة ومهمة؛ منها التقيد بأحكام الله سبحانه وتعالى في البحث وغيره، ومنها تصحيح الاعتقاد، ومنها الرجوع عند الخلاف إلى مرجعية حاكمة فاصلة، ومنها معرفة آليات الدعوة.
        هذه مفاتيح من تملَّكها وجوَّد فيها -بالالتزام والملازمة- بحيث صارت منهجًا له، يمكنه أن يتعامل مع القرآن تعاملاً صحيحًا، لا يجعله قاصرًا على ألفاظه ونصوصه دون معانيه ومراميه، ولا يقف به عند قيود التفسير، ولا يخرج به عن إطار القرآن أو عن مراد الله سبحانه وتعالى منه، ولا يشط به خارج السقف الموضوع. وأثناء هذا التعامل، فإن الباحث يُعمَّق معرفته بالقرآن نفسه، ويُعمق معرفته وخبرته بالعلوم المتصلة به كعلوم العربية والقراءات والتفسير والسُّنة، وغيرها. وليس مطلوبًا منه أن يتخصص أو يَعْلَم علم المتخصص في كلٍ، بل العلم المجمل بها ثم التمحيص لكل مسألة. والله المستعان.

     


    المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .

    كلمات مفتاحية  :
    إسلام فكر اسلامى

    تعليقات الزوار ()