بتـــــاريخ : 11/22/2008 9:00:44 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1157 0


    النوم

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : غسان حنا | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النوم غسان حنا

    طلع الصباح، همست الشمس لأزهار السفوح ففتحت نوافذ ألوانها لأطفال النسيم، القرية الصغيرة الغافية رفعت عنها غطاء الراحة، وارتدت عافيتها، وتزنرت بوشاح من عبق الصخور... وطبعت قبلة على خدود نسائها ومضت إلى الحقول... والمدارس ومطارح العمل الأزلي... بعض المنازل تحف بالطريق الرئيسية التي تمر بين أضلاع القرية...‏

    منزل من هذه المنازل لعجوز ما عرف في حياته إلا العمل والنوم.. العمل الشاق المضني، والنوم الطويل الهادئ.. ومن نوادر رفاقه عنه أنه حين سيق إلى الجيش العثماني كان يغفو أثناء سيره مع الجنود لمسافة مديدة، دون أن تضطرب مشيته، كأنَّ له معادلة خاصة في تداخل النوم بالاستيقاظ... كرامته كانت عزيزة عليه، ووداعته كانت سوراً لها.‏

    .. لم يتغيب عن سهرة واحدة من سهرات القرية، وربما كان أول الوافدين وسيكون حتماً أول النائمين.. على الكرسي، على المدّة الأرضية، على الخوان، لا فرق! وينحني في إغفاءته حتى يقترب رأسه من ملامسة الأرض، ثم ينتصب بحركة سريعة، ويتلفّت حواليه، ثم يستأنف وصلته الثانية.. وبين المنصرفين يكون الأخير بلا منازع.. تعارف أهل القرية على مناداته "الشيخ" أو "أبو جميل" ولو سألته: أي الاسمين أحبُّ إلى قلبك لأجاب على الفور "الشيخ" دون أن يذكر السبب.. لكن السبب يكشف ذاته إذا عرفنا أنه بلا أولاد.. ولهذا السبب بالذات كان يدلّل أولاد أخيه ويتفانى في محبتهم وخدمتهم.. وإذا تضجّر فمن قصر وقت العمل، واضطراره لمزاولته مع أناس ثرثارين يفتقدون الصلابة والالتزام.. يشهد على هذه الطبيعة الصلبة الصابرة.. آبار لجمع مياه الأمطار حفرها في مواقع صخرية كافرة وأرضه التي زرعها غرسة غرسة وسيّجها حجراً حجراً ونقّاها شوكة شوكة... في ليالي الشتاء الباردة يجلس إلى موقد الحطب مستنداً إلى زوجته ويغيب.. تتحمّله حتى يتيبّس كتفها فتصرخ به: يا قطيعا تقطعك قوم نام بفرشتك وريحّنا.. فيجيبها على النغمة ذاتها: ولِكْ إنتي ما فيك تشوفيني مرتاح.. يخرب بيتك هالعين ما أديقا.. ويصل سريره نائماً.. لا يقلب ولا يتحرك حتى صياح الديكة وهي منبه أهل الأرياف وإيعاز انطلاقهم إلى مواقع الكدح الطويلة..على أن زوجته كانت تعامله كرجل وطفل معاً.. فتهتمُّ بهندامه، وذقنه الحليقة أيام الآحاد والأعياد ولا ترضى أن يمازحه الشباب، وتعود فتسمّيه البهلول، والغشيم، وتقسو ببعض الدعوات عليه وتظل ترغي وتزبد حتى يهز العصا أمام وجهها وقد احتقن، واحمرَّت عيناه فتدرك عندئذٍ أن الأمور جدّية، والعصا قد تنزل على جنبيها بلا تردد.‏

    في السنوات القليلة التي تلت رحيل العثمانيين من عمره ظهرت عليه ملامح الإصابة بمرض النسيان فتشوّشِت ذاكرته، واعتكر عقله، وطالت دروبه أو قصرت، اغتمّت زوجته على هذا المصير لا سيّما بعد أن أخبرها الطبيب أن هذا النوع من الأمراض ليس رشحاً أو التهاب حلق، أو إسهالاً، يعالج فيشفى مرة واحدة، إنه مرض يصيب المسنين، وشبّه الإنسان بالآلة التي تعمل حتى تهترئ ثم تتوقّف، ويُستغنى عنها، قطيعا تقطع هيك أطباء.. قالت الزوجة الحزينة في نفسها، أنا أستغني عن زوجي ورفيق حياتي- أنا ولا أنت يا أبو جميل.. وحين رَسَتْ على دماغه سحابة نسيانٍ قاتمة.. ولم يعد يعرف أحداً.. بكت الزوجة بحرقةٍ وهي تقول: قطيعاً يا شيخ ما بقا تعرفني، لو نسيت كل الناس ما لازم تنساني... واستمرّتْ المعالجة وتحسَّنتْ حالته، لكنَّ زوجته هي التي مرضت.. وساءت صحّتُها.. حُمِلتْ إلى إحدى مستشفيات اللاذقية.. فالقصور الكلوي كان قد بلغ حدّاً خطيراً.. وكان الطبيب المعالج صريحاً: المرأة ما منها نفع/ والأفضل أن تموت في بيتها.. قبل أن تلفظ أنفاسها بقليل أوصت بالشيخ أبي جميل، وبأهل القرية جميعاً، وأومأت إليه فاقترب: وبأنفاسٍ متقطّعة عميقة اختتمت احتضارها: لا تنساني...‏

    النوم كالموت/ هذا ما كنت أسائل به نفسي وأنا أراها ممدّدة في الصندوق الخشبي ..‏

    في مساء دفن الزوجة كان الشيخ "افتراضاً" يتقبّل التعازي إلى جانب ابن أخيه.. الشعور الذي سيطر عليَّ وأنا أراقبه بشغف أنه هو الذي كان يُعزِّي.. وكان الوحيد الهارب من قميص اللياقات الاجتماعية المزيّفْ في كثير من الحالات، ولعلّه كان يتساءل عن السبب الذي استدعى تجمّع أهل القرية في هذه الليلة مما جعله ينسى النوم على غير المعتاد.. ويتفرَّس بالوجوه، وينظر بعينين زائغتين إلى جهة مجهولة..لم يكن من المنتظر أن تتوهج ذاكرته في هذه الليلة بالذات..فيفتقد زوجته بلا وعي أنها ماتت. بل كأنّها غائبة.. لم يسمع كلمة "قطيعا تقطعك" ولا مرة في هذا المساء ولا نهرته لكي ينهض إلى فراشه.. ولا اختبرته أنه يعرفها أولاً.. ولا.. ولا.. ابن أخيه بقي طوال الليل مستيقظاً ليرد عليه ويقنعه أنها نامت في بيت نسيبتها وقد تتأخر لمدة يومين آملاً أن تغرق ذاكرته من جديد في سديم النسيان.‏

    ذات صباح ربيعي هادئ.. تأخر الشيخ في النوم.. لا بأس.. دعه لأحلامه الهانئة قال ابن أخيه.. مرت سيارات متنوعة قرب البيت، وتشاغب أولاد وتصالحوا، والشيخ نائم... قضيت أشغال البيت، واحتسيت القهوة لأكثر من مرتين، مع الضيوف ودونهم والشيخ نائم.. لا.. زادها عمي كثيراً قال ابن أخيه وقد أنجز معظم أعماله الصباحية.. لعله نسي أن يستيقظ.. قال لزوجته هيئي الحليب للشيخ حتى أوقظه.. يا شيخ.. يا عم.. يا أبا جميل.. هزه قليلاً وكثيراً، رفع الغطاء، فوجده نائماً على جنبه يا عم.. "سبقتك الشمس" والفطور ينتظرك.. لا جواب.. و لا علائم استجابة.. أمسكه بيديه وقلبه على ظهره.. لا.. لا أصدق.. هل من المعقول أن تكون قد فعلتَها لا. لا أصدق.. أنت نائم وحسب.. ولكن.. كي.. ف... الصدر لا يختلج.. والأنفاس هامدة وانفجر الرجل بالبكاء...‏

    لم أنسَ وأنا أندس بين المشيعين أن أهمس في أذن ابن أخيه عن شكي بأنه قد مات فعلاً.. ومن المحتمل أنه قد غرق في حالة نوم عميقة وطويلة.. وأبلغته رجائي أن تكون طبقة التراب فوقه رقيقة، وألا توضع أحجار ثقيلة فوق قبره.. فإذا استيقظ من جديد لا يجد صعوبة في رفعها والخروج من الحفرة.. جحظت عينا الرجل لسماعه هذا الكلام، وحملق فيَّ كأن أحداً قد وصف له شبحاً فرآه الآن حياً متمثّلا في شخصي، لم يتمالك نفسه فقال لي: أهذا وقت المزاح يا أخي؟.. حتى الأموات لا ينجون من لسانك.. وأشاح بوجهه عني... ما استطعت كتمان شكي وتخوفي عن قريب راح يهدهدني بصوته المتهدج عن قدرنا المحتوم، وعبثية هذه الحياة، وراحة الذين يرضون ربهم فيعيشون أنقياء صالحين، وتابع قائلاً: إن التصدي لصعوبات الحياة ومشاكلها يتطلب الحذق والمهارة، التخطيط واستغلال الفرص، الحذر من كل الناس، ومسايرة الأغنياء والمتنفذين... وختم موعظته البليغة بإخباري عن أحدث مشروع تجاري له... وخشيته من المضاربين، وسماسرة السوق، وهبوط الأسعار، أمهلته حتى تقيأ هواجسه وزهدياته فاعترفت له بما يساورني عن الشيخ الفقيد مرتاباً بموته وأن همسات غريبة تتناهى إلى سمعي في حركة غير اعتيادية لضباب لا مرئي كثيف يدور حول القدمين ويلف الجسد برفق، ثم ينداح في الوسط المحيط.. ما.. ما.. ماذا تقول؟! الشيخ المحمول بيننا نائم وليس ميت..؟.. وصدرت عنه ابتسامة ممتقعة لم أشاهد مثلها طوال حياتي... لم يكن فمه ووجهه يختلفان عن علبة سردين مفتوحة.. ولو قورنت ابتسامته تلك بابتسامة "الجيوكندا" الشهيرة.. لرجحت عليها غرابة وغموضاً.. لم يسر إلى جانبي بعد هذا إلا بضعة أمتار.. والتحق بجماعة أخرى من المشيعين..‏

    تدلى التابوت الخشبي البسيط في الحفرة.. تأرجح.. واستقر.. وعلى النقيض من رغبتي انهالت الرفوش بالتراب الكثيف فوقه.. ورمى أحدهم حجراً طق على خشب التابوت فصدر صوت لم أسمع فيه إلا تأوه الشيخ.. تمتمت بوجع: يريدون موته حقاً، يا شيخ.. استيقظ.. تنهّدْ.. اصرخ، تململ، قم بأية حركة حتى يسمعوك.. وكان الجواب مزيداً من الحجارة...‏

    لم أعد أقوى على اجترار آلامي وحيداً، فتحوّلت من مشيِّع إلى آخر أبثّه همي وأشرح له نظريتي في نوم الرجل وليس موته.. وكلّما أنهيت كلامي نفر مني من صارحته بالأمر.. وابتعد كمن يخشى على عقله.. وأخذ بعضهم يسترق النظر خلسة إليَّ بما أشعرني أنني أصبحت مثار استغراب وتخوف.. وقد ذهبت بعض التساؤلات إلى درجة الاتهام بالشعوذة والخرف.. أو الإلغاز بهدف ما.. يخلق في القرية بلبلة واضطراباً.‏

    في الليالي التالية لدفن الشيخ، لم تكن الحركة في مقبرة القرية اعتيادية، يشهد على ذلك أهالي منزلين مطلّين عليها..‏

    هم يتكلّمون سرّاً عمّن ينسلّون تحت جنح الظلام.. إلى قبور موتاهم.. منهم من يضاعف التراب ويضيف كتلاً حجرية وآخرون يخفّفون من كمية التراب، ويرفعون الأحجار عن ظهر القبر.. وفريق ثالث يراقب عن بعد.. ما سيحدث.. لكن ما أثار الدهشة وجود رسائل موجهة للأموات عُلقّت على شواهد طائفة من القبور، تتضمّن عبارات رقيقة أو أشواق لاهبة أو أسئلة تبحث عن ردود.. والكل حين سئل عنها أنكرها.. وانصرف الأحياء في أوقات راحتهم إلى استرجاع حياة موتاهم بفصولها وتفاصيلها وظاهرها ومستورها.. وتراوحت المشاعر بين الامتعاض والشوق والندم.. ابن أخ الشيخ لم يقصّرْ في لوم نفسه لتسرّعه في إيداع عمّه التراب.. بل أخذ ينظر إليَّ بعين الاعتذار والتبرير وعُقِدت حلقات تداول ونقاش لتفسير الظاهرة الطارئة.. ثمّة من ذهب إلى تصديق الأمر دون تحفظ، مستدّلاً بما كان يراه السالفون من أشباح وأطياف قرب منابع المياه وفيها، والمؤمنون التقليديون نسبوها إلى الأبالسة والشياطين، والذين سارعوا إلى النفي، كان نفيهم تحت تأثير الخوف وليس قطعاً بعدم وجودها، أما القلّة من العقلانيين فكان موقفهم السخرية والهزء بهؤلاء جميعاً.. رجل ينتظر الدينونة على أحرَّ من جمر جهنم ربط بين الظاهرة وعلائم انهيار الأزمنة وخراب العالم.. وأن الديّان العادل في طريقه إلى الأرض.. وقد يتفقّد في طريقه بعض الكواكب والمجرات المسكونة ببشر لم نتعرّف إليهم بعد... وكلّما توسعت دائرة الافتراضات والاستنتاجات هززت رأسي أسفاً لأن الشيخ لم يستفق فيجنّب أهل القرية هذا المخاض العسير.. وما أدراك أن يكون قد نام بهذه الطريقة.. حتى ينتقم لنفسه من قرية كانت تقول في مواجهة القضايا الهامة: اتركوا الشيخ نائماً، فهو لا يقدّم ولا يؤخّر.‏

    في عصر يوم خريفيٍّ غائم وصل ساحة القرية رجل غريب يضع على عينيه نظارة سوداء، ويرتدي سترة داكنة، تحتها ربطة عنق مُخطّطة، يميل إلى الطول، وشعره مجعد يغطي نصف جبينه.. أشعل سيكارة أجنبية.. وعبَّ منها بعمق.. ثم خرج الدخان كثيفاً من تكوّر الفم وفتحتي الأنف.. كذيول طائرة نفاثة.. لم ينتظر حتى يسأله أحد أهالي القرية عن شأنه بل استوقف أحدهم وشرع بلهجة ممطوطة يستفسر عن أحوال أهل القرية المادية، ومشاريعهم، وعقاراتهم، ومغتربيهم، وأماكن عملهم... وجاءه الجواب مقتضباً وعفوياً: مستورة والحمد لله.. قلّب الغريب الغامض نظره في الأبنية المحيطة بساحة القرية.. وانسحب ولم يره أحد في القرية بعدئذ.. خبر وصول الرجل الغريب ومكوثه القليل ورحيله أضاف لغزاً، وعزّز الاعتقاد بأنه زمن الغرائب.. لكن موضوعه بقي مقفلاً ولم تتوغل فيه التأويلات عميقاً.. لم أتجرّأ أن أنبس ببنت شفة هذه المرة لأنني كنت المسؤول عن الورطة السابقة وأعصاب الناس باتت أوهى من خيوط العنكبوت وما زلت أحتفظ لنفسي بالترجمة المنطقية لزيارة الرجل القصيرة.‏

    مختار القرية اعتبر أهلها ضحية أفكار ملتوية داهمت عقول الكبار والصغار وجعلتهم يتجرّؤون على المشيئة الإلهية ويتسابقون على ترويج شعوذات تحطّم سكينتهم وبراءة قلوبهم، وتجعل ضمائرهم ملهى العفاريت.. وقد نصحهم بتخصيص صلوات إضافية لغسل هذه الترهات، واسترداد السلام المفقود... في الليلة ذاتها رآه أحدهم يغشى القبور، ويتلمّس الشواهد، يضع أذنه على سطح كل مدفن، يتفحص ألواح الإسمنت، يدوّن على دفتر صغير بعض الملاحظات، ويختار في عودته ممرّاً جانبياً كان فيما مضى الممرّ الوحيد المعتمد للوصول إلى أضرحة الراحلين، كل المتقدِّمين في السن أخذوا عهداً على ذويهم بعدم دفنهم إلا بعد التأكُّد من أنهم شبعوا موتاً... امرأة لا غير رجت ابنيها أن يسلماها التراب حين يعرفان أنها دخلت في نوم عميق حتى ترتاح من عجزها وقعودها.‏

    أهل القرية الآن باتوا في أمس الحاجة إلى منقذٍ من الجحيم الذي يتخبَّطون فيه.. ما كنت أظنُّ أنَّني سأُلحِقُ بهم هذا الضرر النفسيّ، ولكن ما العمل؟... إن مجرد قولي: إنّني كنت واهماً.. لن يعيد الأمور إلى نصابها.. لقد خرج الأمر من يدي نهائيّاً، وفتح كلٌّ منهم على حسابه رصيداً اهتزازيّاً خاصّاً.. لا بدَّ من تدخُّل القدر، أما المشيئة الإلهية فقد تتدخَّل في وقت يناسبها.. وليست معنيّة بمجموعة من الناس اندفعت وراء رجلٍ جعل من حدسه مرآة للحقيقة.. وفجأة أومضت في رأسي فكرة مصوَّرة.. حملتها إلى رجلٍ بهيئة الشيخ وحجمه.. وعرضت عليه ملامح الدور الذي يجب أن يلعبه ملتمساً منه القبول لإنقاذ أهل القرية من مصير مجهول، ووعدته بأجر مناسب دفعت على الفور مقدمه.. الخطوة الأولى بدأتُ بها مع مختار القرية فأقنعته بأن يخرج بأهل القرية للاحتفال بعيد الحصاد على البيدر الجنوبي المواجه لتلة القلعة وأن يرفع الأطفال الشموع، والفتيات الزنابق، والشبّان سنابل القمح، وأن يتقدم الموكب على هزيج الأغاني والأناشيد وزغاريد النساء، ما إن يصل الموكب إلى البيدر الواسع حتى يتوضّع الناس على شكل دائرة.. ثم يشرعون في الرقص والدوران طارحين عنهم همومهم وعذاباتهم.. محتسين الأشربة التي صنعوها بأيديهم لتطلق لهم أجنحة وتبسط أحلاماً.. يستمرّ الأمر على هذا المنوال حوالي ساعة من الزمن.. في نهايتها يقف مختار القرية في وسط الدائرة داعياً الجميع للاسترسال في ابتهالات عميقة، راجين الله أن يصرف عنهم وساوس الشيطان والأرواح الشريرة، لا يفتحون أعينهم من غيبوبة الصلوات إلا عندما يأمر المختار بذلك، نفّذ المختار ما اتفقنا عليه بدقّة عالية، وتجاوب جماعيّ طمأنه إلى النجاح في دورة مخترة جديدة، اغتنمت توقيتها لتسويغ خطّتي في حلحلة الكابوس الجاثم على صدور البشر..‏

    تجمّعوا بأمل، ساروا بتفاؤل، غنَّوا بفرح، رقصوا بحيوية، ابتهلوا وصلوا بخشوع وانسحاق، شربوا حتى دارت الأرض والكواكب بهم، وفي اللحظة الحاسمة وقف المختار في وسط الدائرة.. رفع يديه وأشار بالصمت، تراجعت الجلبة حتى تلاشت هتف بصوت مؤثر: أغمضوا أعينكم.. فأغمضوها، أرخوا أعصابكم.. فأرخوها.. الأطفال كانوا يتفرّسون في وجوه آبائهم وأمهاتهم.. مذهولين.. والدهشة عقدت ألسنتهم فلم يخدش المشهد أي تشويش.. تابع مسؤول القرية قائلاً: رددوا ورائي هذا التأمل الخاص:‏

    يا إله السماء والأرض/ والشمس والقمر والنجوم/ والحياة والموت/ والأزل والأبد/ والأشرار والصالحين/ تقبّلْ بعفوك صلواتنا وابتهالاتنا/ واغفر لنا ذنوبنا وهفواتنا/ واطرد الشياطين والمارقين والكافرين/ وأنعم علينا من رحمتك ما يقشع عن عقولنا ومداركنا هذه السحب السود التي تراكمت بموت الشيخ أبي جميل فإذا كان قد مات ميتة طبيعية فامنحنا إشارة من روحه الطاهرة.. أما إذا كان قد نام نوماً ثقيلاً.. فحسب له موتاً، وحمل بموجبه إلى تلك الحفرة، فارحم ضعفنا البشري وقصور عقولنا، وهباء أرواحنا، وليكن هذا الاحتفال تكفيراً عن أرواحنا جميعاً/.‏

    صمت المختار، والعيون مقفلة، والأجساد تحوّلت إلى ما يشبه جذوع الأشجار... والأطفال على ذهولهم.. وهو بعينيه اللامحتين يدير النظر بيني وبين تلة القلعة المواجهة للبيدر وقبل أن يدب القلق إلى كيان المختار بارتكاب خطأ في تسلسل الأحداث المرسومة، وافتضاح أمره من قبل أهل القرية الأكثر نباهة وملاحظة.. لاح الشبح الأبيض على متن التلة... فصرخ المختار بصوت خلع قلوب المحتفلين وألقى الروع في مخيلاتهم: ... يا رجال.. يا نساء.. يا أولاد.. ها هو.. انظروا.. إنه طيف الشيخ أبي جميل/... ترافقت صرخاته التي اكتست بنبرة الحقيقة لبراعته في أداء دوره.. ترافقت هذه الصرخات بانتصاب الشبح على رأس التلة، وانحناءاته الجليلة وتلويحاته بيدين كقضيبين من الزنبق اشتعلت بهما‏

    النار...‏

    تعالت، وتداخلت، وتناغمت، وتنافرت، وتموجت، صرخات الجميع، وهمهماتهم واختلط البكاء بالابتهاج، ورفع الآباء أبناءهم على أكتافهم لينطبع مشهد الملاك الأبيض في ألوان حدقاتهم ما داموا أحياء.. تسمّرت يد المختار باتجاه الشبح الذي طفق كزورق يغرق بهدوء.. ويغيب في المنحدر الثاني للتل... وكلما نقص حجماً زادت نداءات الأهالي:‏

    سامحنا يا شيخ... طوبى لك سعادتك في جنة الأبرار... سلّمْ لنا على أهلنا الراحلين دون استثناء وكانت صرخات المختار تعلو كل الأصوات وهو يردد:‏

    لقد نام حتى مات..‏

    لقد مات حتى يستيقظ‏

    لقد استيقظ حتى يقنعنا‏

    أنه لم ينم ولم يمت‏

    وإنما ما زال حياً بيننا‏

    في طريق العودة.. كان الرجل الغريب الغامض يضع نظارته كعادته.. ويراقب قافلة العائدين عن كثب

    كلمات مفتاحية  :
    قصة النوم غسان حنا

    تعليقات الزوار ()