الكرم
الكرم ضد البخل، وهو: بذل المال أو الطعام أو أي نفع مشروع، عن طيب النفس.
وهو من أشرف السجايا، وأعز المواهب، وأخلد المآثر. وناهيك في فضله أن كل نفيس جليل يوصف بالكرم، ويعزى إليه، قال تعالى: ((إنه لقرآن كريم))(الواقعة: 77). ((وجاءهم رسول كريم))(الدخان: 17). ((وزروع ومقام كريم))(الدخان: 26).
لذلك أشاد أهل البيت(عليهم السلام) بالكرم والكرماء، ونوهوا عنهما بأبلغ تنويه:
قال الباقر(عليه السلام): (شاب سخي مرهق في الذنوب، أحب إلى الله من شيخ عابد بخيل) (1الوافي ج6 ص68 عن الكافي والفقيه).
وقال الصادق(عليه السلام): (أتى رجل النبي(صلى الله عليه وآله) فقال: يا رسول الله أي الناس أفضلهم إيمانا؟ فقال: أبسطهم كفا) (2 الوافي ج6 ص67 عن الكافي).
وعن جعفر بن محمد عن آبائه عليهم السلام قال: قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (السخي قريب من الله، قريب من الناس، قريب من الجنة. والبخيل بعيد من الله، بعيد من الناس، قريب من النار) (3 البحار م15 ج3 عن كتاب الإمامة والتبصرة).
وقال الباقر(عليه السلام): (أنفق وأيقن بالخلف من الله، فإنه لم يبخل عبد ولا أمة بنفقة فيما يرضي الله، إلا أنفق أضعافها فيما يسخط الله) (4 الوافي ج6 ص68).
محاسن الكرم
لا يسعد المجتمع، ولا يتذوق حلاوة الطمأنينة والسلام، ومفاهيم الدعة الرخاء، إلا باستشعار أفراده روح التعاطف التراحم، وتجاوبهم في المشاعر والأحاسيس، في سراء الحياة وضرائها، وبذلك يغدو المجتمع كالبنيان المرصوص، يشد بعضه بعضا.
وللتعاطف صور زاهرة، تشع بالجمال والروعة والبهاء، ولا ريب أن أسماها شأنا، وأكثرها جمالا وجلالا، وأخلدها ذكرا هي: عطف الموسرين وجودهم على البؤساء والمعوزين، بما يخفف عنهم آلام الفاقة ولوعة الحرمان.
وبتحقيق هذا المبدأ الإنساني النبيل[مبدأ التعاطف والتراحم] يستشعر المعوزين إزاء ذوي العطف عليهم، والمحسنين إليهم، مشاعر الصفاء والوئام والود، مما يسعد المجتمع، ويشيع فيه التجاوب، والتلاحم والرخاء.
وبإغفاله يشقى المجتمع، وتسوده نوازع الحسد، والحقد، والبغضاء، والكيد. فينفجر عن ثورة عارمة ماحقة، تزهق النفوس، وتمحق الأموال، وتهدد الكرامات.
من أجل ذلك دعت الشريعة الإسلامية إلى السخاء والبذل والعطف على البؤساء والمحرومين، واستنكرت على المجتمع أن يراهم يتضورن سغبا وحرمانا، دون أن يتحسس بمشاعرهم، وينبري لنجدتهم وإغاثتهم. واعتبرت الموسرين القادرين والمتقاعسين عن إسعافهم أبعد الناس عن الإسلام، وقد قال رسول الله(صلى الله عليه وآله): (من أصبح ولم يهتم بأمور المسلمين فليس بمسلم) (1 عن الكافي).
وقال(صلى الله عليه وآله): (ما آمن بي من بات شبعان وجاره جائع، وما من أهل قرية يبيت فيهم جائع ينظر الله إليهم يوم القيامة) (2 عن الكافي).
وإنما حرض الإسلام أتباعه على الأريحية والسخاء، ليكونوا مثلا عاليا في تعاطفهم ومواساتهم، ولينعموا بحياة كريمة، وتعايش سلمي، ولأن الكرم صمام أمن المجتمع، وضمان صفائه وازدهاره.
مجالات الكرم
تتفاوت فضيلة الكرم، بتفاوت مواطنه ومجالاته. فأسمى فضائل الكرم، وِأشرف بواعثه ومجالاته، ما كان استجابة لأمر الله تعالى، وتنفيذا لشرعه المطاع، وفرائضه المقدسة، كالزكاة، والخمس، ونحوهما.
وهذا هو مقياس الكرم والسخاء في عرف الشريعة الإسلامية، كما قال النبي(صلى الله عليه وآله): (من أدى ما افترض الله عليه، فهو أسخى الناس) (1 الوافي ج6 ص67 عن الفقيه).
وأفضل مصاديق البر والسخاء بعد ذلك، وأجدرها ـ عيال الرجل وأهل بيته، فإنهم فضلا عن وجوب الإنفاق عليهم، وضرورته شرعا وعرفاً، أولى بالمعروف والإحسان، وأحق بالرعاية واللطف.
وقد يشذ بعض الأفراد عن هذا المبدأ الطبيعي الأصيل، فيغدقون نوالهم وسخائهم على الأباعد والغرباء، طلبا للسمعة والمباهاة، ويتصفون بالشح والتقتير على أهلهم وعوائلهم، مما يجعلهم في ضنك واحتياج مريرين، وهم ألصق الناس بهم وأحناهم عليهم، وذلك من لؤم النفس، وغباء الوعي.
لذلك أوصى أهل البيت(عليه السلام) بالعطف على العيال، والترفيه عنهم بمقتضيات العيش ولوازم الحياة:
قال الإمام الرضا(عليه السلام): (ينبغي للرجل أن يوسع على عياله، لئلا يتمنوا موته) (1 الوافي ج6 ص67 عن الفقيه).
وقال الإمام موسى بن جعفر(عليه السلام): (إن عيال الرجل أسراؤه، فمن أنعم الله عليه نعمة فليوسع على أسرائه، فإن لم يفعل أوشك أن تزول تلك النعمة) (2 الوافي ج6 ص61 عن الكافي والفقيه).
والأرحام بعد هذا وذاك، أحق الناس بالبر، وأحراهم بالصلة والنوال، لأواصرهم الرحمية، وتساندهم في الشدائد والأزمات.
ومن الخطأ الفاضح، حرمانهم من تلك العواطف، وإسباغها على الأباعد والغرباء، ويعتبر ذلك ازدراء صارخا، يستثير سخطهم ونفارهم، ويحرم جافيهم من عطفهم ومساندتهم.
وهكذا يجدر بالكريم، تقديم الأقرب الأفضل، من مستحقي الصلة والنوال: كالأصدقاء والجيران، وذوي الفضل والصلاح، فإنهم أولى بالعطف من غيرهم.
بواعث الكرم
وتختلف بواعث الكرم، باختلاف الكرماء، ودواعي أريحيتهم، فأسمى البواعث غاية، وأحمدها عاقبة، ما كان في سبيل الله، وابتغاء رضوانه، وكسب مثوبته.
وقد يكون الباعث رغبة في الثناء، وكسب المحامد والأمجاد، وهنا يغدو الكريم تاجرا مساوما بأريحيته سخائه.
وقد يكون الباعث رغبة في ما هو مأمول، أو رهبة من ضرر مخوف، يحفزان على التكرم والإحسان.
ويلعب الحب دورا كبيرا في بعث المحب وتشجيعه على الأريحية والسخاء. استمالة لمحبوبه. واستدراراً لعطفه.
والجدير بالذكر أن الكرم لا يجمل وقعه، ولا تحلو ثماره، إلا إذا تنزه عن المن، وصفى من شوائب التسويف والمطل، وخلا من مظاهر التضخيم والتنويه، كما قال الصادق(عليه السلام): (رأيت المعروف لا يصلح إلا بثلاث خصال: تصغيره، وستره ، وتعجيله. فإنك إذا صغرته عظمته عند من تصنعه إليه، وإذا سترته أتممته، وإذا عجلته هنيته، وإن كان غير ذلك محقته ونكدته) (البحار م16 من كتاب العشرة ص116 عن علل الشرائع).
10 ـ الإيثار
وهو: أسمى درجات الكرم، وأرفع مفاهيمه، ولا يتحلى بهذه الصفة المثالية النادرة، إلا الذين تحلوا بالأريحية، وبلغوا قمة السخاء، فجادوا بالعطاء، وهو بأمس الحاجة إليه، وآثروا بالنوال، وهم في ضنك من الحياة، وقد أشاد القرآن بفضلهم قائلا: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة)) (الحشر: 9).
وسئل الصادق(عليه السلام): أي الصدقة أفضل؟ قال: جُهد المُقل، أما سمعت الله تعالى يقول: ((ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة))(2 الوافي ج6 ص58 عن الفقيه).
ولقد كان النبي(صلى الله عليه وآله) المثل الأعلى في عظمة الإيثار، وسمو الأريحية.
قال جابر بن عبد الله: ما سئُل رسول الله(صلى الله عليه وآله) شيئا فقال لا.
وقال الصادق(عليه السلام): (إن رسول الله أقبل إلى الجِعرانة، فقسم فيها الأموال، وجعل الناس يسألونه فيعطيهم، حتى ألجؤوه إلى شجرة فأخذت برده، وخدشت ظهره، حتى جلوه عنها، وهم يسألونه، فقال: أيها الناس ردوا علي بردي والله لو كان عندي عدد شجر تهامة نعما لقسمته بينكم، ثم ما ألفيتموني جبانا ولا بخيلا. . .) (سفينة البحار ج1 ص607 عن علل الشرائع. والجعرانة موضع بين مكة والطائف).
وقد كان(صلى الله عليه وآله) يؤثر على نفسه البؤساء والمعوزين، فيجود عليهم بماله وقوته، ويظل طاويا، وربما شد حجر المجاعة على بطنه مواساة لهم.
قال الباقر(عليه السلام): (ما شبع النبي من خبز بُر ثلاثة أيام متوالية، منذ بعثه الله إلى أن قبضه) (سفينة البحار ج1 ص194 عن الكافي)
وهكذا كان أهل بيته عليهم السلام في كرمهم وإيثارهم:
قال الصادق(عليه السلام): (كان علي أشبه الناس برسول الله، كان يأكل الخبز والزيت، ويطعم الناس الخبز واللحم) (3 البحار م9 ص538 عن الكافي).
وفي علي وأهل بيته الطاهرين، نزلت الآية الكريمة:
((ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاءا ولا شكورا))(الدهر: 8ـ9).
فقد أجمع أولياء أهل البيت على نزولها في علي وفاطمة والحسن والحسين. . وقد أخرجه جماعة من أعلام غيرهم، وإليك ما ذكره الزمخشري في تفسير السورة من الكشاف.
قال: (وعن ابن عباس أن الحسن والحسين مرضا، فعادهما رسول الله في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك، فنذر علي وفاطمة وفضة جارية لهما، إن برئا مما بهما أن يصوموا ثلاثة أيام فشفيا، وما معهم شيء،فاستقرض علي(عليه السلام) من شمعون الخيبري اليهودي ثلاثة أصوع من شعير، فطحنت فاطمة صاعا، واختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل فقال: السلام عليكم يا أهل بيت محمد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم الله من موائد الجنة، فآثروه، وباتوا ولم يذوقوا إلا الماء، وأصبحوا صياما، فلما أمسوا ووضعوا الطعام بين أيديهم، وقف عليهم يتيم فآثروه، ووقف عليهم أسير في الثالثة ففعلوا مثل ذلك .
فلما أخذ علي بيد الحسن والحسين وأقبلوا إلى رسول الله، فلما أبصرهم وهم يرتعشون كالفراخ من شدة الجوع، قال: ما أشد ما يسوؤني ما أرى بكم، وقام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها، قد التصق بطنها بظهرها، غارت عيناها، فساءه ذلك، فنزل جبرائيل وقال: خذها يا محمد هَناك الله في أهل بيتك، فأقرأه السورة) (1 من الكلمة الغراء ـ للمرحوم آية الله السيد عبد الحسين شرف الدين ص29 بتصرف وتلخيص).
وقد زخرت أسفار السير بإيثارهم، وأريحيتهم، بما يطول ذكره في هذا البحث المجمل.