صراخ الطفل داخل غرفة طبيب الأسنان الذي يعالجه يصم أذني، أحس به، فقدكنت في مثل سنه أرى طبيب الأسنان وكرسيه الجامدة تنينا خرافيا، له رهبة في صدري تتعدى تصوراتي للموت.
أخذت أتامل غرفة الانتظار، التي أجلس فيها، محاولا اشغال نفسي عن ذلك الصراخ المتذبذب بين علو وخفوت.
أنا وحدي في هذه الغرفة، إلا من طفل يجلس على كرسي محني الظهر، يدق برأس حذائه الأرض، حاولت تخمين ما يفكر به
اللوحة التي على الحائط أمامي لأسنان مشوهة، ومنخورة دفعتني للتركيز في غيرها، أزحت بصري بإشمئزاز
على الجدران الأخرى، علقت لوحات مشابهة، هنالك لوحة تمثل القط "توم" مع الفأر "جيري"، توم يعاني من وجع في أضراسه، جيري يهديه فرشاة أسنان، ويحذره من أكل الحلوى، ابتسمت، وأنا أتذكر أفلام الكرتون التي كنت متعلقا بها في صغري.
نهضت من مكاني، جلست بجوار الطفل، ابتسمت له. بادرته التحية، رفع رأسه، نظر إلي بعينيه العسليتين متفحصا، ملامحه تدل على أنه لم يتجاوز الخامسة عشر من عمره، بادلني التحية، رائحة السجائر النفاثة تنبعث من ملابسه.
_قلت له: ما اسمك؟
_أجابني وعيناه المشاكستان ترمقني: علي.
-قلت: اسم جميل، في أي صف أنت؟
_خفتت حدة نظراته وهو يقول: إنني أعمل.
_قلت: تعمل!
_..........
تنهد بحرارة، كشفت ابتسامته الحائرة عن أسنان صفراء نخرها السوس، هم بقول شيء، إلا أن الممرضة خرجت يتبعها رجل يصحب طفلا أثار الدمع لم تجف عن صفحة خده، وقد انتفخ جانب فمه، مسحت الممرضة رأسه بحنان، وبلهجة الناصح قالت له: لا تأكل الشوكلاته كثيرا، وبعد الأكل فرش أسنانك بالفرشاة والمعجون.
هز الطفل رأسه هزات خفيفة، بينما شكرها والده قبل أن يتوارى خارجا.
التفتت الممرضة إلى الطفل الذي بجواري، وقالت له: لقد جاء دورك.
نهض "علي" بخطوات سريعة، دون أن يلتفت لي، لتبتلعه "غرفة التنيين".
ترى لماذا خرج من المدرسة؟ ...ربما الفقر أخرجه.... قد... أو أنه طرد... يجوز....أو..أو...
في هذه الأثناء، دخلت عجوز لم أنتبه لها للوهلة الأولى، بخطواط متقاربة، وظهر أحناه الزمن، سارت حتى جلست على مقربة مني، بعد أن دونت اسمها لدى الممرضة، مظهرها يدلل على النبل، في يدها حقيبة صغيرة، جميلة، على رأسها غطاء مزركش، وقد ارتدت ثوبا طويلا، فضفاضا، لا تنقصه النظافة، كانت في حدود السبعين.
_ترى لماذا حضرت وحيدة ؟... لماذا لم يأت معها أحد أولادها؟
وبيدين بانت عروقهما أخرجت من حقيبتها الصغيرة منديلا ملفوفا بعناية، نظرت إليه بفضول، وبينما كانت تكشف عن ذك الشيء، انتابني الاشمئزاز لدى رؤيتي لطقم أسنان اختلطت فيه ألوان لم أرها من قبل، ومن طرف عيني لمحت العجوز تمسح الطقم بعناية، بيديها اللتين أنهكهما الزمن كأنه طفلها، عيناها تنظر إليه بحنو واضح، شفتاها مطبقتان، وقد دخلتا قليلا في فمها، أخذت تمرر المنديل على الأسنان التي كسر بعضها، أثار الزمن بادية عليه.
كم سنة عمر هذا الطقم ؟... لاشك بأنه عزيز على قلبها.
تزاحم الأسئلة في عقلي يدفعني لبحث طريقة للحصول على جواب قبل دخولي تلك الغرفة، تحسست بلساني ضرسي الذي نخره السوس واستوطنه، لا أدري كيف أبدأ كلامي معها، تنحنحت، أجلت بصري بالسقف وقلت لها بعد أن كتمت نفسي:
_عفوا يا حجة، هل تسمحي لي بمحرمة؟
_وبدون تردد ناولتني من حقيبتها مجموعة من المحارم، شكرتها وقلت: يمكنك أخذ دوري
_ردت بفم خال من الأسنان: الله يرضى عليك غير مستعجلة.
_سألتها وأنا أشير إلى الطقم: يبدو أنه قديم! كم عمره؟
_نظرت إلي بعينين لم يخل الحزن منهما، وقالت: (25) سنة.
_أطلقت من بين شفتي صفيرا وأنا أقول: (25) سنة!
_هزت رأسها مؤكدة كلامها، ثم أردفت قائلة: لقد عملته عند الدكتور عبد الله بـ(150) دينار أو يزيد، واليوم أتيت لتغييره.
_ابتسمت وأنا أقول لها: لاشك بأنك كنت تحبين أكل الحلوى كثيرا.
_قلبت كفيها وتنهدت، وبصوت مختلج قالت: لا يا ولدي، لم أحب أكل الحلوى كثيرا، ل...
صمتت صمتا رهيبا، وقد غشي الدمع عينيها، حتى انسلت من مقلتيها، تناولت محرمة تجفيف دموعها، وحدقت أمامها بعينين محمرتين، الحق يقال بأني بهت، لم أتوقع أن أسبب بسؤالي هذه الدموع لهذه العجوز.
-قلت محاولا استرداد زمام الموقف المنفلت: معذرة لما سببته لك من حزن، أرجو أن تسامحيني.
-................
-حجة هل أنت بخير؟!
_أجابت بصوت حاولت أن يكون متماسكا: لا عليك يا ولدي، تنهدت بحرارة، قبل (25) سنة جائني خبر استشهاد ولدي البكر محمود في لبنان، وأنا حامل بولدي محمد، لم أستطع تحمل الصدمة، التي نزلت علي كالصاعقة، فقد كان ولدي الوحيد، ومناي في هذه الحياة، ومن هول الصدمة أخذت ألطم على فمي، وكلما تذكرت ذلك، حتى تخلخلت أسناني الأمامية.
بدأت الدموع تنساب من محجر عينيها، وبدأ صوتها يضعف، وتابعت: كان لابد من خلعها، فذهب بعرواها باقي الأضراس والطواحين.
لم أجد كلمة أواسي بها العجوز إلا بقولي: كان الله بعونك، والحمد لله الذي عوضك خيرا بولدك محمد.
شبح ابتسامة ظهر كومضة برق ثم اختفى، كانت ممزوجة بألم ودموع وقالت: آه، ماذا أقول لك، الحمد لله على كل شيء، ولدي محمد استشهد قبل شهرين.
مسحت دموعها بغطاء رأسها، حتى ظَننت أن المحارم لم تكف لهذه العبرات، ومن داخل محفظتها أخرجت صورتين في غلاف متواضع، لشابين متشابهين حتى في تلك الابتسامة التي ملأت وجهيهما حيوية وإشراقا، أحدهما أصغر من الآخر، نظرت إليهما العجوز وشفتاها ترتجفان مع يديها كعصفور مبلل.
_وجدت نفسي أقول لها: كم أنا أحمق، فتحت عليك الجروح التي لم تندمل بعد، أرجو منك العفو.
_وبصوت دهشت لثباته: يا ولدي، هذا قدرنا في هذه الأرض، فقبل (25) سنة لطمت الخد وشققت الجيب، ولكنني قبل شهرين زغردت.
هذه المرة نظرت إلى الطقم بلا تقزز أو اشمئزاز