بتـــــاريخ : 10/14/2008 6:31:52 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1466 0


    موظف من زمن العولمة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : سمية البوغافرية | المصدر : www.arabicstory.net

    كلمات مفتاحية  :
    قصة موظف زمن العولمة

    أقدم كما العريس في بذلة سوداء وقميص أبيض ورابطة عنق حمراء تراقصها الرياح.. يتأبط محفظة بنية منفوخة...يخطو خطوات خاطفة كطائر يتقافز... ما تكاد تنقر قدمه الأرض حتى يخطفها ليحط الثانية كأن الشارع جمرات حارقة...يداه ترتعشان في الهواء ورأسه يلوح ويشير كأنه يقذف بالشهب من حيث لا يحتسب ويتخيل إليك أن محفظته ستنزلق من تحت إبطه مع كل حركة يأتيها فإذا بها بين فكي ملقاط لا تتزعزع... إنه صديقي لغز الذي ألقي به من الطابق الثالث من الإدارة التي اعتصم بها سنوات مصرا على التوظيف...فرممت أضلعه وضمن له في المقابل كرسيا داخل الإدارة المحروسة...عاهته لا تقلقه البتة ولا يتوانى في شكر ربه الذي يجعل للأرزاق أسبابا...

     

    جهز نفسه بأساسيات الوظيفة وألقى بنفسه في بحرها بكل جوارحه... اقتنى هنداما يليق بمقام الوظيفة وزوج حذاء أسود لا يكف على تلميعهما وأحيانا لا يبادر إلى نعلهما حتى يقف على بوابة الإدارة. وحتى لا يفسد العرق والأوساخ نصاعة قميصه الأبيض يلف صديقي رقبته ومعصميه، صيف شتاء، بلفافات بيضاء ثم يتأنق بهندامه الأميري ويكتفي فقط بغسلها في نهاية كل أسبوع ثم يعيدها ويبقى قميص الوظيفة نظيفا جديدا لا يغسله إلا من موسم لآخر... أما البذلة السوداء ـ فلأنها سوداء ـ لا تغتسل على الإطلاق ربما حتى يتزوج ويشتري بذلة أخرى تليق بهذا الأمل الذي يتلألأ له في الأفق أو ربما حتى يخلف ويفرح بثمرة من صلبه تواصل مسارها في النور الذي رسمه لها...

     

    هو دائما متفائل، دقيق في أموره، مضبوط في خطواته.. رغم أن سنوات البطالة بعثرت أوراقه وبددت خططه إلا أنه ما أن انفتحت بوابة العمل حتى عاد يبرمج ويخطط من جديد... لم يغفل صديقي شيئا إلا وسطره تسطيرا في كناشه الخاص... فصل خصصه لنبضات قلبه: الزواج، الخلفة، الحج... أمام كل حلم حدد بالدقيقة والثانية سقف تحقيقه... فصل آخر لنبضات جيبه، ضبط فيه أنفاسه على إيقاع نبضه... هذا الفصل من أكثر الفصول التي تؤرقه وتربكه... يفاجأ دائما بتوقف النبض في الأسبوع الأخير من كل شهر وكل محاولات التمطيط ولو بيوم واحد تبوء بالفشل... ومع ذلك لم ييأس من محاولة إعادة ضبطه والسيطرة على النزيف... فصل آخر لدرجات العمل ضبط فيه تواريخ التدرج في السلم الوظيفي... ومعدل حياته سطره بالخط العريض أعلى كل الصفحات... لم يكن يطمح صديقي في العيش أكثر من خمسة وستين سنة... ستون سنة من العمل الجاد لبلوغ سقف أمانيه وخمس سنوات للاسترخاء... كم أخشى على صديقي أن يصفعه الواقع الإداري الذي لا يستقر على حال ولا يرسى على قرار والذي تحكمه الأهواء أكثر ما تحكمه الضوابط فيخبطه سن التقاعد لا درجة اعتلاها ولا سلم ارتقاه فيبتلع أحلامه مع فاكهة الحنظل ويقفل كناشه بخاتمي الأمر من العلقم: " لا ضرر ولا ضرار"، والشجرة التي لا تظلل حتى جذعها، رحمة بها استئصالها...

     

    تدفق في شرايينه حماس شبابي رغم الشباب الذي ولى وأدبر... تيقظ أمله كأن عجلة الزمن لم تدهسه يوما... ارتسمت صورة الإدارة أمامه في زي شبابي خاطه على مقاس زمنه... أعد عدته... خطوات قليلة سيحقن جسد الإدارة الكهل بحقنة شبابية ويضخ في شرايينها دماء جديدة... ما أن بلغ صديقي بوابتها المفتوحة حتى اندفع بثقة عمياء ليسكب على غلس الإدارة ما يحمله من ضياء... ضياء كان يراها كفيلة بأن تجعل زمانه زمن الإدارة بامتياز...على حين غفلة منه ركبته موجة الطوفان المعادية لكل جديد فأطفأت حماسه وأجهضت آماله وكادت أن تجرفه وتعيد به إلى نفقه...

     

    زعزعته الطعنة. تماسك. راجع نفسه وسار في درب المواطن الصالح الأصلح للبقاء في السلك الوظيفي... أطال الأذنين، مدد الرقبة للانحناء، وختن لسانه وطهره إلا من نغمة: "نعم سيدي، نعم سيدي".. كأن آلة ركبت على لسانه مبرمجة على نطقها مع شبك الذراعين أعلى صدره ومد في الرقبة وانحناءة بارزة.

     

    في الصباح، يسلك صديقي طريق الإدارة في وقت مبكر... يمر على الكشك. يسحب إليه كرسيا معطوبا وجريدة ويمضى يلتهمها بكل حواسه ثم يسطر بعض الأخبار في ورقة ويدسها في جيب سترته ليلقيها كتحية الصباح على مديره الذي رأس المديرية بالأقدمية في الجهل ويعاني من حساسية مفرطة من القراءة من مصادرها...

     

    يؤم مكتبه. يعلق بذلته مقلوبة.. يرتب الملفات ويعيد ترتيبها حتى يأتي على كل شيء في مكانه رغم أن الأمر يكون في غاية الترتيب ثم يخرج إلى الباب ويلقى نظرة على مكتبه من بعيد فيرسم على شفتيه بسمة الرضا ويلتصق بالنافذة وحواسه معلقة إلى الخارج... تدنو السيارة من الباب... ينتفض كطائر بلله القطر...يندفع في حركة صبيانية يسابق ظله بعدما يتفقد ملخص الجريدة الذي دسه في جيبه كما يتفقد أحدنا جواز السفر أثناء عزمه على الرحلة... يهرول إلى الخارج يتلاطم مع الجدران والكراسي...يعود مثقلا بحقيبة (سامسونيت).. يصعد السلم في خطوات خاشعة وراء مديره الثخين الذي يقتلع ساقيه اقتلاعا من الأرض وأحيانا يبادر صديقي إلى مساعدته على حمل إحدى ساقيه... يسلخ عنه معطفه الثقيل ثم يروح عليه.. وبإشارة من رأسه الملسوح من الأمام، يمده صديقي بملخص الجريدة الذي أكسبه ثقة مديره المنهك، الذي كان ينتظر صديقنا ليلقي عليه بثقل مديريته، ما أكسبه من العداوة من زملائه...

     

    بفضول مارق يطلع المدير على الملخص وصديقي بجانبه منحنيا شابكا ذراعيه أعلى صدره يخنق أنفاسه... من فينة لأخرى يتدخل لينير ما غمض على سيادة المدير... الويل كل الويل إذا أخفى صديقي عنه نبأ يتعلق به... والويل كل الويل إذا نقل إليه نبأ ينغص عليه حلمه بالانضمام إلى قافلة أصحاب السعادة أو أصحاب المعالي إذ لا تنفع حينذاك لا التحية ولا الاعتذار وإنما يتعالى النعيق والزعيق والنهيق ليظل "حمار بوك" يلعلع في المكتب فيمضي صديقي هاربا من الزوبعة والبصاق يتطاير فوق رأسه...

     

    يخرج ويغلق الباب وراءه وهو في حالة فوران وغليان لا عهد له بهما... عيناه محمرتان ملبدتان بالغيوم... وجهه مخنوق مكفهر كأنه تعرض لعملية اختناق مباغتة.. تلتهمه النيران، وشواظ عيون زملائه وتمتماتهم تذكي نار التمرد المشتعلة في داخله... يلتفت وراءه، تلسعه نار الضياع...ينظر إلى الأمام، تبتسم له شموس في الأفق تحركها يمينا وشمالا يد مديره... يلفه الدفء فيطرق رأسه خانعا لظل مديره ولإشراقة غده فيمسح البصاق عن وجهه وتنطفئ نيرانه...وأحيانا يستعين بخشيبة يستلها من قميص جيبه كما يستل أحدنا سيجارة فينزل يلهو بها ويلوكها بين أسنانه فيتنهد ويشطف نفسا عميقا ثم يبدأ في مغازلة الملفات...

     

    وقد بدت على صديقي آثار النعمة في الوقت الذي لم أغنم من الوظيفة غير الذهاب والإياب وإمضاء الأوراق...اقتنى شقة وسيارة ولا يتردد في استضافتي...أجل لا يتردد في دعوتي إلى بيته...لبيت الدعوة لأكتشف أسباب العز. تقدم للترحيب بي في لباس مقلوب.. ربما هذا من قبيل الخطأ؟.. وكيف لا ينتبه إلى الأزرار والتي زررها بيده على ظهره؟؟... ليس معقولا هذا؟.. كل شيء ممكن والمرء في بيته حر.. يلبس أو لا يلبس فهو حر.. يكفي طول النهار والإنسان مقيد بالقلم والورق والمكتب والكرسي.. الطير لما ينجو من القفص يعربد في الطيران.. ما الغرابة في هذا؟؟.. لا غرابة طبعا طالما الأمر حكمة... فإذا اتسخت الجهة الأمامية حول صديقي الواجهة إلى الخلف وإذا اتسخت الجهتين قلب ملبوسه. فيجعل من ملبوس واحد أربع ملابس وينام هادئ البال. وقد نصحته بأن يعكس لباسه فيجعل أسفله أعلاه وأعلاه أسفله فخمن في الأمر ثم زم شفتيه راشقا إياي ببسمة ملغزة.

     

    عاد إلى المطبخ... فتحة السروال إلى الخلف وأزرار القميص مزررة على ظهره والبقع تبصم أرضيتها...كتمت الضحك في داخلي ومضيت إلى صالة الضيوف حيث دعاني... هيأ مائدة "الغذاءالعشاء" والشمس تشك على المغيب...حط الطبق فوق المائدة ودعاني بإلحاح إلى مشاركته الطعام. رائحة الأكل تشهي رغم أن الموعد موعد تناول فنجان قهوة في قاموسي... ولكن من ذا الذي يقاوم هذه الرائحة الشهية بتوابلها ولحمها وشحمها وأنا لا أفرح بأكل البيت إلا من إجازة لإجازة؟؟ وهل للبطن أبواب تنفتح وتنغلق أو له مفاتيح أو يحتاج إلى تأشيرة حتى أحرمه؟؟...

     

    دنوت من المائدة.. حدقت في الطبق.. أحسست أن الطابق العلوي سينبطح فوق رأسي. طبق فيه من المرق ما يكفي للسباحة... كرم على طريقة الموظفين الجدد الطامحين في الأعالي والحبال تنفلت من أيديهم... أجهدت عيني لأكتشف اللحم في الطبق. كدت أن أسأله: أين اللحم الذي لا تخونني حواسي أني شممت رائحته من أسفل الدرج؟؟ أمام الطعام يحرم السلام والكلام وما بالك السؤال المحرج. عقدت لساني المقضوم ودهسته بأسناني حتى لا ينفلت مني. وقد تعلمت منذ صغري بأن كثرة السؤال تجر البلاء والويل على صاحبه. وهل أنسى كيف قضم معلمي لساني حينما استغللت أمره بأن أوظف "هل" في جملة مفيدة فاندفعت برغبة كشف أمره للآخرين وإثبات شجاعتي لهم:

    ـ هل قضيت الليلة أيضا مع صديقتك في القسم أيها المعلم الفذذذذ؟؟؟

    فقرص لساني حتى اعتقدته لن ينطق حرف الذال ساكنا بعد يومي ذاك وطردني من القسم وهدد المدير بكشف الستار عن ضلعه في الموضوع إن لم يزح وجهي عنه... الحمد لله كان المدير والدي وعالج الأمر بدون خسائر..

     

    لم أسأل صديقي وإنما هو من بادرني بكرمه وبكثير من الإلحاح:

    ـ اليوم موعدك مع مرق اللحم. وغدا مع الخضر المطهوة معه، وبعد الغد إن شاء الله وليمة اللحم... لا تنسى... الضيافة ثلاثة أيام

    ـ أنت شهم وكريم... كرم الأجداد ما زال يسري في عروقك أما زملائي في العمل فيندفعون في ممرات مقر أعمالهم كالبهائم لا يسلمون ولا يطعمون... شهم والله شهم وكريم

     

    قمت من على المائدة وأنا لا أعرف إن أكلت أم لا وإنما موقن أنني لكت ما طاب لي من الأسئلة والاستفسارات العقيمة حول ما آل إليه هذا المخلوق العجيب الذي لا يمت بصلة إلى صديق الدراسة.. مدني بمنشفة نصفها مبلول ونصفها الآخر جاف فشكرته ومسحت يدي وفمي فإذا بالملوحة والجفاف تمتصان يدي وشفتي فنزلت ألحس ذراعي ورجلي كالأبله. تنهدت فهمهمت أطمئنه:

    - الحمد لله أن جسدي سليم والملوحة مستقرة فقط في يدي وحول فمي

    - لا تقلق.. الملوحة مصدرها المنشفة فقد بللتها بماء البحر

    - ولما، يا أخي، كلفت نفسك كل هذا العناء؟؟؟ملعونة هذه العادات التي تجعلنا أحيانا نركب المستحيل من أجلها كأنها وحي من السماء

    - أملأ يوميا بعض القوارير والأسطال من البحر لأساهم في الحفاظ على نعمة الماء العذب

    - والحفاظ على نعمة جيبك الذي شطفته الديون...(غمغمت في داخلي)

     

    مضيت إلى الحمام لأعتق نفسي، فإذا به بخطوة جبارة يسبقني ويحكم إغلاق الصنبور الذي يتحكم في مياه كل البيت ثم أذن لي بالدخول ناصحا إياي بألا ألمسه.. فعدت للتو إلى مكاني أكظم غيظي.. القط يواري عيبه وكيف لي أن أقبل ما يأمرني به صديقي؟؟... لأعلم أن المرحاض يعتبه ككل الناس لقضاء حاجته إلا أنه لا يسكب الماء لطمس آثاره إلا في آخر الليل من كل يومين أو ثلاثة أو بعد أسبوع. ويردد في قناعة:

    ـ الماء نعمة ما ينبغي أن تهدر بدون حساب دقيق وحاجة ملحة.

    ـ أنت محق صديقي يكفي صعقات الكهرباء التي لا حيلة لنا معها...

     

    ما كدت أنهي كلامي حتى كان صديقي يسبح في عالم آخر وشخيره يشق الجدران... ينام قبيل غروب الشمس ويستيقظ مع شروقها حتى ينجو من صعق فواتير الكهرباء...وفي أيام الانشغالات الإدارية الكبرى ينام في المكتب والضوء يلفه حتى الصباح. ضوء الإدارة ومياهها وهاتفها وما غفلت عنه الأعين مستباح لا يقلق هدرها...

     

    احتد خريره فصممت أذني براحتي يدي وأطلقت العنان لعيني تجوبان جثمانه... لا جدوى من محاولة إحياء صديقي في هذا الهيكل الذي يشبه هيكل صديقي ذاك.. أين هذا من صديقي ذاك الذي طالما قاد مسيرة الطلبة ووحد صفوفها؟؟...أين صديقي الذي كان لا يرهبه الموت والقتل؟؟ أين صديقي الذي كان آخر من ينام وأول من يستيقظ ولا تفوته شاردة ولا واردة إلا وكان أول الملمين بها؟؟.. أين قاموسنا وموسوعة أيامنا؟؟ اين قدوتنا ومفك أزرنا؟؟ أين إبداعاته وأشعاره التي ما زلت أتلمظها؟؟... أينه؟ أين هو صديقي؟؟؟؟؟؟..

     

    لا رد يطفئ ناري... شخير .. شخير... شخير... كل محركات الستينيات حضرتني في هذه الغرفة ولم يحضرني طيف واحد من صديقي ذاك الذي أحببته حتى النخاع... أجهدت نفسي وسط زخم الأطياف... اقتنصت صورة صديقي ... تلفعت بها أقطع الشخير بدندنة من أناشيد نضالية تعلمتها من لسانه ريثما يستيقظ وأحيي الميت فينا... تعفن الجو حولي... تمزقت صورة صديقي وابتلعها الأثير... نفضت الغبار عني واستللت نفسي من موجة ضباب غمرتني وتسللت خارجا ولساني مسترسلا ينشد:

    ....

    ما الذي يحوِّل الكفّ قذيفة

    والقلب ترابا ًو رغيفا

    مناضلون مناضلون مناضلون

    قادمون قادمون قادمون

    إننا نسير نسير...

     

     

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة موظف زمن العولمة

    تعليقات الزوار ()