مقدمة :
الإبداع والابتكار والتجديد … عناصر أساسيّة لتطوير الحياة .
من الناس قاعدون كسالى يعيشون على جهود غيرهم .
ومنهم عاملون ، على درجات متفاوتة في الجد والدأب والمثابرة ، لكنهم نمطيّون تقليديّون ، لا يملكون القدرة على تحسين الواقع وتقديم الجديد ، فهم يكرّرون أنفسهم ، ويؤدّون إلى زيادة في الإنتاج.
وإذا كان وجود القاعدين الكسالى ضارّاً بالمجتمع ، فإن وجود العاملين ، لا سيّما أصحاب الجدّ والدأب … ضروري لا تقوم الحياة بدونه .
لكن ثمّة فريقاً ثالثاً ، عليه مدار التجديد والتحسين . إنه فريق المبدعين ، الفريق الذي لا يكتفي بالتعامل مع ما هو موجود ، ولا بتكراره والسير على الأنماط المألوفة ، بل يملك النزوع نحو التغيير والقدرةَ عليه ، فإذا كان تغييراً نحو الأحسن فهو الإبداع ، وأصحابُه صنف نادر في الحياة ، وعليه المعوّل في تحويل تيّار المجتمع نحو الأفضل .
وإذا كان وجود المبدعين مهمّاً في كل ظرف ، فإنه في ظروف الضعف والركود والإحباط … يكون وجودهم في غاية الأهمية ، إذ لا مخرج من الأزمات إلا بوجود أصحاب المواهب والكفاءات المتميّزة .
حين نقرأ عن أبي الأَسْوَد الدُّؤَلي الذي بدأ بوضع قواعد النحو ، والخليل بن أحمد الفراهيدي الذي استنبط بحور الشعر العربي ، والإمام الشافعي الذي وضع أول كتاب في أصول الفقه ، وابن خلدون الذي أرسى قواعد علم الاجتماع ، وابن الهيثم ونظرياته في علم الضوء ، وابن النفيس في اكتشافه للدورة الدموية الصغرى … وحين نقرأ عن نيوتن وغاوس وآينشتاين الذين أبدعوا في الرياضيات والفيزياء … فإننا نتحدّث عن أنماط فريدة ، لم يكن إنتاجها مجرّد تكرار أو تجميع ، بل هو تحويل للتيار ، كلٌّ في ميدان عمله وإنتاجه .
وليس المراد أن يأتي المبدع بشيء جديد منقطع عما قبله ، بل أن يبني على ما سبقه ويأتي بالمزيد ، ويكون إبداعه بمقدار حجم هذا المزيد ونوعه وقيمته .
ومع هذا يمكن التمييز بين إبداع كلّي وإبداع جزئي . فالإمام الشافعي مثلاً وجد أمامه نتاج فقهاء مجتهدين اتّبعوا قواعد معينة في اجتهادهم فكان له فضل السبق في استنباط هذه القواعد وضبطها … ثم جاء مِنْ بعده أصوليّون تقدّموا خطوات أخرى في علم الأصول فكان لهم إبداعات بقَدَر ، وكان له فضلٌ في إبداعٍ أعمق وأشمل .
ومثل هذا يقال في الإبداع في أي مجال من مجالات اللغة والأدب والإدارة والسياسة والفيزياء والتكنولوجيا والطب والصيدلة …
هل الإبداع والابتكار كلمتان مترادفتان ؟
قد يعدّ الابتكار إنتاج أي شيء جديد ، من حل مشكلة ، أو تعبير فني . والجدّة هنا أمر نسبي ، فما يُعَد جديداً بالنسبة لفرد قد يكون معروفاً لدى آخرين . والطفل في كثير من ألعابه مبتكر أصيل ، وكذا من يخترع جهازاً أو يضع نظاماً اجتماعياً أو اقتصادياً جديداً .
وأما الإبداع فهو حالة خاصة من الابتكار وذلك حين يكون الشيء الجديد جديداً على الفرد وغيره.
وكثير من الباحثين يجعل الإبداع والابتكار مترادفين ، إذ العبرة بوجود السمات العقلية والنفسية التي تؤهل صاحبها للإتيان بالجديد .
ونحن سنعتمد في هذا البحث ترادف الكلمتين . فنقول : الإبداع أو الابتكار هو النشاط الذي يقود إلى إنتاج يتّصف بالجدّة والأصالة والقيمة بالنسبة للمجتمع .
مستويات الإبداع :
وبديهي أن الإبداع على مستويات شتى ، منها البسيط الذي يقدر عليه كثير من الناس ، ومنها المتوسط الذي تقدر عليه قلة من البشر ، ومنها العالي الذي ينتجه العباقرة .
قد تقرأ قصيدة لشاعر عادي فتجد في أحد أبياتها صورة شعرية جديدة ، وقد تجد شاعراً محلّقاً يهز مشاعرك ويأخذ بأحاسيسك وأنت تحلّق معه في صور ومعانٍ وتعبيرات فائقة .
عناصر الإبداع :
وفي تقويم أي عمل إبداعي أو شخصية مبدعة ينظر إلى توافر عناصر الإبداع الأساسية وهي : المرونة والطلاقة والأصالة
فأما المرونة فتعني سيولة المعلومات المختزنة ، وسهولة استدعائها وتنظيمها وإعادة بنائها والنظر إلى المسائل من زوايا عدّة .
وأما الطلاقة فهي غزارة الإنتاج ، وسرعة توليد وحدات من المعلومات ، كإعطاء كلمات تتفق مع معنى ما ، أو تضاده ، أو تربط جزءاً بكل . والطلاقة تقارب مفهوم التفكير المتشعب .
وأما الأصالة فتعني التفرد بالفكرة . ولا يقصد بذلك أن تكون الفكرة منقطعة عما قبلها ولكن صاحبها زاد فيها شيئاً ، أو عرضها بطريقة جديدة ، أو وصل إلى نظرية تنتظم أفكاراً متفرقة قال بها آخرون ، فالخليل بن أحمد مبدع حين استنبط قواعد الشعر التي كان يمارسها الشعراء ، والإمام الشافعي أبدع في استنباط قواعد أصول الفقه التي كانت مختزنة في عقول الفقهاء ، وماندلييف أبدع في نظم جدول التصنيف الدوري للعناصر التي كانت معظم خواصها معروفة من قبله ، وفتحي الدريني أبدع حين وضع نظرية التعسف في استعمال الحق ، مع أن الفقهاء منذ القديم كانوا يحكّمون هذه النظرية في كثير من الأحكام ...
وتعني الأصالةُ في النهاية أن تكون الفكرة المبدعة جزءاً من شخصية المبدع .
والمفكرون الذين يتميزون بالأصالة هم أكثر تفتحاً ، عقلياً وانفعالياً .
وبعض علماء النفس يزيد على عناصر الإبداع الثلاثة المذكورة ، عناصر أخرى مثل الفائدة ( بأن يكون الشيء الجديد مفيداً للمجتمع ) ، والقبول الاجتماعي بأن يكون موافقاً لقيم المجتمع .
لكن مثل هذين العنصرين يبقيان محل جدل ، فقد لا تدرك فائدة الجديد إلا بعد حين ، وقد يكون هذا الشيء مفيداً في مجال وضاراً في مجال ، وقد يكون مرفوضاً من المجتمع اليوم ، مقبولاً غداً ، أو مرفوضاً في مجتمع مقبولاً في مجتمع آخر ...
مجالات الابتكار :
ومن خلال ما ذكرنا يكمن الوصول إلى أن للابتكار والإبداع مجالات شتى كالأدب وفنونه ، والفقه وأصوله ، والاقتصاد ، والكيمياء ، والعسكرية ، وعلوم اللغة ، والرسم والموسيقا ...
ولكل مجال مقاييسه وخصوصياته ، وإن كانت المقاييس في الفنون والآداب أقل تحديداً ، وأصعب ضبطاً .
أهمية الابتكار :
حظي الابتكار بدراسات كثيرة في النصف الثاني من القرن العشرين ، فهَو ، في أرفع مستوياته ، من أهم الصفات الإنسانية التي تغير التاريخ ، فالمجتمع لا يمكن تغييره تغييراً نوعياً عبر التخطيط ، بل عبر أعمال المبدعين .
يشير كونانت conant ـ ( 1964 ) إلى أهمية المبدعين فيقول : " إن عالماً واحداً من المرتبة الأولى ( أي من المبدعين ) لا يعوضه عشرة رجال من الدرجة الثانية في العلوم . إنه لعديم الجدوى أن يسند إلى رجل من الفئة الثانية مهمة حل مشكلة من المستوى الأول " .
هل الموهوبون هم المبدعون ؟
الموهوبون نوعان : نوع يتميز أفراده بقدرات إبداعية ، ويغلب عليهم أسلوب التفكير التشعبي ، أي القدرة على توجيه تفكيرهم في اتجاهات عدّة ، وقد تتصادم نتائج تفكيرهم مع أعراف المجتمع وقيمه وأنظمته ... وقد لا يكونون من المتفوقين في مقاييس الذكاء العام أو مقاييس التحصيل الدراسي، وقد يصعب التعامل معهم في المؤسسات المألوفة .
ونوع يتميز بذكاء مرتفع ، ويغلب عليه أسلوب التفكير اللامّ ، أي التفكير المركّز حول مناهج دراسية ، وأساليب إدارية مقررة ، وقواعد أخلاقية واجتماعية سائدة .
وكلا النوعين ، إذا اقترن بالدأب والجدّ والمثابرة ، أو توافر فيه الدافع والمزاج ، فإنه يؤدي إلى نتائج إيجابية رفيعة ، إما في مجال الإبداع ، وهو النوع الأول ، أو مجال التفوق الدراسي وما يتبعه من النجاح في معظم المؤسسات الرسمية والخاصة ... وهو النوع الثاني .
إن الارتباط بين الذكاء العام وبين الإبداع ارتباط ضعيف . لذلك يجب البحث عن الصفات الشخصية الأخرى للمبدعين .
وإن مقاييس الذكاء ، والتفوق الدراسي ، والشهادات الأكاديمية ... لا تصلح لكشف القدرات الإبداعية .
العصف الذهني : Brain strome
والمراد به إتاحة الفرصة للإنسان كي يفكر بعيداً عن أي ضغط أو مؤثر سلبي ، ليُخرج كل ما عنده بطلاقة تامة ... بل قد لا يكتفى بإتاحة الفرصة ، فيزاد على ذلك إيجاد نوع من الإثارة التي تحفّز التفكير الطليق التشعبي التباعدي .
والهدف من العملية هو كشف الإبداع الكامن ، وإظهار الحل المبدع للمشكلة .
في المثال التالي بيان لمعنى عناصر الإبداع : المرونة والطلاقة والأصالة ومعنى العصف الذهني الذي قد يأتي بنتائج باهرة لكنها غير متوقعة ، وغير منسجمة مع الأساليب المألوفة . وهو مثال من عالَم الفيزياء :
الباروميتر وناطحة السحاب .. والعصف الذهني
في امتحان الفيزياء في جامعة كوبنهاجن بالدانمارك ، جاء أحد أسئلة الامتحان كالتالي : كيف تحدد ارتفاع ناطحة سحاب باستخدام الباروميتر ( جهاز قياس الضغط الجوي ) ، كانت الإجابة الصحيحة : هي بقياس الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وسطح ناطحة السحاب .
إحدى الإجابات استفزت أستاذ الفيزياء ، وجعلته يقرر رسوب صاحب الإجابة بدون قراءة بقية إجاباته على الأسئلة الأخرى .
كانت الإجابة المستفِزّة هي : نقوم بربط الباروميتر بحبل طويل ، وندلي الخيط من أعلى ناطحة السحاب حتى يمس الباروميتر الأرض . غضب أستاذ المادة لأن الطالب قاس له ارتفاع الناطحة بأسلوب بدائي ليس له علاقة بالباروميتر أو الفيزياء .
تظلم الطالب مؤكداً أن إجابته صحيحة 100% وحسب قوانين الجامعة ، فقد عُين خبير للبت في القضية .
أفاد تقرير الخبير أن إجابة الطالب صحيحة لكنها لا تدل على معرفته بمادة الفيزياء ، وتقرر إعطاء الطالب فرصة أخرى لإثبات معرفته العلمية ، فتمّ إحضار الطالب أمام الخبير ، الذي أعاد طرح السؤال نفسه شفهياً ، فكّر الطالب قليلاً ، وقال : " لدي إجابات كثيرة لقياس ارتفاع الناطحة ولا أدري أيها أختار " . فقال الحكَم : " هات كل ما عندك "
. فأجاب الطالب :
يمكن إلقاء الباروميتر من أعلى ناطحة السحاب على الأرض ، ويُقاس الزمن الذي يستغرقه الباروميتر حتى يصل إلى الأرض ، وبالتالي يمكن حساب ارتفاع الناطحة ، باستخدام قانون الجاذبية الأرضية ، وعندما تكون الشمس مشرقة ، يمكن قياس طول ظل الباروميتر وطول ظل ناطحة السحاب ، فنعرف ارتفاع الناطحة من قانون التناسب بين الطولين وبين الظلين ، أو إذا أردنا حلاً سريعاً يريح عقولنا ، فإن أفضل طريقة لقياس ارتفاع الناطحة باستخدام الباروميتر هي أن نقول لحارس الناطحة : " سأعطيك هذا الباروميتر الجديد هدية إذا قلت لي كم يبلغ ارتفاع هذه الناطحة " ؟ . أما إذا أردنا تعقيد الأمور ، فسنحسب ارتفاع الناطحة بواسطة الفرق بين الضغط الجوي على سطح الأرض وأعلى ناطحة السحاب باستخدام الباروميتر .
كان الحَكَم ينتظر الإجابة الأخيرة التي تدل على فهم الطالب لمادة الفيزياء ، بينما كان الطالب يعتقد أن هذه الإجابة هي أسوأ الإجابات لأنها الأصعب ، والأكثر تعقيداً .
بقي أن نقول : إنّ اسم هذا الطالب هو " نيلز بور " ، وهو لم ينجح فقط في مادة الفيزياء ، بل إنه الدانمركي الوحيد الذي نال جائزة نوبل في الفيزياء .
الصفات الشخصية للمبدعين
تقوم الدراسة الإحصائية لشخصيات المبدعين على دراسة كل صفة عقلية أو نفسية من الصفات المتوقع تأثيرها ، مقارَنَةً مع مجموعة ضابطة ، بشرط أن يكون أفراد المجموعة الضابطة من المستوى العلمي أو التخصصي نفسه ، كأن تقاس تلك الصفات لدى كيميائي مبدع وآخر عادي ، وكلاهما يحمل الشهادات الدراسية نفسها ، والدرجة العلمية ذاتها ، وكذا تقاس لدى كاتب للقصص الخيالي مع قصاص آخر ... وهما يحملان الشهادة الدراسية ذاتها .
ونتيجة الدراسة الإحصائية تلك تبين أن هناك زمرتين من الصفات الشخصية للمبدعين : الصفات العقلية ، والصفات النفسية والمزاجية .
1. الصفات العقلية :
أساس الإبداع هو التفكير التباعدي أو التشعبي ، وعناصره الأساسية ثلاثة هي : المرونة والأصالة والطلاقة . وهنا نستعرض عوامل وجوده .
فأهم عوامل وجوده العقلية هي :
1) الذكاء :
قد يبدو أن الذكاء الحاد والإبداع متلازمان ! والحقيقة إن الارتباط بينهما ليس كما نتصور ، والعلاقة بينهما تحتاج إلى توضيح وتفصيل .
إذا اعتبرنا الذكاء قدرة عقلية عامة فهو يختلف عن الإبداع ، وإن كان يرتبط به ، لأن الإبداع عملية أكثر تحديداً وأكثر خصوصية من الذكاء ، كما أن الإبداع ليس جزءاً من الذكاء وإن كان مرتبطاً به .
فقد تبين بالاستقراء والملاحظة والبحث العلمي أن الأذكياء جداً ليسوا مبدعين دائماً ، وأن المبدعين ليسوا دائماً من الأذكياء جداً ، فمن يحصل على علامات مرتفعة جداً في روائز الذكاء ليس دائماً من المبدعين ، وكذلك لم يحصل المبدعون على الدرجات العالية جداً في روائز الذكاء .
مع هذا كله ، وُجدت علاقة بين الذكاء والابتكار في المستويات العليا جداً ، وعندئذ يجتمع الاتزان النفسي ، والاستقامة السلوكية والنتائج العبقرية ، وهو ما كان عند أئمة وقادة عظام كأبي بكر وعمر ، وخالد والمثنى ، وأبي حنيفة والشافعي ، وأبي الأسود الدؤلي والخليل ، والشاطبي وابن خلدون ، وحسن البنا وسيد قطب ...
ويبدو أنه عندما لا يكون للذكاء أهمية ظاهرة في عملية الابتكار فإن خصائص الشخصية الأخرى، النفسية والمزاجية ، تتدخل بشكل حاسم .
الذكاء شرط للإبداع ، فلا بد من حد أدنى مقبول لحدوث الإبداع ، فإذا تحقق هذا الشرط فإن الإبداع يتوقف على عوامل أخرى عقلية ونفسية .
ولابد من ملاحظة اختلاف هذا الحد الأدنى للذكاء بين ميدان وآخر من ميادين الإبداع .
مثلاً : لوحظ أن درجة الذكاء المطلوبة في الإبداع التقني ، كاختراع الأجهزة ، درجة قليلة نسبياً بالقياس إلى الدرجة المطلوبة في العلوم الفيزيائية والرياضية .
وكذلك فدرجة الذكاء المطلوبة في الإبداع الأدبي درجة عالية نسبياً أمام الدرجات المطلوبة في ميادين الإبداع التعبيري الأخرى كالرسم والتمثيل ، وأمام الدرجات المطلوبة في الإبداع العلمي والتقني.
2) الحساسية للمشكلات :
والمراد منها حساسية الفرد لوجود مشكلة تثير التفكير تتطلب حلاً . وفي الإبداع العلمي خاصة يتوقف نجاح الفرد إلى حد كبير على قدرته في طرح الأسئلة ، وعلى نوع هذه الأسئلة.
وكثير من هذه المواقف لا يجد فيه الإنسان العادي مشكلة ، بينما يرى فيه آخرون مشكلة، وذلك لاختلاف معايير كل إنسان وموازينه وطريقة تفكيره ومستوى هذا التفكير ، واهتماماته ودوافعه .
3) درجة التعقيد التي يمكن للفرد أن يتعامل معها :
وهي قدرة الفرد على توجيه فكره في أكثر من اتجاه في الوقت نفسه ( أي قدرته على التفكير التشعبي أو التباعدي ) ، وهو أمر تزداد صعوبته كلما ازداد عدد العناصر التي يتعامل معها العقل أثناء التفكير .
4) قدرة الفرد على التقويم المناسب للأفكار :
يجب أن تكون الأفكار صالحة ومقبولة حتى تكون مفيدة ، وإذا غاب التقويم كانت الأفكار محتوية على جزء كبير غير مناسب ، وصَرْف الجهد العقلي في معالجة هذا الجزء تضييع للوقت ، وتعويق للإبداع .
لكن درجة الضبط يجب ألا تكون كبيرة بحيث تؤثّر على عناصر الإبداع الأساسية ( المرونة والطلاقة والأصالة ) وإلا كانت جموداً وعُقْمَ تفكير ، وقد تمنع الفرد من التفاعل مع العناصر بشكل أصيل . وإن مشكلةَ أن يكون التقويم سبباً في تعويق الدماغ ، كانت عاملاً في ظهور طريقة خاصة في تدريب الإبداع سمّيت ( العصف الذهني ) .
2. الصفات النفسية والمزاجية :
من أبرز الصفات النفسية عند المبدعين صفة الاعتماد على النفس والثقة الزائدة بها، والتحفظ والعزلة ورقة القلب والحساسية والتفكير المستقل ، والبصيرة النفسية ، وضعف الأنا الأعلى ( أي الانتساب إلى المجتمع ) .
الابتكار – بعكس الكفاءة في الأعمال التقليدية – ليس بالضرورة مرغوباً به في كثير من المهن والأعمال ، لأن صاحبه واثق من نفسه جداً ، ويتصرف بأسلوب مفاجئ ، وقد لا يلتزم بالمعايير الخُلُقية والاجتماعية ( وخاصة إذا كان الابتكار في ميادين الفنون والآداب ) .
ويتّسم المبدعون من الأدباء إلى سمة يمكن تسميتها بالبصيرة النفسية أو التقمص الوجداني. وهي تعني قدرة الأديب أو الفنان على فهم شخصيات الآخرين ، والشعور بمشاعرهم ، والتوحد مع الموضوع ، وهذه القدرة تختلف عن المشاركة الوجدانية التي تعني التعاطف .
الفنان المبدع إذاً يحس بمشاعر الآخرين ، وينظر إلى الأحداث من خلال عيونهم ، ويدرك دوافع سلوكهم ... وقد يدين في أثناء ذلك ، أو في نتيجته ، تلك الدوافع .
كما ينشأ عن البصيرة النفسية لدى المبدعين من الأدباء والفنانين : الاتجاه الجمالي الذي يعني الالتقاط الحساس لأي تناسق أو عنصر جمالي يقع في مركز الانتباه ، واستقراء معانٍ لا يدركها الإنسان العادي ، لكن الإنسان العادي عندما يطلع عليها في أعمال الفنان أو الأديب يعجب بها ، أو يستهجنها . ومثال ذلك رؤى الصوفيين .
ونتيجة لشعور المبدع بتميزه ، واستقلال تفكيره ، ومخالفته لرؤى أبناء مجتمعه في مجال رؤاه الخاصة ... ينمو عنده الاعتداد بالنفس والاعتماد عليها ، بمقابل ضعف شعوره بالانتماء إلى المجتمع الذي لا يقدِّم إليه – وفق اعتقاده – إلا القليل .
المدرسة والإبداع :
مما سبق نجد أن ارتباط الذكاء بالتفوق الدراسي ارتباط قوي ، أما ارتباطه بالإبداع فليس كذلك . ومن المناسب ذكر بعض التكملات والتوضيحات لعلاقة المدرسة بالإبداع والذكاء .
التعليم المدرسي بالضرورة يعتمد على المنهاج ، مهما كان في هذا الاعتماد من مرونة ، ويقوّم الطلاب – بالضرورة – وفق التحصيل الدراسي واستيعاب المنهج مهما اعتمدت الاختبارات على الاستنباط والربط ...
ونتيجة لذلك سيكون التعليم المدرسي كاشفاً للذكاء ، مثمّناً له ، مهملاً للابتكار ، وربما قامعاً له ! وكثيراً ما اتُّهم المبدعون العباقرة بأنهم أغبياء متخلفون ... حينما كانوا على مقاعد الدراسة .
يجد المبدع أن التزامه بالمنهج المدرسي وضوابط الاختبارات التي تفرض عليه التقيد بمعطيات المنهج ... تشكل تهديداً خطيراً لقدراته الإبداعية ، يقول آينشتين عن ذلك :
" لقد كان هذا القيد مفزعاً للغاية ، لدرجة أنني بعدما اجتزت الامتحان النهائي وجدت نفسي غير قادر على التفكير في أي مشكلة علمية لمدة عام تقريباً " .
وفي سن السادسة عشرة رسب آينشتين في امتحان القبول في معهد الفنون التطبيقية بزيورخ ، ولكنه نجح في العام التالي بدرجة مُرْضية .
وأعلَن آينشتين مرة " إنني لا أكدّس الحقائق في ذاكرتي ، حيث إنني أستطيع الحصول على تلك الحقائق بسهولة في إحدى الموسوعات " .
ومثال آخر : التحق الطفل بمدرسة البلدة ، التي لم تكن تلقن التلاميذ في ذلك الوقت ، أكثر من القراءة والكتابة والحساب أي استخدام الأعداد . وكانت المدرسة تستخدم العصا لحث الأولاد الكسالى والمبطئين أو البلهاء – كما كانوا يسمونهم . وكان المعلمون عاجزين تماماً عن قراءة ما يدور في عقل تلميذهم الجديد ، فكان يجلس ثم يرسم صوراً ، ويلتفت حوله ، وقد يصغي إلى ما يقوله كل واحد منهم، وكان يوجه أسئلة " مستحيلة " لكنه يأبى أن يجيب على إحداها ، حتى لو هدده المدرس بالعقاب. وكان الأطفال يلقبونه " الأبله " ، وبوجه عام كان في مؤخرة صفه . وذات يوم ، زار أحد المفتشين الصف فتوجه إليه المعلم بالشكوى من سلوك التلميذ الجديد قائلاً : " إن عقل هذا الصبي مختل وهو غير أهل لإبقائه في المدرسة أكثر من ذلك . " ولكن بمرور الوقت أصبح هذا الصبي عالماً ذائع الصيت ، فلم يكن إلا " توماس أديسون " Edison المخترع الأمريكي ( 1847-1931 ) ، وكلنا يعلم ما قدمه للبشرية من مخترعات يسّرت لها أسباب الحياة والرفاهية ، ومنها : الحاكي ( الفونوغراف) ، الخيالة ( آلة السينما ) ، المحرك الكهربائي ( الموتور ) ، البطارية الكهربائية ، الهاتف ، والمصباح الكهربائي المتألق ... الخ .
ومثال آخر : أحد مهندسي المعمار الأمريكيين الذين درسهم ماكينون Mackinnon ـ ( 1962 ) ، كان واحداً من أكثر التلاميذ تمرداً ، ولكن بمضي الوقت أصبح من أكثر مهندسي عصره إبداعاً . وكان عميد معهد الفنون الذي يدرس به ، قد نصحه بأن يترك دراسة الفن ويتجه إلى أي عمل آخر ، حيث إنه لا يملك أية موهبة ، بدلاً من تضييع وقته سدى .
فإذا سألنا بعدئذ : لماذا تفشل المدرسة عادة في كشف المبدعين ؟ كان الجواب : لأن المدارس تعتمد معايير نمطية لا بديل عنها ، وهي تصلح للشريحة العظمى من الطلاب ، وتركّز – في الدرجة الأولى – على القدرات المعرفية ( التعرف ، التحقق ، اليقظة ... ) ثم على القدرات التقاربية ( أي الانسجام مع معايير السلوك المقبولة اجتماعياً ورسمياً ، والقرب من الاتجاه الصحيح والحل الصحيح ) ثم على الذاكرة ، ثم على القدرات التقويمية كالتفكير النقدي والمقارن ، وأخيراً على القدرات المتعلقة بالابتكار ( كالتفكير المستقل والمستفسر ) وهي التي تسمى بالعمليات العقلية التشعبية أو المتباعدة ، والتي يمكن أن تتوصل إلى نتائج مفاجئة غير مألوفة ، وهي تقابل طرائق التفكير اللامّ أو القدرات التقاربية ، التي تنتهي إلى نتيجة محددة سلفاً .
لذلك فإن كثيراً من المبتكرين لم يتوصلوا إلى مكانتهم المرموقة في الجو المدرسي وحتى نهاية المرحلة الثانوية ، وأحياناً حتى نهاية المرحلة الجامعية .
ولكن هل يمكن التعامل مع التلاميذ في خطين متباينين : الخط النمطي الذي يشمل عامة التلاميذ ، والخط المستقل الذي يصلح للتعامل مع مبدع في الرياضة أو الكمبيوتر أو الشعر ... ؟! الأمر ليس سهلاً ، لكن ما يُقَرِّبُه هو نشر ثقافة تربوية بين المربِّين يعرفون من خلالها خصائص الشخصية المبدعة ، ووجود مشرفين تربويين يتمكنون من كشف تلك الخصائص وتوجيهها ورعايتها .
وهذا يوصلنا إلى حقيقة أخرى وهي أن الإبداع الكامن في النفس لا قيمة له حتى يتحقق في واقع ملموس ، لأن هذا التحقق يجعله محدداً واضحاً ، فكما يقال : إن أفضل ما يحدد الناس المبدعين موضوعياً هو أعمالهم . ويقول آينشتين في هذا : لكي يكون لمفهوم الابتكار معنى حقيقي ، يجب أن يقدّم مقياساً لنفسه .