ما هى صفات البحث العلمى فى حضارتنا المعاصرة ؟
والجواب :
أن البحث العلمى هو الركيزة الأولى لكل حضارة ، وهو الأساس الضرورى لكل بنيان ، والشواهد كثيرة على صدق هذا المقياس سواء فى الدول المتقدمة أو النامية ، ولا يجوز الخلط بين كثرة عدد المتعلمين ، وبين حقيقة البحث العلمى ، فقد يوجد فى بعض الدول أشخاص لا يحصون ويحملون الشهادات ومع هذا لا تزال أممهم ترزح تحت أثقال الفقر والتخلف ، فالحصول على الشهادة العلمية شىء ، والابتكار العلمى شىء آخر . وسوف نتناول فى موضوع مستقل البحث العلمى فى الحضارة الإسلامية ، ونقتصر هنا على الحديث عنه فى الحضارة المعاصرة .
وهناك العديد من الصفات الواجبة للباحث العلمى ، نذكر أهمها بإيجاز :
1) الإيمان بقيمة العلم : فالإيمان اطمئنان ، ولا ينبغى للباحث أن يكون ارتيابيا ، بل عليه أن يؤمن بقيمة العلم ، وليس العالم مجرد ملاحظ أمين شجاع لديه قدر من الثقافة ، بل هو مؤمن قبل كل شىء ، فالعلم أجل من أن يكون مجرد مهنة .
2) عدم الإيمان بالصدفة : والصدفة التى ينكرها العلم الحق هى المرادفة للحظ ، فلا يسمى الشىء صدفة إلا من كان ناقص المعرفة بذلك الشىء ، والصدفة لا تفسر شيئا ، وهى مقياس الجهل بالظواهر.
3) الدهشة : العلم وليد الدهشة وحب الاستطلاع ، وهذه الصفة انفعال عظيم التعقيد ، ولكن على المرء أن يكون دقيقا فى التفريق بين حب الاستطلاع الفضولى الشرير الذى يستهدف إشباع الغرائز ، وبين حب الاستطلاع السليم النبيل الذى يستهدف الخير والحق والجمال .
4) العلم أمر إنسانى : فمن خصائص المعرفة أنها تتداول دون أن يطرأ عليها نقصان ، بل قد تتوافر لها كل فرص النمو على طريق التعاون والنقد المتبادل ، ومن هنا كان العلم أمرا إنسانيا .
5) الإكثار من جمع الظواهر : وهذه هى العملية الأولى التى يجب أن يتجه إليها العالم مدفوعا بحب الاستطلاع العلمى ، وعليه أن يجمع أكبر عدد من الشواهد والظواهر التى لوحظت بدقة ، فالعلم قوائم لهذه الظواهر ، ومن هنا وضعت معامل الطبيعة والكيمياء جداول سجلت فيها خصائص الأجسام المعروفة التى تمتد قوائمها امتدادا مطردا ، فلا يعلم مداه إلا الخالق سبحانه وتعالى .
6) النزاهة والصبر : يجب أن تلاحظ الظاهرة فى ظروف تستبعد كل احتمال ، وتقضى على كل مظنة للشك ، والظاهرة الأصيلة المجردة من التزييف هى التى يجب أن توصف بأمانة كاملة إذ أن حب الاستطلاع لدى العالم إنما هو انفعال ، وربما شوه نظرته إلى الأمور ، ومن هنا وجب على العالم أن يتحلى بصفات التواضع والنزاهة ، حين يقوم بملاحظة ظواهر الكون ، ووصفها على ما هى عليه ، لا كما يهوى هو أن تكون . وتحتاج الملاحظة العلمية صبرا لا ينفذ ، وتضحية دون حدود.
7) الشجاعة : فالعلم يثير من الانفعالات الجياشة ما يجعل العالم مخلوقا لا يعرف الخوف إليه سبيلا ، فالملاحظة العملية قد تنطوى على أخطار كثيرة ، فعندما يكتشف الباحث مثلا قوة طبيعية أو كيميائية أو بيولوجية مجهولة ، فلا بد أن يتوقع حدوث مخاطر .
8) إنكار الذات : فمن شأن العالم الحق ألا يتطلع إلى أى جزاء إلا من الله تعالى ، فوظيفة العالم تقتضى إنكارا للذات ، وامتناعا عن الاستغلال العلم من أجل الإثراء ، ومن هنا قدمت المجتمعات الحديثة دعما ماليا عن طريق الميزانيات الحكومية من أجل البحث العلمى .
9) النقد : النقد هو الحكم ، وروح النقد هى روح الحكم الصائب ، ويعنى هذا أن يتخذ المرء الموقف العقلى للقاضى ، الذى هو بصدد إصدار الحكم ، ومن واجب القاضى ألا يكون متحيزا ، بأن يطرح ميوله الشخصية جانبا ، وأن ينتظر بصبر حتى تعرض عليه كل الحجج التى ينبغى له أن يختار بينها .
10) الخيال : كثيرا ما يقال إن العالم لا ينبغى له أن يكون خياليا ، وهذه الصفة هى التى تميزه عن الفنان مثلا ، بل للخيال أثره فى المجهود العلمى ، فمن الخطأ الاعتقاد بأن العالم لا يضيف شيئا إلى ما يلاحظه ، فالعالم يخمن بأن وراء الاتصال الظاهرى للأجسام المادية أعدادا لا متناهية من الذرات ومركباتها ، ومن الحق أن نصيب العلم من الخيال لا يقل عن نصيب الشعر منه ، غير أن خيال العالم يقتضى نوعا من التضحية ، كما يأبى أن يدين بشىء للحواس ، والجمال الذى يستهويه هو جمال الأعداد والعلاقات المجردة ، وكذلك ينظر إلى الخيال على أنه وسيلة لا غاية ، أما هدف الشاعر فإنه ينحصر فى تحريك خيال القارئ أو السامع دون أن يعبأ بالحقيقة ، بينما النشاط العلمى يخضع فى النهاية للواقع ، ونتائج الخيال العلمى مندمجة فى الواقع أولا وأخيرا ، فليس من الأهداف الأساسية للعلم أن يصنع الجمال ، ولكن هدفه الوصول إلى الحقيقة بقدر الطاقة الإنسانية .
11) الثقافة الواسعة : فالثقافة هى مجموع المعارف المتخصصة التى يتخذها العالم موضوعا لبحثه ، وليس جهل المرء بكل شىء هو الذى يمكنه من مواجهة الواقع بروح نزيهة محايدة ، ومن المسلم به أن روح النقد صفة دقيقة هشة ، ومن هنا كانت محتاجة دائما إلى تقوية وتدعيم مستمدين من التحصيل العلمى ، ويعرف العلماء جيدا مدى تعقد الواقع ، ولا سيما فى العلوم التى تتخذ موضوعها الأحياء بصفة عامة والإنسان بصفة خاصة ، ومن الأفضل أن يلم العالم المتخصص فى علم ما بالعلوم التى يفترضها ذلك العلم .
المصدر : أ/د عبد اللطيف العبد ، دراسات فى الفكر الإسلامى ، القاهرة : مكتبة الأنجلو المصرية ، 1977 م ، (ص 12- 17) .