دخلت بيت فلان بعد العصر فوجدت صغيرهم مشدوها ينظر إلى التلفاز، لم أكترث بالأمر ودرجت في الحديث مع صاحبي.. وفجأة يقطع كلامي صوت انفجار الطفل ضاحكاً!.. تأهبت وجعلت أنظر!، ثم لاحظت أن الأمر فيما يبدو عند أهل البيت طبيعي، إلا أن ذلك شدَّني لأنظر إلى ما يتابعه الطفل فلم أتمالك نفسي وانفجرت بعد دقيقة ضاحكاً!.. وهنا نظر إليَّ صاحب الدار باستغراب! ورغم ملاحظتي تفرقته (العنصرية)! بيني وبين الصبي، إلا أني تجاوزت ذلك؛ واندفعت أشرح له كيف أن الفأر ورط القط مع الكلب مفتول العضلات في موقف كانت نتيجته مأساوية للقط المسكين، فكاهية عند المشاهدين..
ورغم أن ملامح وجه صاحبي كانت ضجرة إلاّ أنه هز رأسه بتفهم، فلم يسعني إلاّ استجماع شتات الوقار الذي طار، ومن ثم تحويل مسار الكلام في صورة حاولت أن تبدو طبيعية؛ وانتهت الزيارة..
ثم مرت أيام، وزرت جارنا مرة أخرى؛ فإذا بصغيرهم في نفس الحال الأولى مشدوهاً ينظر إلى التلفاز.. لم أبال بالأمر؛ وجعلت أتجاذب أطراف الحديث مع جاري العزيز.. وفجأة يقطع حبل أفكاري ضحك الطفل كالمرة السابقة.. نظرت فإذا الطفل يتابع ذات المشهد الذي لم أتمالك نفسي عنده في المرة الماضية غير أني لم أكترث هذه المرة كثيراً.. تبسمت لموقف الفأر من القط والكلب، وواصلت حديثي، وبعدها انصرفت..
وبعد شهر تقريباً زرت جارنا العزيز، وبينما كان الجدل محتدماً في بعض مواضيع الساحة الساخنة فإذا بالضحك يهز أرجاء الغرفة!، وعندها قطعت حديثي؛ والتفت إلى الغلام؛ فإذا به يضحك من نفس المشهد؛ فلم يسعني حينها إلا أن أقطب حاجبي بغير شعور، ثم تملكت نفسي؛ واستجمعت ذاكرتي؛ وأكملت ما كنت بدأته، وبعدها استأذنت، وانصرفت..
رجعت إلى بيتي بعد أن أرخى الليل أستاره..
وكالعادة تجاذبت قبل النوم مع زوجي أطراف الحديث، وكان فيما قالت أنها تود أن تكتب مقالاً عن التربية بالمداعبة، وتسألني إن كانت عندي أفكار حول الموضوع.. أمسكت بالورقة والقلم؛ وجعلت أعصف الذهن بحثاً عن أفكار مناسبة، وفجأة تذكرت صغير جارنا العزيز.. تذكرت شأنه مع الفأر والقطة والكلب، وعندها فتح الله عليَّ باكتشاف سر ضحكه!..
لقد جبل الأطفال على حب المرح؛ فهم يحبون الطريف، ويتقبلونه؛ حتى لا يكاد أحدهم يمله؛ على الرغم من كثرة تكراره، وترداده أحيانا.. ولقد أدرك بعض صناع ثقافة العصر من أهل الغرب هذا الأمر؛ فاستطاع أن يدخل ثقافته في عقول النشء من خلال الأفلام الكرتونية، وإن بدت عند الكبار مجرد خزعبلات كوميدية؛ جدير بها أن تمل قريباً..
بل وجدت بعض أهل الفكر من الغربيين أمثال بنيامين باربر ناقمين على ميكي ماوس الناطق بالفرنسية في ووالت ديزني باريس!، ونحوها من المنتجات الأمريكية؛ ويرون أنها أحصنة طروادة التي تتسلل منها أمريكا إلى ثقافات الأمم..
وللأسف!
كم من أب في شرقنا غافل عن هذه الحقيقة، ويحسب أن التربية الجادة المؤثرة تكون بتقطيب الجبين، ومط الشفة، وإصدار التعليمات، مع اتخاذ هراوة غليظة؛ ويظن أنه بذلك يربي الأبناء تربية جادة!.. ويزيد الأمر سوءاً من يمارس ذلك باسم الدين!.. وما درى المتجهم المسكين أن سيد المربيين، وأستاذهم بغير مدافع صلى الله عليه وسلم في وادٍ وهو في واد آخر؛ فما أبعد البَون بين هديه وبين صنيع أولائك؛ فقد علَّمنا صلى الله عليه وسلم أنماط التربية، وضرب لنا الأمثال العملية في التربية بالرفق، واللين، والفكاهة، والمداعبة؛ فلا يمنعه -وهو القائد الأول - محله من أن يداعب صغيراً مات طائره قائلاً مذكرا في نوع من المشاكسة الظريفة: يا أبا عمير! ما فعل النغير؟!..
ولك أن تترجم حاصلها بالدارجية فتقول: (وي وي مات الطير)..
وأين أصحاب الصرامة هؤلاء من دلعه صلى الله عليه وسلم لسانه للحسين كما روى ابن حبان في صحيحه..
بل حتى الصلاة يلاطف فيها صلى الله عليه وسلم صبيبين جعلا منه مطية وهو ساجد؛ فلا تعجب ولا تسأل عن تعلق ذينك الصبيين (الحسن والحسين رضي الله عنهما) بالصلاة، وحبهما لها.. وحسبك أنهما سيِّدا شباب أهل الجنة..
ولو أن صاحبنا المربي المقطب مر به مثل هذا الموقف لرأيت ملاكماً بارعاً يلقن الأطفال بقبضتيه دروساً في التربية غير البدنية!، وفي احترام الشعائر الدينية!..
وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم غير خبر يفيد ملاطفته الصغار، ومداعبته الأطفال؛ فلا غرو أن يشب ناشئة ذلك الجيل وملء قلوبهم حب له صلى الله عليه وسلم، وإيمان، وتصديق.
لقد نجح صلى الله عليه وسلم في تسخير الدعابة، والملاطفة لأجل إنشاء جيل مسلم، مرتبط بنبيه، محب له، ولمنهجه الوسط، بعيد عن التجهم، والغلظة، مجانب للتهتك والمجون، متزن؛ يعرف للجد وقته، ويحفظ للنفس والإخوان والأهل حقهم..
وهكذا كان الصحابة من بعده؛ فقد روى ابن أبي الدنيا في كتاب العيال عن ثابت بن عبيد قال: ما رأيت أحداً أفكه في بيته؛ ولا أحلم في مجالسه من زيد بن ثابت!.. أتدري أيها الصارم من هو زيد بن ثابت؟!.. قال علماؤنا: المعروف لايعرّف!..
اللهم فارزقنا، والمربين المقطبين فرْد تجاعيد الوجه، وحسن اقتفاء الأثر