سورة الطلاق
أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله
عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً
السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع
التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده
بَين يَدَيْ السُّورَة
* سورة الطلاق مدنية وقد تناولت بعض الأحكام التشريعية المتعلقة بأحوال الزوجين، كبيان أحكام الطلاق السني وكيفيته، وما يترتب على الطلاق من العدة، والنفقة، والسكنى، وأجر المرضع إِلى غير ما هنالك من أحكام.
* وتناولت السورة الكريمة في البدء أحكام الطلاق - الطلاق السُني، والطلاق البدعي - فأمرت المؤمنين بسلوك أفضل الطرق، عند تعذر استمرار الحياة الزوجية، ودعت إِلى تطليق الزوجة في الوقت المناسب وعلى الوجه المشروع، وهو أن يطلقها طاهراً من غير جماع، ثم يتركها إِلى انقضاء عدتها.
* وفي هذا التوجيه الإِلهي دعوةٌ للرجال أن يتمهلوا ولا يسرعوا في فصل عرى الزوجية، فإِن الطلاق أبغض الحلال إِلى الله، ولولا الضرورات القسرية لما أُبيح الطلاق لأنه هدم للأسرة,
* ودعت السورة إِلى إِحصاء العدة لضبط انتهائها، لئلا تختلط الأنساب، ولئلا يطول الأمد على المطلَّقة فيلحقها الضرر، ودعت إِلى الوقوف عند حدود الله، وعدم عصيان أوامره.
* وتناولت السورة أحكام العدة، فبينت عدة اليائس التي انقطع عنها دم الحيض لكبرٍ أو مرض، وكذلك عدة الصغيرة، وعدة الحامل فبينته أوضح بيان مع التوجيه والإِرشاد.
*وفي خلال تلك الأحكام التشريعية تكررت الدعوة إِلى "تقوى الله" بالترغيب تارةً، وبالترهيب أُخرى، لئلا يقع حيفٌ أو ظلم من أحد الزوجين، كما وضحت أحكام السكنى والنفقة.
* وختمت السورة بالتحذير من تعدي حدود الله، وضربت الأمثلة بالأمم الباغية التي عتت عن أمر الله، وما ذاقت من الوبال والدمار، ثم أشارت إِلى قدرة الله في خلق سبع سماوات طباق، وخلق الأرضين، وكلها براهين على وحدانية رب العالمين.
أحكام الطلاق والعدة وثمرات تقوى الله
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا(1)فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا(2)وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا(3)}
سبب النزول:
نزول الآية (1):
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي والدارقطني عن ابن عمر: "أنه طلّق امرأته، وهي حائض، فذكر ذلك عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فتغيظ منه، ثم قال: ليراجعْها ثم يمسكها حتى تطهر، ثم تحيض، فتطهر، فإن بدا له أن يطلِّقها فليطلّقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر بها الله عز وجل".
سبب نزول الآية (2):
أخرج ابن مردويه والخطيب عن ابن عباس قال: "جاء عَوْف بن مالك الأشجعي، فقال: يا رسول الله، إن ابني أسره العدو، وجزعت أمه، فما تأمرني؟ قال: آمرك وإياها أن تستكثروا من: {لا حول ولا قوة إلا بالله} فقالت المرأة: نعم ما أمرك، فجعلا يكثران منها، فتغفل عنه العدو، فاستاق غنمهم، فجاء بها إلى أبيه، فنزلت: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً}".
{يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ} الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم والحكم عام له ولأمته، وخصَّ هو بالنداء صلى الله عليه وسلم تعظيماً له، كما يقال لرئيس القوم وكبيرهم يا فلان افعلوا أي افعل أنت وقومك، فهو نداء على سبيل التكريم والتعظيم، قال القرطبي: الخطابُ للنبي صلى الله عليه وسلم خوطب بلفظ الجماعة {طلقتم} تعظيماً وتفخيماً والمعنى: يا أيها النبي ويا أيها المؤمنون إِذا أردتم تطليق النساء {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} أي فطلقوهن مستقبلات لعدتهن، وذلك في الطهر، ولا تطلقوهن في الحيض، قال مجاهد: أي طاهراً من غير جماع لقوله صلى الله عليه وسلم: (فليطلقها طاهراً قبل أن يمسَّها، فتلك العدة التي أمر الله تعالى أن يُطلَّق لها النساء) قال المفسرون: وإِنما نُهي عن طلاق المرأة وقت الحيض لئلا تطول عليها العدة فتتضرر، ولأن حالة الحيض منفِّرة للزوج، تجعله يتسرع في طلاقها بخلاف ما إِذا كانت طاهراً، وكونه لم يجامعها في ذلك الطهر، لئلا يحصل من ذلك الوطء حملٌ، فتنتقل العدة من الحيض لوضع الحمل وفي ذلك ضرر ظاهر {وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ} أي اضبطوها وأكملوها ثلاثة أقراء كاملة لئلا تختلط الأنساب {وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ} أي خافوا الله ربَّ العالمين، بامتثال أوامره واجتناب نواهيه {لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ} أي لا تخرجوهن من مساكنهن، بعد فراقكم لهن إِلى أن تنقضي عدتهن {وَلا يَخْرُجْنَ إِلا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ} أي ولا يخرجن من البيوت حتى تنقضي عدتهن، إلا إذا قارفت المطلقة عملاً قبيحاً كالزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، قال ابن جزي: نهى الله سبحانه وتعالى أن يُخرج الرجلُ المرأة المطلَّقة من المسكن الذي طلقها فيه، ونهاها هي أن تخرج باختيارها، فلا يجوز لها المبيت خارجاً عن بيتها، ولا أن تغيب عنه نهاراً إِلا لضرورة التصرف، وذلك لحفظ النسب وصيانة المرأة، واختلف في الفاحشة التي تبيح خروج المعتدة فقيل: إِنها الزنى فتخرج لإِقامة الحد عليها، وقيل إِنه سوء الكلام مع الأصهار وبذاءة اللسان فتخرج ويسقط حقها من السكنى، ويؤيده قراءة "إلا أن يفحشن عليكم" {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي وهذه الأحكام هي شرائع الله ومحارمه {وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} أي ومن يخرج عن هذه الأحكام، ويتجاوزها إِلى غيرها ولا يأتمر بها، فقد ظلم نفسه بتعريضها للعقاب، وأضرَّ بها حيث فوَّت على نفسه إِمكان إِرجاع زوجته إِليه، قال الرازي: وهذا تشديدٌ فيمن يتعدى طلاق السنة، ومن يطلق لغير العدة {لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا} أي لا تعرف أيها السامع ماذا يُحدِث اللهُ بعد ذلك الطلاق من الأمر؟ فلعل الله يقلّب قلبه من بغضها إِلى محبتها، ومن الرغبة عنها إِلى الرغبة فيها، فيجعله راغباً في زوجته بعدما كان كارهاً لها، قال ابن عباس: يريد الندم على طلاقها، والمحبة لرجعتها في العدة {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} أي فإِذا شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أي فراجعوهنَّ إِلى عصمة النكاح مع الإِحسان في صحبتهن كما أمر الله، أو اتركوهن حتى تنقضي عدتهن فيملكن أنفسهن، قال المفسرون: الإِمساك بالمعروف هو إِحسان العشرة وتوفية النفقة، من غير قصد المضارة في الرجعة لتطول عليها العدة، والفراق بالمعروف هو أداء الصَّداق، والمتعة عند الطلاق، والوفاء بالشروط مع توفية جميع حقوقها {وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ} أي وأشهدوا عند الطلاق أو الرجعة، شخصين من أهل العدالة والاستقامة ممن تثقون في دينهما وأمانتهما، قال أبو حيّان: وهذا الإِشهاد مندوبٌ إِليه عند أبي حنيفة كقوله تعالى {وأشهدوا إِذا تبايعتم} وعند الشافعية واجبٌ في الرجعة، مندوبٌ إِليه في الفرقة {وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} أي اشهدوا بالحق دون تحيز لأحد، خالصاً لوجه الله تعالى من غير تبديل ولا تغيير، ودون مراعاةٍ للمشهود له أو المشهود عليه {ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ} أي هذا الذي شرعناه من الأحكام، إِنما ينتفع ويتعظ به المؤمن الذي يخشى الله، ويخاف الحساب والعقاب في الدار الآخرة {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} أي ومن يراقب الله ويقف عند حدوده، يجعل له من كل همٍ فرجاً، ومن كل ضيقٍ مخرجاً، ويرزقه من وجه لا يخطر بباله ولا يعلمه، قال مجاهد: كنت عند ابن عباس فجاءه رجلٌ فقال: إِنه طلَّق امرأته ثلاثاً، فسكت حتى ظننت أنه رادها إِليه، ثم قال: ينطلق أحدكم فيركب أحموقته ثم يقول: يا ابن عباس، يا ابن عباس!! والله تعالى يقول {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً} وإِنك لم تتق الله فلا أجد لك مخرجاً، عصيت ربك وبانت منك امرأتك، وقال المفسرون: الآية عامة وقد نزلت في "عوف بن مالك الأشجعي" أسر المشركون ابنه، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا إِليه الفاقة وقال: إن العدوَّ أسر ابني وجزعتْ أمه فما تأمرني؟ فقال صلى الله عليه وسلم له: اتق الله واصبر، وآمرك وإِياها أن تستكثروا من قول "لا حول ولا قوة إلا بالله" ففعل هو وامرأته، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب، ومعه مائة من الإِبل غفل عنها العدو فاستاقها فنزلت {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ} {وَمَنْ يتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} أي ومن يعتمد على الله، ويثقْ به فيما أصابه ونابه، فإِن الله كافيه، قال الصاوي: أي من فوَّض إِليه أمره كفاه ما أهمَّه، والأخذُ بالأسباب لا ينافي التوكل، لأنه مأمور به ولكنْ لا يعتمد على تلك الأسباب، وفي الحديث (لو توكلتم على الله حقَّ توكله لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً) {إنَّ اللهَ بالغُ أمرهِ} أي نافذُ أمره في جميع خلقه، يبلغ ما يريد ولا يعجزه شيء، قال ابن جزي: وهذا حض على التوكل وتأكيدٌ له،لأنالعبد إِذا تحقق أن الأمور كلها بيدالله، توكَّل عل الله وحده ولم يعوِّل على سواه {إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا} أي قد جعل الله لكلِّ أمرٍ من الأمور، مقداراً معلوماً ووقتاً محدوداً، حسب الحكمة الأزلية، قال القرطبي: أي جعل لكلِّ شيءٍ من الشدة والرجاء أجلاً ينتهي إِليه.
عدة المطلقة التي لا تحيض: كبيرة أو صغيرة أو حاملاً
{وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا(4)ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا(5)}
سبب النزول:
نزول الآية (4):
أخرج ابن جرير وإِسحاق بن راهويه والحاكم والبيهقي عن اُبيْ بن كعب قال: لما نزلت الآية التي في سورة البقرة في عَدَد من عِدَد النساءَ، قالوا : قد بقي عدد من عِدَد النساء لم يذكرن: الصغار والكبار اللاتي قد انقطع عنهن الحيض، وأولات الأحمال، فأنزلت: {واللائي يئسن من المحيض} الآية.
ثم بيَّن سبحانه حكم المطلَّقة التي لا تحيض لصغرها أو لكبر سنها فقال {وَاللائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنْ ارْتَبْتُمْ} أي والنسوة اللواتي انقطع حيضهن لكبر سنهنَّ، إِن شككتم وجهلتم كيف تكون عدتهن؟ فهذا حكمهن {فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ} أي فعدةُ الواحدة منهن ثلاثة أشهر، كل شهرٍ يقوم مقام حيضة {وَاللائِي لَمْ يَحِضْنَ} أي وكذلك اللواتي لم يحضن لصغرهن عدتهن ثلاثة أشهر {وَأُوْلاتُ الأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي والمرأة الحامل تنتهي عدتها بوضع الحمل، سواءً كانت مطلقة، أو متوفى عنها زوجها {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا} أي ومن يخشى الله في أقواله وأفعاله، ويجتنب ما حرَّم الله عليه، يسهِّل عليه أمره ويوفقه لكل خير {ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ} أي ذلك هو حكم الله وشرعه الحكيم، أنزله عليكم أيها المؤمنون لتأتمروا به، وتعملوا بمقتضاه {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا} أي ومن يتَّق ربه يمح عنه ذنوبه، ويضاعف له الأجر والثواب، قال الصاوي: كرر التقوى لعلمه سبحانه وتعالى أن النساء ناقصات عقلٍ ودين، فلا يصبر على أمورهن إِلا أهل التقوى، وقال أبو حيّان: لمَّا كان الكلام في أمر المطلقات، وكنَّ لا يطلَّقن إِلا عن بغض أزواجهنَّ لهنَّ، وقد ينسب الزوج إِليها ما يشينها وينفِّر الخُطَّاب عنها، فلذلك تكرر الأمر بالتقوى، وجاء مبرزاً في صورة شرط وجزاء {وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ } الآية.
السكنى والنفقة للمعتدة، وأجرة الرضاع
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى(6)لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا(7)}
{أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ} أي أسكنوا هؤلاء المطلقات في بعض مساكنكم التي تسكنونها، على قدر طاقتكم ومقدرتكم، فإِن كان موسراً وسَّع عليها في المسكن والنفقة، وإِن كان فقيراً فعلى قدر الطاقة {وَلا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ} أي ولا تضيقوا عليهن في السكنى والنفقة، حتى تضطروهن إِلى الخروج أو الافتداء {وَإِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ} أي وإِن كانت المطلَّقة حاملاً {فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} أي فعلى الزوج أن ينفق عليها - ولو طالت مدة الحمل - حتى تضع حملها {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ} أي فإِذا ولدت ورضيت أن ترضع له ولده {فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} أي فعلى الرجل أن يدفع لها أجر الرضاعة، لأن الأولاد ينسبون إِلى الآباء، قال ابن جزي: والمعنى إِن أرضع هؤلاء الزوجات المطلقات أولادكم، فآتوهنَّ أجرة الرضاع وهي النفقة وسائر المؤن {وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ} أي وليأمر كلٌ منهما صاحبه بالخير، من المسامحة والرفق والإِحسان، قال القرطبي: أي ولْيقبل بعضكم من بعض ما أمره به من المعروف الجميل، والمعروف منها: إِرضاعُ الولد من غير أجرة، والمعروف منه، توفيرُ الأجرة عليها للإِرضاع {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ} أي تضايقتم وتشددتم، وعسر الاتفاق بين الزوجين، فأبى الزوج أن يدفع لها ما تطلب، وأبت الزوجة أن ترضعه بأنقص من ذلك الأجر {فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} أي فليستأجر لولده مرضعةً غيرها، وهو خبرٌ بمعنى الأمر أي فليسترضعْ لولده مرضعةً أُخرى، قال أبو حيان: وفيه عتابٌ للأم لطيف كما تقول لمن تطلب منه حاجة فيتوانى عنها: سيقضيها غيرك، تريد أنها لن تبقى غير مقضية وأنت ملوم، قال الضحاك: إِن أبت الأم أن ترضع استأجر لولده أخرى، فإِن لم يقبل أُجبرت أمه على الرضاع بالأجر {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ} هذا بيانٌ لقدر الإِنفاق والمعنى: لينفقْ الزوج على زوجته وعلى ولده الصغير، على قدر وسعه وطاقته، قال ابن جزي: وهو أمرٌ بأن ينفق كل واحد على مقدار حاله، فلا يكلف الزوج ما لا يطيق، ولا تُضيَّع الزوجة بل يكون الحال معتدلاً، وفي الآية دليلٌ على أن النفقة تختلف باختلاف أحوال الناس يسراً أو عسراً {وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ} أي ومن ضُيّق عليه رزقه فكان دون الكفاية {فَلْيُنفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ} أي فلينفق على مقدار طاقته، وعلى قدر ما آتاه الله من المال {لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلا مَا آتَاهَا} أي لا يكلف الله أحداً إِلا بقدر طاقته واستطاعته، فلا يكلف الفقير مثل ما يكلف الغني، قال أبو السعود: وفيه تطييبٌ لقلب المعسر، وترغيبٌ له في بذل مجهوده، وقد أكد ذلك الوعد بقوله {سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا} أي سيجعل الله بعد الضيق الغنى، وبعد الشدة السعة والرخاء، وفيه بشارة للفقراء بفتح أبواب الرزق عليهم.
التحذير من عصيان الله وتعدي حدوده
{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا(8)فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا(9)أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا(10) رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا(11)اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا(12)}
ثم حذَّر تعالى من عصيانه وتعدي حدوده، وضرب الأمثال بالأمم السابقة فقال {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ} أي وكثير من أهل قرية من الأمم السالفة {عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ} أي طغت وتمردت على أوامر الله وأوامر رسله {فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا} أي فجازيناها على عصيانها وطغيانها بأنواع العذاب الأليم، من الجوع والقحط وعذاب الاستئصال {وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا} أي عذاباً منكراً عظيماً يفوق التصور {فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا} أي فذاقت عاقبة كفرها وطغيانها وتمردها على أوامر الله {وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا} أي وكانت نتيجة بغيها الهلاك والدمار، والخسران الذي ما بعده خسران .. ولمّا ذكر ما حلَّ بالأمم الطاغية، أمر المؤمنين بتقوى الله، تحذيراً من عقابه لئلا يصيبهم ما أصاب أولئك المجرمين فقال {أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا} أي هيأ الله لهم في الآخرة عذاب جهنم الشديد المؤبد {فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ} أي فخافوا الله واحذروا بطشه وانتقامه يا أصحاب العقول السليمة {الَّذِينَ آمَنُوا} أي أنتم يا معشر المؤمنين الذين صدقتم بالله ورسوله {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} أي قد أنزل الله إِليكم وحياً يتلى وهو القرآنُ الحكيم {رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْكُمْ ءاياتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ} أي وأرسل إِليكم رسولاً وهو محمد صلى الله عليه وسلم يقرأ عليكم ءاياتِ الله، واضحات جليات، تبيِّن الحلال والحرام وما تحتاجون إِليه من الأحكام، قال أبو حيّان: والظاهر أن الذكر هو القرآن، وأن الرسول هو محمد صلى الله عليه وسلم {لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} أي ليخرج المؤمنين المتقين، من الضلالة إِلى الهدى، ومن ظلمة الكفر والجهل إِلى نور الإِيمان والعلم {وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا} أي ومن يُصدق بالله ويعمل بطاعته {يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} أي يدخله في الآخرة جنات النعيم، تجري من تحت قصورها أنهار الجنة {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} أي ماكثين في تلك الجنان - جنان الخلد - أبداً لا يخرجون منها ولا يموتون {قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا} أي قد طيَّب الله رزقهم في الجنة ووسَّعه لهم، لأن نعيمها دائم لا ينقطع، قال الطبري: أي وسَّع لهم في الجنات الرزق، وهو ما رزقهم من المطاعم والمشارب وسائر ما أعدَّ لأوليائه فيها فطيَّبه لهم، وفي الآية معنى التعجب والتعظيم لما رزق الله المؤمن من الثواب .. ثم أشار تعالى إِلى آثار قدرته، وعظيم سلطانه وجلاله فقال {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنْ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ} أي اللهُ العظيم الكبير هو الذي خلق بقدرته سبع سماواتٍ طباقاً، ومن الأرض كذلك خلق سبع أرضين بعضها فوق بعض بدون فتوق بخلاف السماوات {يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ} أي يتنزل وحيُ الله ويجري أمره وقضاؤه بين السماوات والأرضين {لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} أي لتعلموا أن من قدر على خلق ذلك قادر على كل شيءٍ {وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا} أي ولتعملوا أنه تعالى عالم بكل شي، لا تخفى عليه خافية.