أدب الظل أو الأدب المستريح
عبد اللطيف المصدق
بعيدا عن أدب الطاعة والولاء الذي قيل في حضرة السادة المبجلين من الخلفاء والملوك والوزراء والأعيان، نجد نوعا آخر يسير معه بالتوازي لكن كالظل الشاحب. ويمكن أن نطلق عليه أدب العتمة أو الأدب المستريح.
وكلمة المستريح التي وصفنا بها هذا النوع من الأدب نعني بها قدرة الكاتب أو الشاعر على التخفف من كافة الارتباطات والتوجيهات الخارجية بحيث يكون في وضعية درجة الصفر لا له ولا عليه، وبحيث يمكنه في أي وقت وحين أن يطلق العنان لجميع زفراته الحارة والباردة، كما هي في الواقع والحقيقة، لا كما يراد لها قسرا أن تكون.
وهذا النوع من الأدب المستريح لم يجد له في بيئة النقد العربي القديم، مع الأسف، من الاهتمام ما ينفض عنه غبار الإهمال والنسيان؛ لأن اهتمام معظم النقاد العرب القدامى الذين يتهمهم بعض المستشرقين بأنهم من طينة (البلاطيين)، شأنهم كشأن الشعراء والكتاب المأجورين، كان منصبا من حيث المنطلق والأساس على النصوص والمتون الأدبية التي أنتجها أصحابها المحظوظون في حضرة السلاطين أو باسمهم أو تحت وصايتهم وعهدتهم، فسلطوا عليها لأجل ذلك الأضواء وحازت لوحدها بكل ما يمكن أن يكون في الأدب من فضيلة أومزية.
فقد حدثتنا بعض كتب التراجم أن خلقا من الشعراء كانوا كالملوك يأكلون بملاعق الذهب ويملكون القصور والضيعات والحشم والخدم، ويركبون البرذون(1) الفاره الذي يمكن أن نشبهه في عصرنا الحالي بسيارة( الليموزوين) الطويلة العريضة التي لا تركبها إلا طبقة معينة من الناس اختصت بالمال والوجاهة والوسامة والجمال، ولا ترى إلا من بعيد أو عبر شاشات التلفزيون.
ومما لاشك فيه أن القدرة على الهجاء لدى الشاعر المحنك كالقدرة على المدح، فهما عنده سيان، غير أن بريق المال كالحب الشديد يصم ويُعمي ويذهل صاحبه عن نفسه وعن الحقيقة المرة من حوله وعن الوجود.
والطمع قد غير كثيرا من طباع شعراء العربية، وحولها عن سجيتها الأولى الحقيقية إلى الثانية المزيفة أو المزورة. قال أحد الشعراء مهددا أحد الممدوحين بهذه الحقيقة التي يقتنع بها الممدوحون في قرارة أنفسهم، ومعبرا في نفس الوقت عن التركيبة المزدوجة التي تجعل كثيرا من الشعراء يداهنون ويظهرون غير ما يضمرون:
لا تأمنن النفثة من شاعر ما دام حيا سالما ناطقــــا
فإن من يمدحكم كاذبـــا يحسن أن يهجوكم صادقــا
إن لعبة الأدب أو الإبداع المأجور لعبة مفضوحة مكشوفة رغم انشغال محللي الخطاب الأدبي في القديم والحديث بتحليلها وتعليلها وتجميلها عبر كثير من الكتب والمؤلفات التي قد تدرج ضمن كتب النقد والبلاغة والأساليب الرفيعة.
وقد بذل الحكام وسعهم لدرء الهجاء بالعطاء الجزيل طوال التاريخ العربي القديم المحسوب أيضا على كثير من المؤرخين البلاطيين، حتى إذا فاض الكيل بابن الرومي نطق بهذه الحقيقة في وجه الحكام وفي وجه النقاد المزيفين المجملين:
لا لأجل المديح بل خيفة الـــــهجو أخذنا جوائز الخلفاء
وبما أنه لم يكن بوسع جميع شعراء وكتاب العربية أن يلتحقوا بالكوكبة البلاطية لأسباب مختلفة؛ فمنهم من تمنعه همته، ومنهم من تمنعه عاهته، ومنهم من تمنعه قلة حيلته، أو حظه العاثر في الدنيا أوسوء طالعه، أو حتى جنوحه الفطري للسلامة والراحة فقد بقي هامش كبير من التراث الأدبي العربي في الظل ولم يجد له بعد إبداعه وحتى هذه اللحظة من يمهد له الطريق اللاحب الواضح الخالي من المسامير والشوك ليعرفه على أصله وحقيقته عامة الناس قبل خاصتهم.
وإنها لنفس التركيبة الازدواجية التي يعيشها الإبداع العربي في وقتنا المعاصر، بحيث لا سبيل إلى الشهرة إلا بالارتسام ضمن دائرة معينة من دوائر الولاء المتعددة في عصرنا. تلك الدوائر الحلزونية التي تتعدد بتعدد الأنظمة والأحزاب والطوائف والجمعيات والمدارس والمناهج والتجمعات والتكتلات والشعارات…
ويهمنا كثيرا أن نسلط مزيدا من الأضواء على هذا الأدب المستريح في الظل كالغيلم (وهو ذكر السلحفاة) عندما يدخل في مرحلة السبات الموسمي عند حلول فصل الشتاء. وهذا ما سنسعى إلى كشف غطائه بالتدريج في الأوراق الموالية.