لما صابر الورد الألم، وتحمل مجاورة الشوك ووخز الإبر، استحق أن يتصدر مجالس الأمراء ويصبح رمز الحسن والبهاء، ولا تكاد تجد هدية أرق من الوردة، ولما آثر الحشيش السلامة، صار مرتع الحمير وعلف البهائم، ورخص وداسته الأقدام، حتى غدا رمز المهانة.
لا أعرف من أين أبدأ، ولكن أجد نفسي وأنا أكتب، أتذكر نشأتي في عائلة كان لها مقام معتبر، ثم دارت عليها الدوائر وتوالت النكبات، تربيت في أحضان أم حنون أشفق علي من نفسي، ولما بلغت السادسة من عمري دخلت مدرسة وتعلمت بها ما كان يتعلمه معي أزيد من أربعين تلميذا، وما حصلته وحصله أولئك التلاميذ إنما هو من مزايا الصدق ومن فضل الله ولا مزية، ولا فضل لأحد من أبناء حواء في ذلك علي أبدا.
أما حياتي فليست ككل أبناء مدينتي، وهذا لأني كنت متمرد حيث لا يظن الآخرون أن ذلك ممكن، لأن احترامي لعقلي هو الذي جعلني أكسر كل ما هو متعارف عليه، واستوعبت مبكرا أن مساحة العيش لا تحسب بعدد الدقائق والثواني، بل بمساحة الإنجاز.
هكذا وعظتني نفسي، فعلمتني لمس ما لم يتجسد ولم يتبلور وأفهمتني أن المحسوس نصف المعقول، وأن ما نقبض عليه بعض ما نرغب فيه، فأصبح المعلوم مطية أركبها نحو المجهول.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن لا أطرب لمديح ولا أجزع لمذمة، وقبل أن تعظني نفسي كنت أظل مرتابا في قيمة أعمالي وقدرها حتى تبعث إليها الأيام بمن يهجوها، أما الآن فقد عرفت أن الأشجار تزهر في الربيع وتثمر في الصيف ولا مطمع لها بالثناء، وتنثر أوراقها في الخريف وتتعرى في الشتاء ولا تخشى الملامة.
وعظتني نفسي، فعلمتني أن السراج الذي أحمله ليس لي والأغنية التي أنشدها لم تتكون في أحشائي، فأنا وإن سرت بالنور لست بالنور، وأنا إن كنت عودا مشدود الأوتار فلست بالعواد.
تلك حياتي من يوم عرفت الحياة إلى أن دخلت الرابعة والعشرون من عمري ولم أظفر بعقد هدنة مع الدهر الذي أشهر علي حربا عوانا، لم أكن أدري متى يكون انتهاؤها لأن هذا العدو القوي كان لا يمسك عني إحدى يديه إلا ليصفعني بالأخرى وكما الشاعر:
نفسي تريد العلى والدهر يعكسها بالقهر والزجران الدهر ظلام.
إن حل عام جديد قمت أسأله قل لي بماذا أتيت أيها العام.
إلى أن جاء ذلك اليوم، لقد كنت وحيدا وكان لمنظر (..القمر..) الأنيق جدا أيما أثر في أن تبلغ وتسكن سويداء القلب، سيكون من غير مجدي تجاهل حقيقة أن الإنسان مميز في هذا الكون، تجبره على أن يكون خليقا بالحب، لم أكن أعلم أن حياتي ستتغير بسبب فتاة، ليس لأني لم أرى أجمل منها، ولكن لا أعرف ماذا حدث...
لقد كانت سببا في عودتي إلى الحياة بأكثر إصرار وعزيمة، وأدركت تفاعلات نفس (روح) إنسانية في معترك الحياة وكيف يمكن لإنسان أن يتوصل لإدراك حب الحياة بعد ثمرة مكابدة وجدانية وروحانية كانت خلاصة تجربة مريرة وطريق صعب في الحياة وذلك بالإيمان والحب.
إن الإنسان قد يعرف الله وقوة الإيمان في معالجة مشاكل الحياة بالحب، فقط لأن الحياة نفسها رسالة حب كبيرة من الله للإنسان، وعلى هذا الإنسان أن يعرف معنى الحب حتى يدرك عظمة ومعنى الرسالة الإلهية.
وسأجعل من هذه الطريقة منهجا في تجارب القادمة لأني اكتشفت فجأة على هامش أزمة عاصفة أن ثمة طريقة لإدراك وسر الوجود هي الحب والكتابة.
إن الحب هو الذي يوحي بالإنجازات التي تعطي معنى لوجودنا، ويبقى الحب كلمة من نور، وفعلا من ضوء القلب، والفناء في الآخر هو أقصى ما يصل إليه المحب، وفعل الحب ليس سهلا كما يظن البعض، إنه فعل إخلاص وتفان وتسامح حيث نغفر للمحبوب خطاياه الصغيرة حتى ننعم بفضائله الكبيرة، الحب رقي وارتقاء، سمو وتسام، عشق واحترام، في الحب نفنى بأرواحنا، ومن أجل من نحب قد نموت، لذلك قال أمير الرومانسية المعاصرة جبران خليل حبران: ((إذا أحببت، فلا تقل لقد وسع قلبي الله، بل قل لقد وسعني قلب الله، ولا تظن أنك قادر على توجيه مسرى الحب، فإنما الحب يقودك إن وجدك خليقا به.)) وقال أيضا: ((إذا بلغت إلى قلب الحياة تجد الجمال في كل شيء، حتى في العيون المتعامية عن الجمال، فالمحبة دائما تعطينا الأمل.)).
وفي الأخير أنا لم أبتكر الكلام عن الحب، فهو عاطفة عرفتها الأرواح منذ أقدم العهود، وما قيمة الدنيا إذا خلت من الحب، ولأي غرض يحيا الناس، إذا أصيبت أفئدتهم بالاعتلال فلم تحس ذلك الروح اللطيف، وهل ينصرف القلب عن الحب وهو في عافية.
اللهم لا تدعني أصاب بالغرور إذا نجحت ولا باليأس إذا فشلت بل ذكرني دائما أن الفشل هو الخطوة التي تسبق النجاح.