بتـــــاريخ : 11/17/2008 8:19:54 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1089 0


    صرخ القاضي.. أيها المتهم.. لم تجد المحكمة سبباً مقنعاً يدفعك لقتل مدير المصرف)

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : نور الدين الهاشمي | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :

    -

    أنا.. لم أقتله‏

    - من قتله إذاً ؟!‏

    - الملل !‏

    ..الملل دودة خبيثة تنخر الروح والجسد وتحيلهما إلى رماد تشمئزّ منه الأرض والسماء)‏

    - مَنْ قال هذا الكلام؟‏

    - أنت في قصتك.. هل نسيت؟!‏

    (ثلاثون عاماً أيّها القاضي وأنا مغروز على باب المصرف كمسمار صدئ.. أرى كلّ يوم الوجوه نفسها تدخل واجمة وتخرج واجمة.. أسمع الكلام نفسه.. الأوامر نفسها.. آكل الطعام نفسه أفكرّ في الأشياء نفسها.. كلّ شيء شاخ وهرم وتفسّخ.. البشر والجدران.. الطاولات.. الكراسي.. الوجوه.. الشوارع.. الأرواح الحبيسة فإذا كانت الأيام متشابهة فإن آخر الأيام أولى من أولها).‏

    فقاعات الصابون على وجهي قد انطفأت وبدأت تتهاوى كحراشف سمكة ميتة على شاطئ مهجور.. كم تشبه أيّامي التي مرّت بلا معنى.. عنقي مشدود.. الوريدان الوداجيان نافران ممتلئان بدم ملّ الدوران في الجسد ملايين المرات ويئس من تطهير أدرانه التي لاتنتهي.. حياتي الآن تحت رحمة يد مرتعشة بجنون السأم..‏

    ضغطة بسيطة وينتهي فصل الحياة ويبدأ فصل مجهول معتم مخيف.. عليك أن تدفع حياتك لتكشف ملكوته.. أغمضت عيني باستسلام حزين..‏

    (طوى جزار حيّنا جناحي الديك والسكّين العطشى في فمه.. لوى رقبة الديك إلى الخلف.. أزاح الريش عنها.. تحسّس الرقبة الرفيعة.. لواها إلى الخلف.. أغمض الديك عينيه مستسلماً.. حرّك الجزّار السكينة على العنق جيئة وذهاباً ثم مسحها بالجناح الأسير وأطلق الديكَ بحريّة في الشارع.. وقف الديك مذهولاً حائراً بلحظات الحريّة القصيرة.. الدم يقطر بسخاء من عنقه إلى أرض الشارع وفجأة انطلق بأقصى سرعته دون هدف هارباً ببقية الرّوح التي تنسلّ من فجوة العنق الدامي.. اصطدم بالجدار.. نهض وجرى من جديد ثم ترنّح وسقط على الأرض.. اختلج بيأس حتى خمدت حركته.. تجمّعنا حوله وانشدّت عيوننا الصغيرة تتأمل بذهول جسد الديك الراقد على الأرض واشتعل في العقول الصغيرة سؤال موجع إلى الآن.. يستفهم عن لغز الحياة والموت..)‏

    مسح الحلاق حراشف الصابون عن رقبتي وخطّ بقفا الموسى. خطّاً للذبح يمرّ فوق حنجرتي البارزة.. لقد حان الوقت كي تدفع هذه الحنجرة ثمن الكلمات التي نطقتها صدقاً.. كذباً.. جهلاً.. معرفة.. جرأة.. تملّقاً..‏

    (مات أبي يا أستاذ بعد أن أورثني دكانه.. مهنته.. عدّته.. زبائنه.. صحفه.. مجلاته.. مذياعه.. أخباره.. نصائحه.مباشرة خمسة وعشرون عاماً وأنا أدور هنا حول رؤوس الزبائن وبين جدران هذا المكان.. زحف الصدأ إلى روحي.. قالوا تزوّج.تزوجت لكنّ بيتي بقي خاوياً من الأطفال.. جرّبت مع زوجتي الصامتة كلّ أدوية الأطباء والشيوخ والدّجالين.. ولكنّ زوجتي بقيت عقيمة.. وأنا أيضاً)‏

    - أيها المتّهم.. إن القتل ليس وسيلة لقتل الملل!!‏

    - لقد جرّبت أشياء كثيرة يا حضرْة القاضي.. سافرت.. عشقت.. طالعت الصحف القديمة والحديثة.. أدمنتْ عيوني على شاشات التلفاز ولكنْ.. هل ينفع الإنسان شيء إذا كانت الروح عالقة في شباك الملل؟!.‏

    - ومن نصب لك تلك الشباك؟‏

    - ألا تعرف يا حضرة القاضي؟!.. إنه عنكبوت كبير مراوغ له آلاف الأرجل الشعرية الدبقة وفم شره يمتصّ أرواحنا بهدوء ولذة ووحشيّة ثم يلفظنا أشلاء يابسة على أطراف مملكته المأسورة بالخوف والرعب.‏

    - أهذا ما دفعك أيها المتهم لقتل مديرك؟‏

    - ثلاثون عاماً وأنا أراه كلّ يوم أمامي في حلمي ويقظتي.. يرمقني ساخراً متعالياً بنظرات زئبقية وفم مشمئز.. ويسوطني بأوامره المفروضة كالآيات.. ثلاثون عاماً.. حمل ثقيل على الروح والروح حزينة كظلّ تابوت حجري.. ولابد من قربان‏

    - من أين أتيت بالفأس؟‏

    - كانت معلّقة على الجدار فوقي‏

    - مَنْ وضعها؟‏

    - المدير نفسه قد أمر بذلك منذ قدومه إلى المصرف‏

    هزّ الحلاق رأسي بعنف إلى الأمام والخلف وتمتم بفرح محموم:‏

    - (الموت وحده هو القادر على إزاحة الموت).. إنها آخر عبارة في قصتك.. أتذكر؟‏

    - وهل اخترتني ضحيتك؟‏

    - بل.. قرباني!‏

    - لماذا؟!‏

    - أنت طلبت ذلك في قصتك‏

    - هذا ليس صحيحاً‏

    - أنت خائف.. والخائف لايقنع أحداً‏

    جذب الحلاق رأسي بشدة إلى الخلف ثم رفع الموسى ليهوي به على عنقي في حركة بسيطة صارمة.. فجأة فتح الباب وانساب صوت يقول(السلام عليكم) فالتفت الحلاق بحقد نحو الزبون القادم ولوّح بالموسى طالباً منه الخروج بسرعة.. كانت اللحظة كافية كي أثب نحو الشارع.. مسحت وجهي ورقبتي ثم رميت المنشفة نحو دكان الحلاق المذهول..‏

    في المساء.. كانت المدينة تتناقل بمتعة وشغف وبعض الحزن خبراً طازجاً يقول‏

    (حلاق مجنون يذبح أحد زبائنه من الوريد إلى الوريد..)

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()