المنظمة الذكية... ذكاءُ الدماغ أم ذكاء القلب؟
إنَّ بناء المنظمة الذكية "smart organization" يعتمدُ اعتماداً كبيراً على ما يسميه كثيرٌ من اختصاصيي الموارد البشرية بالذكاء العاطفي emotional intelligence. ولكن لسوء الحظ فإنَّ كثيراً من المدراء التقليديين يظنُّون أن المنظمة الذكية هي تلك الممتلئة بالحائزين على أرفع الشهادات الجامعية و على أعلى محصلات الذكاء العامة IQ. يُشير "الذكاء العاطفي El" إلى مقدرة أو طاقة المرء على الالتقاط أو الملاحظة، و التقويم، و التعامل مع عواطفه و عواطف الآخرين. وفي كتابه (الذكاء العاطفي... لماذا هوَ أهمُّ من حاصل الذكاء العام IQ) يخبرنا دانييل جوليمان عن الأسباب التي تجعل الذكاء العاطفي هوَ المؤشر الأصحَّ على أداء المنظمة بدلاً من مؤشر (حاصل الذكاء IQ). يقول جوليمان: "في تحقيق النجاح والأداء المتميز في أية وظيفة و في أي مجال تؤدي الكفاءة أو المقدرة العاطفية emotional competence دوراً مضاعفاً عن الدور الذي تلعبه المقدرات الإدراكية الصرفة، وأما النجاح في المستويات العليا و في المواقع القيادية فإنَّ الكفاءة أو المقدرة العاطفية تكادُ تصبح هي العامل الأوحد في تحقيق النجاح". • دور الذكاء العاطفي في ميدان العمل:
الذكاء العاطفي هو مجموع المهارات و القدرات و الكفاءات التي تتيح للمرء التعامل مع ضغوط و مطالب العمل. ويبين جوليمان أن الذكاء العاطفي يتطور قدماً مع تقدم العمر و التجربة، و هكذا يُفترض أن تكونَ الشركة ذات الموظفين القدامى أذكى عاطفياً من الشركة الناشئة ذات الموظفين الشباب و يُفترضُ أنَّ موظفيها هم أقدرُ على قيادة الفرق والتعامل مع حالات الأخطاء والفشل في المهمات أو المشاريع. والخبرُ السار في هذا الشأن هو أنَّ الذكاء العاطفي يمكن تعلمه و صقله و ليسَ من الضروري أن ينتظر المرء شيب رأسه كلَّه حتى يكون ذكياً عاطفياً! • مكونات الذكاء العاطفي الخمسة التي ينبغي تعلَّمها هي:
1- الدافعية الذاتية self-motivation: أي المقدرة على التأقلم، و البقاء في الوقت ذاته في حالة اندفاع و إقبال على العمل.
2- الوعي الذاتي العميق self-awareness: أي نفاذ البصيرة إلى كيفية حياة المرء و تفاعله.
3- التعاطف empathy: التقاط و تقدير مشاعر الآخرين.
4- إدارة أو حسنُ تدبير المشاعر managing emotions: تفهم المرء لنقاط قوته و نقاط ضعفه العاطفية.
5- المهارات الاجتماعية social skills: مهارات التعامل السلوكية ( أو البينَ شخصية ) في العلاقات مع الآخرين. • الذكاء العاطفي ضرورة أساسية في العمل و ليس ميزةً جانبية:
بسبب حداثة الذكاء العاطفي و ضعف المعرفة أو السماع به -نسبياً- فإنّ كثيراً من المنظمات ترى حضوره لديها أمراً رائعاً ومستحسناً ولكن ليس ضرورياً حتماً! وإذاً فإنَّ الخطوة المهمة الأولى هيَ تفهُّم العلاقة بين الذكاء العاطفي وبين احتياجات العمل المختلفة. في بيان هذه العلاقة يجدُ المرءُ بين يديه أكداساً هائلة من الأبحاث والدراسات التي تؤيد الدور الكبير والمهمَّ للذكاء العاطفي في ميدان العمل. • هذه بعض نتائج الدراسات:
1- بيَّن بحثٌ أجراه مركز القيادة الإبداعية (creative leadership center) أنَّ الأسباب الرئيسة لإخفاق التنفيذيين الكبار المفاجئ ترتبطُ مع نواحي العجز في كفاءتهم العاطفية. وأهم نواحي العجز هي هذه الثلاث: صعوبة التعامل والتكيف مع التغيير، عدم إجادة العمل ضمن فريق، و ضعف العلاقات الشخصية. 2- وفي دراسةٍ تحليلية أجرتها شركة Egon Zehender international على 515 من كبار التنفيذيين تبيَّن بالفعل أنَ الذكاء العاطفي هوَ المؤشر الأكبر على النجاح بالمقارنة مع امتداد التجربة أو حاصل الذكاء المرتفع. 3- في تحليلٍ لأكثر من 300 تنفيذي رفيع المستوى في خمس عشرة شركة عالمية تبين أن الخصال الست التي تميز النجوم البارزين عن الأفراد العاديين هي التالية: التأثير، قيادة الفريق، وعي المنظمة، الثقة بالنفس، دافعية الإنجاز المرتفعة، و القيادية. 4- في إحدى وكالات التأمين الأمريكية لوحظ أن وكلاء البيع ذوي المستوى المتواضع في الكفاءات العاطفية مثل: الثقة بالنفس، والمبادرة ، والتعاطف كانوا يحققون متوسط مبيعاتٍ سنوي قدره 54 ألف دولار بينما كان الأقوياء في خمسٍ على الأقل من بين الكفاءات العاطفية الثمان الأساسية يحققون مبيعاتٍ قدرها 114 ألف دولار. 5- و في شركة ضخمة لإنتاج العصائر كان استخدام أساليب الانتقاء التقليدية لتعيين رؤساء الخطوط يؤدي إلى استقالة أو إقالة 50% منهم تقريباً بعد عامين بسبب ضعف الأداء غالباً. وبعد أن بدأت الشركة بالاختيار بناءً على المقدرات العاطفية مثل المبادرة، و الثقة بالنفس، و القيادية فإنَّ المغادرين كانوا 6 % بعد عامين. 6- إحدى ركائز الذكاء العاطفي الأساسية (وهي التقويم الذاتي الدقيق) قد أُثبتَ ارتباطها مع تحقيق الأداء المتفوِّق لدى مئات المدراء في اثنتي عشرة منظمةً مختلفة. • بمَ يتميز أصحاب الذكاء العاطفي العالي:
بعدَ الاطلاع على الأمثلة السابقة فلا بدَّ من أنك ستسأل: بعد أن اقتنعنا بأهمية الذكاء العاطفي كيف يمكننا اكتشافه و الاستفادة منه عملياً في منظماتنا؟ و تجيبنا على هذا السؤال بعض التقنيات البسيطة التي تستخدمها شركاتٌ كبرى من أجل اكتشاف الموظفين ذوي الذكاء العاطفي العالي. مثلاً: إنَّ استبعاد المتشائمين من بين المتفائلين سوف يساعدنا على التمييز بين أصحاب الاندفاع الذاتي العالي و أصحاب الاندفاع الذاتي الخامل. كما يمكننا تمييز أصحاب الذكاء العاطفي المرتفع من خلال ثباتهم النسبي الملحوظ على مستوىً رفيعٍ من الثقة بالنفس بغض النظر عن المهمات والوظائف المكلَّفين بها حالياً. ويتميز أصحاب هذا الذكاء أيضاً باتساع تجاربهم و مقدرتهم المتميزة على التكيف مع البيئات المختلفة. وهكذا فإننا نرى كثيراً من الشركات تستخدم اختبارات الذكاء العاطفي لدى بحثها عن الموظفين ذوي المهارات الغنية المتكاملة well-rounded skills ( إجادة العمل ضمن فريق، حسن التكيف مع التغيير، التواصل الواضح...). • لماذا التأخُّر في اكتساب الذكاء العاطفي:
يُرجِع كثير من الخبراء تأخرنا في الوصول إلى درجةٍ عاليةٍ من الذكاء العاطفي إلى برامج التعليم السائدة. يصف الكاتب روبرت كوبر في كتابه عن الذكاء العاطفي برامج التعليم هذه بأنها محكومةٌ بالرياضيات و بقراءة التاريخ و غير ذلك من المواد الفكرية. ولا يبقى غير قدرٍ ضئيلٍ من المساحة و الاهتمام لأجل التطور العاطفي و بقية الأمور التي لا بدَّ منها لجعل المرء يستوعب كيفية التعامل مع الآخرين. وهكذا يُتركُ تعلُّمَ المرء ركائزَ الذكاء العاطفي الخمس الأساسية إلى سنواتِ التجربة الطويلة التي لا يستطيعُ أحدٌ تقدير نتيجتها في النهاية! بعدَ الإقرار بأنَّ معظمنا لم يتعلم مهارات الذكاء العاطفي تعلُّماً فإنَّ كلَّ منظمةٍ هي المسؤولة الآن عن تحديد مهارات هذا الذكاء وتنميتها. إنَّ الذكاء العاطفي عنصرٌ أساسي في الفرق المتفوقة الأداء، و في جذب أفضل الكفاءات الملائمة للمنظمة، و جريان الاتصالات الفعَّالة، وفي معظم المزايا التي لا تستغني عنها أية منظمة، وإذا أرادت المنظمة أن تكون ناجحةً حقاً وذكيةً حقاً فإنَّ الذكاء العاطفي ينبغي أن يكونَ في طليعة اهتماماتها. • كيف نحول شركتنا إلى منظمة ذكية:
إن تطبيقات الذكاء العاطفي في مكان العمل لا حصر لها. إننا نجد لهذا الذكاء دوراً أساسياً في حل المشكلات المستعصية بين زملاء العملاء، أو إبرام صفقةٍ مع زبون صعب المراس، أو توجيه النقد إلى رئيسك، أو الالتزام بالمهمة إلى النهاية بالرغم من صعوبتها. وبعدَ أن رأينا دور الذكاء العاطفي في تعزيز الأداء الفردي و بالتالي تعزيز أداء المنظمة، فإننا نصل الآن إلى ذكر خطواتٍ محددة مبسطة في الطريق نحو تحويل الشركة إلى منظمة ذكية. 1- إن الطريق الأبسط و الأسرع و الأسهل لبناء منظمة ذكية هو استخدام موظفين متميزين بمقدراتٍ عاطفية عالية. أي إنهم يُبرِزون -مثلاً- مبادرةً ذاتية عالية، أو دافعيةً ذاتية، أو روحاً قيادية للفريق، أو إدارة ذاتية فعالة، و غير ذلك من المهارات السلوكية أو الإنسانية الرفيعة. وإذاً يمكننا البدء في بناء منظمتنا الذكية من خلال التأكد من أن إجراءات الاستخدام ترتكز في تصفية المتقدمين و انتقائهم على الخصائص العاطفية. 2- إن مراجعات أداء الموظف ينبغي أن تقيمَ اعتباراً كبيراً للخصائص العاطفية المهمة في نجاحه في موقعه الوظيفي المحدَّد. 3- ينبغي أن يتلقى الموظفون تدريباً ملائماً في شؤون الذكاء العاطفي و ركائزه. و ينبغي أن تتذكر المنظمة أنَّ كثيراً من كليات إدارة الأعمال لا تكاد تقدم لطلابها أيَّ فائدةٍ تُذكر في تطوير الذكاء و الكفاءة العاطفيين. ينبغي أن يعلِّم التدريب الموظفين كيف يصبحون أكثر مرونةً و قدرةً على التكيف، و كيف يفتتحون المبادرات بأنفسهم، و كيف يحلُّون النزاعات، و كيف يحلِّلون و يقدِّرون أنفسهم بأنفسهم. على سبيل المثال: يبيِّن التقويم الذاتي للموظف self assessment نواحي الضعف لديه و نواحي القوة، و من الاختبارات المفيدة في هذا الشأن اختبارات مايرز- بريغز Myers – Briggs. و كذلك تفيد في إجراء التقييم الذاتي و التوصل إلى الوعي الذاتي العميق عملياتُ التغذية الراجعة، و عمليات التقويم المحيطية أو الشمولية 360 degree feedback, and 360 degree evaluation. من التصورات المغلوطة حول الذكاء العاطفي أنّ بعض مقوماته أهمُّ من بعض على الإطلاق! إن التصور السابق غيرُ صحيح لأن المواقع الوظيفية العديدة متمايزة كما أن البشر مختلفون متمايزون، و هكذا فإنَّ كلَّ إنسانٍ و كلَّ موقعٍ معين سيكونُ لهما مجموعتهما الخاصة من الكفاءات العاطفية.