ما هى عناصر العقلية التراثية ومكوناتها ؟
والجواب :
لكي نفهم تراثنا الإسلامى العظيم جيدًا، يجب علينا -بدايةً- أن نفهم "الرؤية الكلية" لمنتجي هذا التراث، فإن هذه الرؤية قد ضُربت في مقتل في الفلسفة الغربية خلال القرون الأربعة الأخيرة ، إلى أن أخرجها فلاسفة الغرب وتابعوهم في الشرق من حالة الشيوع وأُلفة الناس بها إلى شرانق التخصص والأبراج العاجية، فلم تعد - كما كانت- شائعة بين الناس. فقديمًا كنا نرى الطبيب والرياضي والسياسي وأمثالهم لديهم رؤية معيَّنة للعالم، هذه الرؤية تشتمل على رؤى فلسفية، رؤى معلوماتية أو ثقافية أو موضوعية.. كانت المسألة في غاية التماسك والتشابك، لا تنفصل رؤى العالم في دوائر ضيقة باسم التخصص أو غيره. ونحن في سياقنا الحالي نحتاج للتعرف على نماذج من هذه الرؤى، والبحث عن مصادرها، وبيان كيف تؤثر في العقل العام ومن ورائه العقل العلمي الذي أنتج مثل هذا التراث.
فمن نماذج هذه الرؤى أن العَرب -مثلًا- كانوا يتخيلون العالم على هيئة طائر، منقاره أو رأسه في المشرق (الصين،..)، وهناك جناح الشام وتركيا، وجناح اليمن وما وراءها من جزر بحر العرب والمحيط الهندي، والذيل مراكش (المغرب) ووراءه بحر الظلمات (المحيط الأطلنطي). هذه رؤية معلوماتية كانت سائدة في ظلال بعض الأسقف المعرفية في دراسات الجغرافيا والديموغرافيا، حتى أنهم سمّوا "الشام" بهذا الاسم بمعنى الشأم أي الشِّمال، وسموا "اليمن" بذلك لتعني اليمين، وذلك بالنسبة لفم الطائر الذي تخيلوه. وهذه أمور تقريبًا لم تْكتب في الكتب أو لم تكن صريحة فيها، لكنها كانت شائعة ضمنًا ومسيطرة على عقول كل الناس في هذه الأزمنة.
هذا الطائر –المتخيَّل عند العرب- كان مقسَّمًا على سبعة أقاليم، وسموها "الأقاليم السبعة". والرقم "سبعة" -عند هؤلاء الأقدمين- كانت له دلالة، تشبه "الدلالة النَّسَقية". والدلالة النسقية مفادها الاعتقاد بأن الله تعالى بنى هذا الكون على أنساق، من هذه الأنساق أنه "سبّع" الكثير من الموجودات: كالسماوات، والأرض، والبحار، والأقاليم، وأيام الأسبوع.. إلخ، حتى أنهم في الرياضة يعتبرون الرقم "سبعة" الرقم الكامل؛ لأنه تمام الدورة العددية.. وقد وُجدت مؤلفات قديمة حول الأعداد في الكتاب والسُّنة وغيرهما؛ مثل (الإسعاد في الأعداد) لابن حجر العسقلاني، الذي يُورِد فيه الأحاديث التي ذكرت الأرقام ودلالتها، وكذلك وُجدت كتب حديثة مثل كتابات علي باشا مبارك.
ولطنطاوي جوهري كتاب يُسمى (بهجة العلوم) يحاول فيه أن يكتشف مكونات هذه العقلية؛ بناء على فرضية أن هناك تكوينًا تاريخيًا وثقافيًا نتج عنه هذا الموروث الهائل، فيتكلم عن الموسيقى، والأعداد، والرموز...الخ، كمؤشرات على خصائص ومكونات هذه العقلية.
فمثلًا اكتشف أن أصل الموسيقى عند القدماء هو دورانها بين ساكن ومتحرك، والسكون والحركة وصفان لحالتين تقتسمان وتستوعبان ظواهر الوجود. فالموجودات إما ساكنة وإما متحركة، والموسيقى من هذا الوجود. ثم رأوا أن الموسيقى من وسائل التعبير كاللغة أو الكلام، وأن اللغة تتكون من حروف تتجمع لتكون كلمات فجملاً.
من هنا جرى قياس الموسيقى وتم بناؤها في الحضارة الإسلامية. فقيل إن أجزاءها الأساسية مكوَّنة من حرفين (حركة وسكون) "تِنْ، تِنْ..". وهذان الحرفان باجتماعهما يكونان مجموعات أو جملًا (مازورة) أو ما شابه ذلك. والأمر متواصل مع المتوالية (أو المتتابعة) العددية، والمتوالية الهندسية ولكل موسيقاها.. ثم أقاموا النسب التوليفية بإدخال المتوالية الحسابية مع الهندسية فظهرت نسب موسيقية وهكذا..، وعلى هذا بُنيَ علم الموسيقى عند العرب وفي الحضارة الإسلامية.
فالموسيقى عند المسلمين – وبغض الطرف الآن عن حكمها الشرعي- فيها "نسق" ولها دلالة نسقية، فهي كما تصعد فإنها تهبط: تصعد إلى ما يسمى ﺑـ (الجواب: أعلى درجة للصوت)، ثم تهبط إلى ما يسمى بــ(القرار: أدنى حالة للصوت). هناك اتساق، والاتساق يعني "المطلق"، ويعني أن الذي أنتج هذا كان مؤمنًا بالمطلق، ونَسَبَ القواعد الأساسية التي أقام عليها بناءه إلى "المطلق"؛ أي إلى قواعد خارجة عن ذاتيته وعن ذاتية مجتمعه الضيق.
ومن ثم، فهذا هو الإنسان الذي يمكن أن يفهم معنى العدل المطلق والصدق المطلق والحق المطلق.. على خلاف النموذج الغربي الذي يزعم أن الأشياء كلها نسبية. وهذا هو أسُّ الفارق بين حضارتنا وحضارة الغرب: فرجلنا القديم يقول بضرورة وجود وضرورة إدراك "المطلق" الذي ينبغي أن يقايس عليه حياته، وفي الغرب يقولون إن "المطلق" إما غير موجود وإما لا جدوى له. وكل هذا يقع في العالم الكامن في النفوس والعقول: عالم الرؤية الكلية التي تؤثر في شتى مناحي الحضارة الملموسة.
وقد يتساءل البعض: أيهما أنتج الآخر: الحياة (الحضارة الملموسة) أم القيم والرؤية الكلية؟ ونحن -في الحقيقة- لا ندري بداية الموضوع من نهايته، هل هذه المفاهيم والرؤى هي التي أنتجت الحضارة أم أن الحضارة هي أنتجت هدّ المفاهيم؟ أم هي دائرة كالذي يسميه المنطقيون بـ"الدور"، كمسألة البيضة والدجاجة؟
ولمزيد من بيان هذه الرؤية ومصادرها وخصائصها المتفتحة، نعرض لنماذج من تعامل العقلية التراثية مع المطلق وبعض قضاياه:
لقد توقفوا - في التراث - إزاء عدد من الظواهر الشبيهة بقضايا الدور ومسائل النسبي والمطلق، والتي تتضمن ثنائيات عقلية، وازدواجيات وجودية عقيدية تبدو متعارضة، كقضايا الأول والآخر، والعدم والوجود، والذات والصفات، والمتناهي وغير المتناهي، والتي غالبًا ما طُرحت من قبل الآخر الذي اطلعوا عليه مبكرًا، وقد جاءت إجاباتهم عن هذه المسائل مؤشرات جلية على رؤيتهم الكلية للوجود.
فقد قال الآخر المحاوِر: إن إدراك الشيء فرع عن تصوره (وهذا صحيح)، لكنه (الآخر) أراد بكلامه أن يتصور الإله، يريد التجسيد والتصوير.. وهذا منبع الوثنية؛}فلأجل هذا صنعَ إلهه وجسَّده في حجر أو شجر (أو حتى من العجوة حتى إذا جاع أَكَلَه)، أو في صورة اللورد (يقصد: عيسى عليه السلام).. أو قال إنه حلّ في بوذا أو كونفوشيوس..أو قال: إن هذا الكون ومواده هو ربنا، فيعبدون الطوطم وخلافه..{ لذلك دفع بالقول: إن التصديق بالشيء وبوجوده فرع عن تصوره.. فهل يمكن لك -أيها المسلم- أن تصدّق بمن ليس كمثله شيء، لا تدركه الأبصار، ولم يكن له كُفُوًا أحد؟
فردَّ التراثي المسلم من خلال يقينه أن الوجود دال على الواجد والموجِد عز وجل ، وأن صريح العقل لا يتعارض مع واقع الوجود ولا مع صحيح النقل، فمثلاً قال لهذا الآخر: إنك تصدق -رغمًا عنك- بوجود أشياء كثيرة دون أن تكوِّن تصورًا عنها على الحقيقة، سواء لا تتصوره ابتداء أو انتهاء أو في الحالتين. فعندما يطرق أحدهم الباب طرقات منتظمة.. فإنك تصدّق أن ثمة إنسانًا عاقلًا يقف بالباب..تصدق بوجوده وأنت لا تتصور ذاته أو شخصه. وبالمثل فالكون أبدعه خالق بديع يدلّ عليه خلقه، أؤمن به دون أن أتصور ذاته.
وزاد أهل تراثنا: إن الله تعالى ضرب في الوجود أو الواقع المشهود أمثلة لفهم أشياء يصعب على العقل فك الاشتباك فيها، وهي تردُّ على الذين ينكرون وجود الإله أو صفاته العليا. هذه الأمثلة الوجودية والعقلية اكتشفوا فيها أدوات لحل مشكلات فلسفية وعقدية، وإن كانت هي حقائق من الواقع الملموس أو حقائق رياضية (والحقائق الرياضية عند الكافة تنزل منزلة المسلّمات العقلية).. لقد تمت هذه الإجابات من خلال عملية جماعية تحاورية عبر الزمان. وكانت غاية هذه الأمثلة أو المتصور منها أن تُقرّب المطلق المجرد من المشهود النسبي وتبيِّن الكلي الذهني باستخدام الجزئي المشخَّص... ونمر على بعض من هذه الأمثلة مثل "الدائرة"، و"الشمعة"، و"النقطة"، و"المرآة"، لبيان كيف تضافرت مصادر العقل المسلم، وكيف استخدم كل مصادره –تحت مظلة الوحي والرؤية الكلية المنبثقة عنه- في بناء أفكاره ومناهج علومه.
الدائرة وقضية الذات الواحدة والاعتبارات العديدة: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود ليبرهنوا على حقيقة "الغيب": أن الله تعالى ذاته واحدة وصفاته متعددة، فتساءلوا أمام معارضيهم: أين بداية الدائرة؟ بدايتها هي نهايتها! نفس نقطة البداية هي نقطة النهاية؛ أي إن هناك نقطة جمعت بين صفتين تبدوان متعارضتين (كالأول والآخر).. قال القدماء: (هي واحدة بالذات مختلفة بالاعتبار: أي باعتبار اتجاه الحركة على محيط الدائرة يمينًا أو يسارًا)، وهذا نفسه حل المشكلة في الرياضة الحديثة والهندسة التحليلية بفكرة "الاتجاه": سالب وموجب. ولله المثل الأعلى، فله –سبحانه- ذات واحدة {قل هو الله أحد}، وصفات وأسماء -هي الحسنى- متعددة.
النقطة وقضية العدم والوجود: ضرب الكلاميون هذا المثال من الوجود المشهود أيضًا ليبينوا "كيف أوجد الله تعالى الموجودات من العدم"، فقالوا: "النقطة" لها خصائص غريبة جدًا؛ فهي لا اتجاه لها، وإذا سارت أحدثت أشكالًا مختلفة، قد تصنع خطًا (فالخط عبارة عن استمرار نقطة) وقد تصنع خطوطًا من أشكال شتى. والنقطة –في حقيقتها- أشبه بـ"العدم"؛ لأنه لا شيء أصغر منها، فكيف يتحول هذا العدم أو شبه العدم إلى وجود وموجودات؟ بهذا يمكن أن نقول إن الكون كان عدمًا ثم تحول إلى الوجود بإرادة عليا، فالشيء العدم قد يستحيل إلى الوجود. ومثال ذلك "النقطة".
الشمعة واستمرار قضية الإيجاد من العدم دون أثر في الموجٍد: قالوا: إن الأشياء إذا أخذنا أجزاء منها تكون بين أمرين: إما أن تنقص بالأخذ منها، وهذه عامة الأحوال، وإما أن تزيد بالأخذ منها كالحُفرة، فكيف يقع الأخذ من (أو عن) شيء دون تغير بزيادة أو نقصان في المأخوذ منه؟ أو كيف أوجدَنا الله تعالى ولسنا منه وليس منا؟ كيف ولم يطرأ تغيُّر على الإله عز وجل؟ هنا جاء مثال الشمعة (وهو مثال من الوجود الملموس) ليجيب عن حالة الشيء الذي يمكن أن يؤخذ منه فلا تقع زيادة ولا نقصان..فعندنا نقرّب فتيل الشمعة غير مشتعل من فتيل أخرى مشتعل، تضيء الأولى دون نقص ولا زيادة في وزن أو حجم أو شكل الثانية.
وهذا أيضًا جاء ردًا على من سأل مجادلاً: أين الله؟ هل هو خارج الكون؛ فيكون الإله محدودًا بحدود الكون وله نهاية؟ أم هو داخل الكون؟ أم الكون هو الذي يتواجد في الإله؟ بين مزاعم الحلول ومزاعم الاتحادية..الخ.
المرآة وقضية المتناهي وغير المتناهي (اللانهائي): قالوا: إنه لا يوجد في هذا الوجود الحقيقي (المنظور) شيء غير متناهٍ على الحقيقة، فكل شيء في الوجود معدود أو موزون أو يقاس بأي أدوات القياس.. فكيف نصدِّق بالمطلق اللامتناهي الذي هو الأول فليس قبله شيء، وهو الآخِر فليس بعده شيء، وهو بكل شيء محيط؟ فأجاب أهل التراث بسؤال: ماذا إذا وضعنا مرآة في مواجهة أخرى؟ في هذه الحال نجد صورًا "لانهائية" حتى إن العين تكلّ من متابعة هذه الصور، فإذا كان ذلك من صفات المرآة المخلوقة، فكيف الحال في صفات الله الخالق سبحانه وتعالى؟
هكذا وقف الإنسان المسلم التراثي مواقف غريبة، وهو يحاول الإجابة عن هذه التساؤلات وعن أخرى غيرها نجمت عن الاحتكاك الحضاري والتفاعل مع الآخر.. فقال مثلًا: أنا أرى صفات نفسي، وعلمي أتعلمه وأكتسبه كل يوم: (إنما العلم بالتعلم)(1).. فهل يفعل الإله ذلك؟ هل ينظر إلى الأحداث -كما يشيع في أساطير اليونان التي تصور آلهة تتابع مسرحية كبيرة.. وتجعل جوبيتر- كبير الآلهة عندهم- مثلًا يتعلم كما يفعل البشر..؟ قال هذا المسلم المتفكر: لا، بل الله بكل شيء عليم..{عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ}- الآية 3, سورة سبأ، {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ}- الآية 22, سورة الحديد. قيل: ذلك يعني أن علمه غير نهائي! وهل هناك في حقائق الدنيا ما هو "غير نهائي"؟ إن الـ"مالا نهاية" هي مجرد تصور ذهني.. أي مقدّر، فهل يمكن أن يكون الأمر المقدّر مثل الـ"مالا نهاية" أمرًا محققًا؟ والمقدّر غير محدود، والمحقّق الموجود محدود، وبالتالي له نهاية (نهائي)!
لقد طُرِحت هذه الأمثلة لحل مشكلات فلسفية عقيدية؛ ولإلزام الخصم المجادل بحُجة من مصدره للمعرفة (الوجود المشهود)، علاوة على ما تعكسه هذه الأمثلة من تطور للعقلية التراثية.
فمن أجل مزيد من فهم أعمق للعلم الموروث، فلابد من إدراك عناصر تكوين العقلية التي أفرزت هذا النتاج أو العلم! ونفضِّل كلمة "عناصر التكوين العقلي" على كلمة "الرؤية الكلية"؛ إذ أن الأخيرة تعد إحدى تلك العناصر بالإضافة إلى مكونات أخرى للعقلية التراثية. وهذه المكونات ليس يحويها كتاب بعينه، إنما كان يضمرها كافة الناس. ومن ثم فهي لا تعبر عن -ولا تمثل- علم الفقه أو علم الكلام أو علمًا بذاته من العلوم التراثية، إنما تمثل الخلفية التي كانت وراء عقلياتهم وعلومهم. أعتقد أن فهم هذه المكونات يسهم في نقلنا نقلة نوعية في فهم تراثنا، وفي فهم ذاتنا، وكذلك في فهم الآخر.
ومع أن المقصود تتبع العناصر المنهجية في العقلية التراثية دون الوقوف على الجزئيات، فيمكن القول-كذلك- إن كثيرًا من جزئيات هذا الموروث لا تزال مهمة لنا ومطروحة الآن، وضرورية في بناء نموذجنا المعرفي، على الرغم من الزعم السائد بأن عصرنا لم يعد يتحملها الآن! فما الرأي في أن قضية "خلْق القرآن" التي أثيرت في الربع الثاني من القرن الثالث الهجري لا تزال مطروحة بكل قوة، لكن بألفاظ وعناوين مستجدة. فلدينا توجّه معاصر يتبناه أناس من أمثال نصر حامد أبو زيد، سعيد عشماوي، محمد أركون.. يرى أن القرآن زمنيّ تاريخاني!! أليس هذا هو عين القول بمخلوقية القرآن؟ "فالقرآن مخلوق" تعني أنه حادث، والحادث كائن بعد أن لم يكن؛ وبالتالي كان له مكان، فإذا ذهب المكان والمكين (وهما عَرَضان)..بقى القرآنُ تاريخًا، فيقولون: "تاريخانية النصّ".. نفس القصة بعنوان أو مدخل آخر، كأن القضايا لم تنعدم تمامًا..إنما تبدلت الأسماء والمداخل.
ونحن نقول: إن القرآن العظيم مطلق، ليس زمانيًا ولا تاريخيًا.. فالقرآن غض طرىّ كأنه نزل الساعة، يتجاوز الزمان والمكان والأشخاص والأحداث والأحوال.
ومن ثم، يمكن أن نستفيد-مثلًا- من علم الكلام –كما في الأصل المقرر هنا- من الكليات، كما يمكن ألا نعدم فائدة جزئياته في قضايانا الحالية. بل يمكن الزعم أن كل سمات العصر يمكن التعاطي معها من خلال "علم الكلام" التراثي.. لكن ما نحتاج إليه فعلًا هو "ضبط الصياغة الملائمة" ، فالنموذج المعرفي والمداخل والمشكلات..كلها أسماؤها وصياغاتها صارت مختلفة!!
والسؤال الآن: من أين جاء العقل المسلم التراثي بهذه الردود والأحكام التي حكم بها على الوجود بل والغيب من ورائه؟
هذا يدخل فيما نعرفه اليوم بـ"مصادر المعرفة" أو ما يسمى "الابستمولوجي". فمصادر المعرفة عندنا تتمثل في الوحي والوجود. إن المسلم كان يأتي لموضوع العلم ويقبل التعرض لأي موضوع.. مع خصوصية إجاباته عن مسائل هذا العلم.. مستندًا في ذلك إلى مرجعيته ومستفيدًا من القواعد العقلية التي تتوافق مع الإطار الذي يتحرك فيه، فيستخرج أحكامه على المسائل من مصادر متعددة.
فهناك أحكام استخرجها هذا الموروث من النقل (الوحي) ، وأخرى من العقل، وأخرى من العُرف، ومن العادة أو الحس، ومن الفطرة،..الخ، وكل هذه العناصر والمصادر المذكورة - عدا النقل أو الشرع- تسمَّى "الوجود". فـ"الصلاة واجبة": حكم شرع ونقل، و"النار محرقة": حكم عادة أو حسٍّ أو تجربة، و{واحد زائد واحد يساوي اثنين[: حكم عقل، وكذا "عدم اجتماع النقيضين" هو حكم عقل، .. وهكذا.
وتوقُّف عملية المزج والوصل الجميل بين هذين المصدرين (الوحي والوجود) في الزمن الراهن هو الذي أوجد عندنا ازداوجية الفكر والتعليم والثقافة. وافتقادنا لمعرفة عناصر الإدراك العقلي عند هؤلاء المنتجين لهذه العلوم الموروثة (أي كيف كانوا يبنون تصوراتهم؟ كيف كانوا يكتبون ما يتصورونه..؟) هو الذي نراه عند أصحاب العلوم الاجتماعية اليوم، ونسعى لتجاوزه.
ثم إن القول بأن علماء التراث الإسلامي كانوا يجعلون العقل من بين مصادرهم للمعرفة والحكم على الأشياء، يطرح التساؤل حول ما يُقال من إدخالهم المنطق الأرسطي على العلوم الإسلامية، وهذا يحتاج لوقفة مهمة.
ففي كتاب "المقابسات" أورد أبو حيان التوحيدي مناظرات بين أبي سليمان المنطقي وبين أهل النحو واللغة (الذين تميزوا بتأسيسهم علومهم اللغوية على علم عقليّ ما، لكنه من داخل الدائرة الإسلامية، غير مستورد لا عن أرسطو ولا غيره). وجرى في هذه المناقشات جدال، وكانت الغلبة غالبًا لأهل العربية. وبالتأمل نجد أن الذي قاله أهل العربية، هذا هو "المنطق" الذي أخذناه بعد ذلك، وأن منطق أرسطو تقاطعَ معه في مساحة هي "مشترك العقل البشري"، وأن الباقي من أرسطو رُفض، وأن الباقي من قبل علماء العربية استقرَّ.. إلا أن الاسم الذي غلب على ما نستعمله من هذه القواعد، هو الاسم الذي نُقل عن أرسطو: "المنطق".. فالذي بقى من قواعد أرسطو هو الاسم فقط.
لقد أورثنا هذا لبسًا قائمًا إلى الآن، حيث أصبحت كلمة "منطق" تُطلق ويُقصد بها المنطق الأرسطي، وتُطلق ويُقصد بها المنطق العربي، كما تُطلق ويُقصد بها المشترك بين المنطقيْن.. وهكذا. فكأن الأسماء ضاقت علينا فلم نجد للقواعد العقلية العربية اسمًا آخر غير كلمة "المنطق". وقد لاحظ بعض العلماء ذلك، فقام الشيخ الشاب الأخضري بتلخيص المسألة في كتاب اسمه "السُّلَّم"- وكان عمره واحدًا وعشرين عامًا- فقال مثلًا:
وابن الصلاح والنوويُّ حرَّما وقال غيرٌ: ينبغي أن يُعلما
والقولةُ المشهورةُ الصحيحةْ جوازُهُ لكاملِ القريحةْ
ممارسِ السُّنَّةِ والكتابِ ليهتدي بهِ إلى الصوابِ
ففرَّق الرجلُ بين الكلام المستورد الفارغ، وبين هذه القواعد المقررة التي اشترك فيها العقلاء، والتي ينبغي أن تكون منضبطة بالقرآن والسنَّة وقواعد العربية والقريحة الصحيحة.
وعندما استقر الحال بعد أبي حيان وغيره، استقر العمل لدى أهل السُّـنّة على الأخذ بهذا المنطق، ودخل في الكثير من صياغات الأصول والعلوم الإسلامية بعد القرن السابع بهذا المعنى، وحُمِل كلام المعترضين كابن تيمية وغيره على نقض المنطق الأرسطي، وحُمِل كلام غيرهم من المؤيدين على المنطق العربي، وقد سُمىّ "منطقًا"؛ لأنه تكلم في الموضوع ذاته الذي تكلم فيه المنطق الأرسطي؛ أي تصحيح وترشيد الفهم: التفكير السليم المستقيم:
فنسبة المنطقِ للجَنانِ كنسبةِ النحوِ إلى اللسانِ
فالمنطق يمنع الخطأ في الفهم كما يفعل النحو في المنطق اللفظي. فأرسطو أعطانا الفكرة؛ أن نضع آلة قانونية تعصم مراعاتُها الذهنَ عن الخطأ- ثم وضعها المسلم من عنده ومن لغته، وهو يمارس السُّـنَّة والكتاب ليهتدي به إلى الصواب. فتنبَّه! إنك تتعامل مع إطار زمنيّ واسع، مع تغيرات متتابعة مستعرضة، مع مدارس متعددة، مع اصطلاحات قد تتضارب.. فإياك إياك والألفاظ، إياك أن تتوقف إلا عند المعاني..لأنهم قالوا: (من طلب الحقائق من الألفاظ هَلَك) هكذا عبَّر الغزالي، فانظر في معنى المنطق: ما هو حق؟ وما هو باطل؟
والخلاصة أن فهم الموروث الحضاري الإسلامي يحتاج إلى إدراك عناصر تكوين العقلية التراثية أولًا، وهذه المرحلة تحتاج إلى جهد ومثابرة! ثم تتوالى مراحل الاستفادة من: التتبع والاستقراء، ثم التجريد فالتفعيل، في تسلسل بموجبه يمكن أن نستفيد لحياتنا المعاصرة. بعد ذلك لابد من إدراك الواقع وربط النص المفهوم به، فيكون التشغيل أو التطبيق.
الهوامش:
----------------------
(1) جزء من حديث: (من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين, وإنما العلم بالتعلم), كتاب العلم, باب 52, فتح الباري، البخاري-أ.
المصدر : الطريق إلى فهم التراث ، لفضيلة مفتى الديار المصرية ، الدكتور على جمعة .