مصر هي التي قدمت للعالم المسيحي كله أسس ونظم الحركة الديرية
أوضح كتاب أقباط مصر، للمستشرقة بربارة واترسون، إن الحركة الديرية (الرهبنة) المصرية تعتبر من أهم وأكبر إنجازات مصر التي قدمتها للمسيحية منذ ممارستها في الغرب، لأن هذه الحركة نشأت وتطورت بين أقباط مصر.
وأكد الكتاب الصادر عن الهيئة العامة للكتابة بترجمة إبراهيم سلامة إبراهيم، أنه رغم وجود ميل للنسك في مصر قبل المسيحية، وانتشار الزهد في إقليم اليهودية بفلسطين، لكنه لايوجد دليل على تأثر هذا الزهد المسيحي الذي اتسع نطاقه ونما في مصر خلال القرنين الثالث والرابع للميلاد.
ويشير الكتاب إلى أن الحركات المصرية الاعتزالية هي باكورة الديرية المسيحية، والاعتزال هنا يعني الانسحاب إلى الصحراء، وجاء من ذلك تعريفه للناسك المسيحي أنه الشخص الذي اعتزل في الصحراء لكي يتفرغ لحياة الصلاة والصوم منصرفًا عن المشاغل الدنيوية، وبحسب الموروث المسيحي فإن أول النساك المسيحين هو الأنبا بولا السائح الذي عرف باسم بولس الطيبي، لكنه بحسب التاريخ فإن القديس أنطونيوس هو أول شخص اعتزل في الصحراء بصفته ناسكًا.
ويتكون الكتاب الذي يعد شهادة من سيدة غير مصرية لشعب مصر بتاريخه العظيم والمتواصل الذي يحتضن كافة المذاهب والأديان، ويوفر لها حرية العبادة بمساواة كاملة؛ من ثمانية فصول، بالإضافة إلى قائمة المصادر والمراجع التي اعتمدت عليها المؤلفة، مع إضافة المترجم من فهرس أبجدي لأسماء الأعلام.
تنوعت فصول الكتاب، إلى حد كبير بدءً من الفصل الأول الذي استمل على عرض للوضع السياسي للإغريق في مصر، وهي حقبة طويلة جمعت أحداثها المؤلفة، وتناولت خلالها صدامهم مع الفرس ووصول الإسكندر الأكبر إلى مصر، وما كان من أمره وتخطيط مدينة الإسكندرية، ثم حروبه ومغادرتها الإسكندرية، ثم الأحداث السياسية التي أعقبت وفاته حتى آلت مصر إلى حكم البطالمة ثم الرومان، مدعمة كتابتها بالنصوص المختلفة.
وفي الفصل الثاني من الكتاب، أبرزت المؤلفة أوضاع المسيحية في مصر حتى سنة 303م، وكانت سنوات مليئة بالاضطهادات الدينية في كل أرجاء الإمبراطورية الرومانية عامة، وفي مصر خاصة، قاسى فيها الذين اعتنقوا المسيحية أهوالًا عظيمة، حيث كان الانخراط في المسيحية يُعد جريمة في كافة أنحاء الإمبراطورية. وقد شهدت هذه الفترة استشهاد جموع كبيرة منهم في سبيل العقيدة الجديدة، وقد أشارت المؤلفة إلى دخول المسيحية في مصر على يد القديس مرقس الإنجيلي.
أما الفصل الثالث، فقد أفردته المؤلفة لأحوال المسيحية في مصر حتى سنة 444م، بدءً من عصر الإمبراطور دقلديانوس بأحداثه السياسية واضطهاده الديني الكبير للمسيحية، حيث كان الاضطهاد الذي قام به هذا الامبراطور قد فاق كل الاضطهادات الدينية، وترتب على ذلك سقوط أعداد كبيرة من الأقباط في مصر شهداء، ومن المعروف إنه بدءً من هذا الاضطهاد الكبير اختار أقباط مصر اسمًا علمًا جديدًا ليميزهم عن مسيحيّ العالم، وهو "الأقباط"، وتقويمًا جديدًا، بل وفنًا مميزًا جديدًا لهم يخالف العهد الروماني في مصر. وقد بدأت أحداث الاضطهادات الدينية تضمحل بعد وفاة دقلديانوس، وخاصة عندما ظهر الإمبراطور قسطنطين الكبير، وبدأت الأمور في الاستقرار تدريجيًا.
وقد عرضت المؤلفة في هذا الفصل لكثير من الأحداث الدينية المتعلقة بالمجامع الدينية في هذه الفترة، ما صاحبها من آراء مختلفة بين الكنيسة المصرية، والكنيسة الغربية.
كما تعرضت المؤلفة بعد ذلك في الفصل الرابع للحديث عن المسيحية في مصر حتى سنة 642م، من خلال الحديث عن بطاركة مصر، وماجرى من عقد مجامع دينية، وما كان من انفصال الكنيسة المصرية عن الكنيسة المسيحية الأم من خلال الجدل حول طبيعة السيد المسيح ودخول الفرس مصر وخروجهم ثم بدء الفتح الإسلامي.
ثم تناولت المؤلفة الحركة الديرية في الفصل الخامس، من خلال بدايات حركة الرهبنة في مصر، ومدى ما قدمه آباء ورهبان من قيم، وقد أفاضت المؤلفة في ذكر كثير من أحوال رهبان مصر ونظمهم وحياتهم وذكر الآباء الأوائل في الصحراء، مع ترجمة لحياتهم وذكر لبعض معجزاتهم، وذكر الأديرة الباخومية والقواعد التي تحكم حياة الرهبان، بالإضافة إلى الرهبنة في مصر السفلى؛ وخاصة منطقة وادي النطرون.
وقد أفاضت أيضا المؤلفة في الفصل السادس في الحديث عن آباء الكنيسة القبطية بمناهجهم المختلفة، وإبراز بعض النصوص التي تحدثت عن مناهج حياتهم ومعاناتهم.
أما الفصل السابع، فقد تعرض لذكر الأديرة العامرة في مصر؛ في القاهرة وفي الوجهين القبلي والبحري، فتحدث عن دير الأنبا أنطونيوس وملحقاته ومغارته، ودير الأنبا بولا، ودير المحرّق، ثم أديرة وادي النطرون كدير البراموس ودير القديس مكاريوس ودير الأنبا بيشوي ودير السريان، ثم دير الأنبا صموئيل في الفيوم، ودير أبو مينا غرب مدينة الإسكندرية.
هذا وقد قدم الفصل الأخير معلومات عن اللغة، والفنون والعمارة القبطية، وقد شملت هذه المعلومات جوانب اجتماعية عن حياة أقباط مصر مثل عقود ووثائق الزواج والمعاملات التجارية، وإن كان لم يبرز الفن القبطي في مواده المتنوعة والمتعددة، وإن تحدث عن المنسوجات القبطية وكذلك المنحوتات ونماذج من بعض الكنائس القبطية وطرزها وعناصرها في الكنائس المنفردة، وكنائس الأديرة، والعناصر المعمارية المكونة للدير.