ملفات شائكة:
التحديات التي تواجه البابا 118 للأقباط في مصر
شهدت مصر انتخابات نزيهة بين المرشحين على الكرسي البابوي، من أجل الفوز بقمة المؤسسة الدينية المسيحية الأرثوذكسية. وفي الرابع من نوفمبر، تكاملت الإرادة الإلهية مع الإرادة الإنسانية -وفقا لنص لائحة 57 لاختيار البابا- بإجراء القرعة الهيكلية ليتم اختيار الأنبا تواضروس، أسقف محافظة البحيرة، لمنصب بطريرك الكنيسة الأرثوذوكسية ليصبح البابا رقم 118.
لقد مرت الكنيسة الأرثوذكسية بمرحلة انتقالية ليست سهلة، تزامنت معها تغيرات جمة على المستويين السياسي والاجتماعي خارج الكنيسة، وتوازت معها تغيرات كبرى داخل المؤسسة ذاتها، خاصة بعد غياب الشخصية الكاريزمية للبابا شنودة الثالث، الأمر الذي أثار تساؤلات ومخاوف حول إمكانية عبور المرحلة الانتقالية بسلام. ولعل مراحل اختيار البابا الجديد قد مرت بمعوقات عدة، من تحفظات على لائحة 57 الحاكمة لاختيار البابا الجديد، وانتقادات لها، مرورا بطعون في بعض المرشحين للكرسي، وصولا إلى وضع معايير، تم الاستقرار على أساسها على خمسة مرشحين.
تساؤلات عدة تتعلق بالعناصر الحقيقية التي أفضت إلى اختيار البابا الجديد، هل هي المواءمات السياسية؟ أم الصفات الروحية؟ وكيف أجريت العملية الانتخابية؟ وما التحديات التي تواجه البابا تواضروس الثاني، مع أخذ حساسية طبيعة العلاقة بين الدولة والكنيسة، في الحسبان، خاصة مع وجود رئيس منتخب بمواصفات خاصة قد تؤثر في وضع الكنيسة عامة؟، وما الملفات الجديدة التي تنتظر البابا؟ وهل سيستحدث آليات للتعامل مع الملفات القديمة؟.
أولا- إشكالات لائحة 57 لاختيار البابا:
تعد عملية اختيار "بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية" ليست بالأمر اليسير، فهي تخضع لانتخابات بعد تزكية عدد من المطارنة أو الأساقفة أو الكهنة أو الرهبان، ليتم اختيار أعلى ثلاثة أعضاء تصويتا، ثم تجرى القرعة الهيكلية لاختيار واحد منهم ليصير "بابا الكنيسة الأرثوذكسية". ولائحة 1957 هي التي تختص بانتخاب البابا، وصدرت بعد وفاة البابا يوساب الثاني بنحو عام، وانتخب على أساسها البابا كيرلس السادس عام 1959، كما انتخب على أساسها البابا شنودة الثالث عام 1971.
وقد تكون الاختيارات من بين شخصيات غير معروفة، كرئيس دير أو راهب عادي.أما فيما يتعلق بشروط الناخبين –المادتان 8 و9 من اللائحة- فإنها اختزلت حق اختيار البابا في أعضاء المجمع المقدس المكون مما يقرب من 110 أساقفة، ومن الشخصيات العامة المعروفة بنشاطها لدى الكنيسة، وهم: وجهاء المسيحيين في المدن والمحافظات والإيبارشيات التي يقدّر عددها بـنحو 65 إيبارشية على مستوى الجمهورية، والوزراء المسيحيون السابقون والحاليون، وأعضاء مجلس الشعب السابقون والحاليون، وأعضاء المجلس الملّي السابقون والحاليون(1)، على أن تجرى بين ثلاثة المرشحين الأعلى أصواتا "قرعة هيكلية"، إذ يختار طفل من الحاضرين ورقة من بين ثلاث ورقات، تحمل كل منها اسم مرشح من الثلاثة، خلال قداس خاص يعرف بـ"قداس القرعة الهيكلية"، وبعده تدق الأجراس معلنة اختيار البابا الجديد، و"يرسم" من تستقر عليه القرعة الهيكلية بطريركا للكنيسة القبطية الأرثوذكسية.
وتضع "لائحة 1957" شروطا لاختيار البطريرك الجديد، هي ألا يقل عمره عن أربعين عاما، وأن يكون قد مضى في سلك الرهبنة بالأديرة مدة لا تقل عن خمسة عشر عاما، وأن يكون مصريا، ولم يسبق له الزواج، سواء كان مطرانا أو أسقفا أو راهبا. وتتكون لجنة للترشيح من تسعة أشخاص من المجمع المقدس، وتسعة من هيئة الأوقاف القبطية، كما تقضي اللائحة بأن يشارك إمبراطور إثيوبيا -هذا وفقا للائحة القديمة. أما الآن، فلا إمبراطور، بل رئيس لإثيوبيا- إضافة إلى شخصيات إثيوبية عامة يختارهم (الإمبراطور) الإثيوبي في اختيار بابا الكنيسة المصرية التي تتبعها الكنيسة الإثيوبية، وكنائس أخرى في إفريقيا.
هذه هي أهم بنود لائحة 57 التي أثارت عدة تحفظات لدى العلمانيين المسيحيين (2)، لأسباب مختلفة تتعلق-من وجهة نظرهم- بتناقض اللائحة مع قوانين الكنيسة، وتعاليم الآباء، خاصة في مسألة ترشيح المطارنة والأساقفة للكرسي البابوي، التي تتعارض مع قوانين المجامع المسكونية، لأن الأساقفة العامّين قد لا يناسبون البابوية،لاحتمال ميلهم إلى منطقة أو إيبارشية بعينها، كما يرون أن اللائحة نفسها لم تعد تناسب العصر الحالي، خاصة مع وصف القرعة الهيكلية بـ "يد الله في الاختيار"، فالمجمع المقدس يستطيع أن يضغط على الأساقفة والمطارنة المرشحين لسحب ترشيحهم.
كما يرى بعض العلمانيين أن اللائحة لا تتوافق مع المتغيّرات الكنسية والسياسية التي تشهدها مصر، كما أن كشوف الناخبين تتضمّن مجموعة محدودة لا تعبّر عن الشعب ولا تعطيهم حق الانتخاب، رغم سماحة الإنجيل الذي يتيح للناس الحق في التعبير، فيما يعترض آخرون على عملية القرعة الهيكلية، متعللين بأنها تتعارض مع مبدأ الانتخاب، إضافة إلى أن اللائحة وضعت في عام 1957، حين كان عدد المصريين لا يتعدى 15 مليونا، منهم نحو ثلاثة ملايين مسيحي، وأنه يجب تعديل اللائحة وفقا لتعداد المسيحيين حاليا.
وعلى الرغم من تلك التحفّظات، فإنه جدير بالذكر أن تعديل اللائحة لا يحق لأي أحد، إذ كان يتوجّب التعديل في ظل وجود بابا للكنيسة، ثم بوفاة قداسة البابا شنودة، يصبح انتخاب البابا الجديد مقترنا بالقانون قبل تعديله، وأن اختياره سيتم على هذا الأساس، مع إمكانية تعديل اللائحة بعد انتخاب البابا الجديد عبر المجمع المقدس، الأمر الذي تعهّد المرشحون على الكرسي الباباوي بأن يكون أول مهمة يعكف البابا المنتخب على إنجازها.
ثانيا- اتجاهات المرشحين على الكرسي البابوي:
من المهم الإِشارة إلى أن الانتخابات البابوية هي من أجل الفوز بمنصب ديني روحي لا بمنصب سياسي، ومن ثم فالعلاقة بين المرشحين ليست علاقة تنافسية، كما الحال في الانتخابات ذات الطبيعة السياسية، فلا توجد دعاية انتخابية للمرشحين. كما أن الكنيسة حرصت، طوال الفترة السابقة على الانتخابات، على أن يحضر المرشحون الخمسة أمام "الشعب المسيحي" جميعا، دون انفراد لمرشح على حساب الآخرين، خاصة مع تأكيدات عدد من أعضاء المجلس الملي العام وبعض الناخبين أن بعض المرشحين كانوا يفضلون الانسحاب، لأن من شروط الرهبنة في المسيحية الزهد في السلطة، ومن ثم فإيمان المرشحين الخمسة جميعا هو أن الاختيار الواقع على أي منهم هو قيادة دينية أكثر من كونه منصبا أو زعامة.
إذن، لا يمكن قياس الأمور الكنسية وفق الأدوات السياسية، فالبابا ليس رئيسا سياسيّا، بل هو أب روحي، وينعكس ذلك على قواعد اختيار البابا، فالناخبون ليسوا إزاء انتخاب رئيس، بل اختيار راع روحي.
وفيما يتعلق بالمرشحين للكرسي البابوي، يتعين هنا ذكر أن عدد المرشحين كان 17 -سبعة أساقفة وعشرة رهبان- كان لزاما تصفيتهم إلى 7 مرشحين كحد أقصى، أو 5 مرشحين كحد أدنى. وعليه، تم النظر في الطعون المقدمة من الناخبين ضد المرشحين، ووضعت معايير، استجابة لنبض الشارع المسيحي، وللنخب المسيحية على وجه الخصوص، وللتيار العلماني بالكنيسة، الأمر الذي أشاد به الناخبون المسيحيون من غير الناخبين، إذ تم الاستقرار على خمسة مرشحين فقط، هم:القمص باخوميوس السرياني، والأنبا تواضروس، والأنبا روفائيل، والقمص روفائيل أفامينا، والقمص سورافيم السرياني. ولا يعني استبعاد المرشحين الآخرين الإساءة لأيّ منهم، فهم قامات كنسية اعتمد عليهم البابا شنودة، ومثّلوا الكنيسة الأرثوذكسية في المحافل الدولية.
وبإجراء الانتخابات في التاسع والعشرين من أكتوبر 2012، حُصرت (المنافسة) بين ثلاثة مرشحين، أولهم الأنبا روفائيل، الحاصل على أعلى الأصوات، ثم الأنبا تواضروس، ثم الأنبا روفائيل أفامينا، وذلك بحضور 2256 ناخبا من أصل 2417، بنسبة مشاركة وصلت إلى 93%.
وبالنظر إلى خلفية المرشحين الثلاثة، يمكن تقسيمهم إلى مدرستين أساسيتين، كان المسيحيون يفاضلون بينهما. المدرسة الأولى تنتمي إلى أفكار البابا كيرلس السادس "رجل الصلاة"، وهي مدرسة المعجزات وشفاء المرضى، ويمثل هذه المدرسة الأنبا روفائيل أفامينا. أما المدرسة الثانية، فهي مدرسة البابا شنودة الثالث التي يمثلها الأنبا روفائيل والأنبا تواضروس، وهي التي تميل إلى الاهتمام بالتعليم، وأهمية دور الكنيسة وحضورها داخليّا وخارجيّا، وفتح مزيد من الكنائس القبطية في قارات العالم الخمس.
ثالثا- تواضروس الثاني.. تحديات داخلية ومتغيّرات خارجية:
يعلم البابا الجديد تواضروس الثاني - الذي ستجرى "رسامته" يوم الثامن عشر من نوفمبر الجاري- أن هنالك تحديات صعبة تواجهه، خاصة في ظل متغيرات داخلية وخارجية تتسم بالاختلاف الشديد عن عهد البابا الراحل. ومن أبرز هذه التحديات الداخلية:
- تعديل لائحة 57 لاختيار البابا، خاصة بعد أن وقع إقرارا رسميا بوضع لائحة جديدة للانتخابات البابوية، بدلا عن اللائحة الحالية، في غضون عام واحد بعد يوم "رسامته"(3)، وذلك بعد تأكّد استحالة تعديل اللائحة إلا بانتخاب البابا الجديد.
- تأكيد البابا الجديد مؤسسية الكنيسة التي يجب أن يديرها المجمع المقدس واللجان، والمجلس الملي، وهيئة الأوقاف،لا أن يديرها أشخاص، حتى لا تتكرر المخاوف مرة أخرى بعد رحيله، أسوة بما حدث برحيل البابا شنودة ذي الشخصية القوية.
- التعامل مع علمانيي الكنيسة على أنهم أبناء الكنيسة، أسوة بنهج الأنبا باخوميوس القائم مقام، الذي أخذ في حسبانه التيارات والأفكار المختلفة في إدارة المرحلة الانتقالية، كما يطلب من البابا الجديد إعادة النظر في المجلس الملّي، بدءا من المسمّى، ومرورا بالاختصاصات، ووصولا إلى الصلاحيات.
- استيعاب "الحراك المسيحي" في ظل خروج شباب المسيحيين عن دور الكنيسة التقليدي، وطرح مشكلاتهم، باعتبارها جزءا من مشكلات المصريين، وإصرارهم على حل مشكلاتهم المتراكمة عبر تحقيق مبدأ المواطنة والمساواة، وإنهاء كل صور التمييز، وذلك بالنضال السياسي في الشارع، وسحب التفويض الممنوح للكنيسة لحل مشكلات المسيحيين بالأسلوب التقليدي. هؤلاء الشباب تمرّدوا على السلطة البابوية، فقد يجد البطريرك نفسه في مواجهتهم. ومن المؤكد أن الأمر يحتاج إلى قدرة على التأثير والإقناع، خصوصا في ظل حماسهم الزائد أحيانا في الدفاع عن القضايا المسيحية التي قد تسبب توتّرا في العلاقة بالنظام والرئيس الجديد.
أما على المستوى الخارجي، فلا يمكن التنبؤ بانحسار الدور السياسي للكنيسة في المستقبل القريب، فالدولة فدائما هي التي تدفع بالكنيسة إلى لعب دور سياسي، سواء باختزال المسيحيين في شخص رأس الكنيسة، أو بمراجعتها في التعامل مع الملفات المختلفة، الأمر الذي يدفع إلى الحلول العرفية، ووساطة رجال الدين.كما أن الرئيس المنتخب، وما يتعلق بخلفيته الإسلامية، أمر جديد لم تعهده الكنيسة وإدارتها في السابق. فعلى الرغم من انفتاح البابا الراحل على كافة التيارات، فإن وصول رئيس ذي خلفية إسلامية إلى سدّة الحكم له تداعيات سياسية، واجتماعية ،وثقافية مختلفة عما كان عليه الوضع في السابق. كما أن استمرار المرحلة الانتقالية على المستوى السياسي، مع غياب برلمان منتخب، وكتابة دستور جديد، كلها معطيات تؤكد حداثة المتغيّرات المحيطة بالكنيسة وبالمسيحيين، ومن ثم الحاجة إلى استحداث آليات للتعامل معها.
يضاف إلى ذلك أن تواتر أحداث طائفية ذات طابع جديد، كالتهجير مثلا، يتطلب من البابا الجديد دورا مبتكرا، خاصة في ظل تضارب تصريحات الحكومة بأن المسيحيين في بعض المناطق لم يعانوا التهجير، على غرار أزمة دهشور التي وقعت قبل شهرين ماضييْن. أضف إلى ذلك متغيرا جديدا، هو العلاقة بالطائفتيْن الأخرييْن: الكاثوليكية والإنجيلية، وهو أمر لم يكن مطروحا في السابق، فالاختلافات على المستوى العقيدي بين الطوائف الثلاث لم تنعكس على المستوى السياسي.أما بعد الثورة، فحدث تغيّر في بعض المواقف أو التصريحات السياسية للكنيسة الإنجيلية مثلا، مقارنة بالكنيسة الأرثوذكسية.
ولعل من المشكلات الجديدة، أيضا، مشكلة هجرة المسيحيين إلى الخارج، التي زادت معدلاتها بعد الثورة، فإجراءات وآليات الكنيسة في التعامل مع هذه المشكلة تعد إحدى المسئوليات الجديدة على البابا الجديد، لأنها لا ترتبط بالمخاوف فقط من الصعود الإسلامي والتمييز ضد الآخر الديني، بل ترتبط بمدى الاهتمام بسلامة المسيحيين أيضا، خاصة بعد وعود القائم مقام البابا -في اجتماعه مع عدد من المثقفين المسيحيين- بأن "الكنيسة لن تسمح للبطريرك الجديد بأن يسبّب مشكلة لأي مواطن مسيحي مصري".أما عن الملفات الموروثة التي يواجهها البابا الجديد ، فمنها الضغط على السلطة من أجل إصدار القانون الموحّد لدور العبادة، وقانون الأحوال الشخصية لغير المسلمين... إلخ.
إن البابا الجديد تواضروس الثاني يواجه تحديات داخلية وخارجية صعبة تتطلب إدراكا من الكنيسة والمسيحيين للمتغيرات في المحيطين المصري والعربي، فضلا عن ايجاد سبل جديدة للتعامل مع الملفات الجديد والقديمة في العلاقة بين الكنيسة والدولة.