[وهذه الدرجة من القدر يكذب بها عامة القدرية الذين سماهم النبي صلى الله عليه وسلم : مجوس هذه الأمة ويغلو فيها قوم من أهل الإثبات، حتى سلبوا العبد قدرته واختياره، ويُخْرِجُونَ عن أفعال الله وأحكامه حكمَها ومصالحَها ] .
(الشرح)قوله: (وهذه الدرجة من القدر يُكَذِّب بها عامة القدرية...): هذه الدرجة من القدر هي التي أنكرها القدرية عموما، فهم الذين ينكرون قدرة العبد، وقد اشتهروا باسم المعتزلة، فهم ينكرون قدرة الله، وقد قال الإمام أحمد رحمه الله : القدر قُدرة الله، يعني مَن آمن بأن الله تعالى على كل شيء قدير، لزمه الإيمان بالقدر، ومن آمن بأن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، لزمه الإيمان بالقدر. فالقدرية الذين ينكرون هذه الدرجة، يجعلون ذلك من باب العدل، ويسمون ذلك عدلا، ويقولون: كيف يخلق الأفعال فيهم ثم يعاقبهم على ما خلق فيهم، هذا ظلم !! إذن فنحن مضطرون إلى أن نقول: إنهم هم الذين يخلقون أفعالهم، وأن الله لا يقدر منهم على شيء، وأن قدرتهم غالبة على قدرة الله، واختيارهم غالب على اختيار الله. هذا قول المعتزلة، وهو قول فيه تنقص لله تعالى، واعتراض على تمام وكمال قدرته التي في قوله تعالى:
إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [ البقرة: 20] وقوله :
وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ [الشورى: 29 ]. فما دامت القدرة عامة ؛ دخلت فيها أفعال العباد وحركاتهم فهؤلاء القدرية يسمون مجوس هذه الأمة، سماهم بذلك النبي صلى الله عليه وسلم في حديث في السنن وإن كان فيه مقال عن حذيفة إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر، إن مرضوا فلا تعودوهم، وإن ماتوا فلا تتبعوهم . وجه التسمية: أن المجوس يزعمون أن الكون مخلوق من اثنين: أن خالق الخير هو النور، وخالق الشر الظلمة، أما هؤلاء القدرية فإنهم يجعلون الخالق متعددا وليس متوحدا، فعندهم أن كل واحد يخلق فعله؛ فالمجوس جعلوا مع الله خالقا، وهؤلاء جعلوا خالقين كثيرين، فبذلك أشبهوا المجوس. وأما كونهم يقولون: إن هذا من باب العدل، فنقول: إن الله تعالى أعدل العادلين، وله الحجة البالغة، وما أرسل الرسل إلا لقطع حجة الخلق، وقد قال تعالى:
فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ [ الأنعام: 149 ]. فلما أخبر بأن له الحجة البالغة، دل على أن قولهم بأن العبد يخلق فعله، وأنه ليس لله قدرة على ذلك ؛ فيه تنقص لله تعالى، فنقول: لو شاء الله لهداهم، مع أنه له الحجة عليهم. فقد عرفت أن قولهم هذا فيه تنقص لله تعالى، وأن قول أهل السنة هو أن للعباد قدرة واختيار، ولكن ذلك الاختيار مسبوق وملحق بقدرة الله تعالى وبإرادته الكونية القدرية، وهناك نوع آخر من القدرية، وهم القدرية المجبرة، الذين يخرجون عن أفعال الله تعالى حكمها ومصالحها. فهؤلاء غلوا في الإثبات، وأولئك غلوا في النفي، فالقدرية المجبرة هم الذين يزعمون أن العبد مجبور على أفعاله، وأن ليس له اختيار أبدًا، ويجعلونه معذورا في هذه الأفعال، بحيث لا يكون له أي اختيار أصلا، بل هو متصرف فيه، ويجعلون حركته كحركة المرتعش، أو كحركة الشجرة عندما تهب الرياح حيث تتحرك الشجرة بغير اختيار لها. هذا قول هؤلاء الجبرية ؛ الذين يزعمون أن العبد مجبور ملزم بأفعاله، ليس له أي اختيار، ويحتجون بالقدر، ويقول فيهم ابن القيم في قصيدته الميمية:
ويقول فيهم شيخ الإسلام ابن تيمية في تائيته:
وذلك لأن من حججهم أنهم يقولون: كيف يخلق الله هذا العبد وأفعاله ثم يعاقبه عليها ؟ إن هذا هو الظلم البين!! يقول قائلهم:
فنقول: إنه تعالى أعطاك قدرة أنت مكلف بها وأنت قادر بها، فليس هو بظلام للعبيد، فإذا اخترت هذا العمل أصبحت ملومًا، وإن كان مخلوقا فيك، وإن كان الله هو الذي خلق وقدر وهدى، وله المشيئة السابقة على مشيئة العباد، كما في قوله تعالى:
لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ [ التكوير : 28، 29 ]. وكما في قوله تعالى:
فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ [ المدثر : 55، 56 ] كذلك قوله تعالى:
فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ [ الإنسان: 29 ، 30 ]. وغير ذلك من الآيات؛ حيث جعل مشيئة العبد مسبوقة بمشيئة الله، وأثبت للعبد مشيئة ؛ وذلك لأنه تعالى بين له الطرق، وأوضح السبل، وأظهر الحق والباطل، وأقام عليه الحجة، وأعطاه قدرة وإن كانت هذه القدرة داخلة في قدرته وقال:
فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ [ الكهف: 29 ] وأخبر بأن الأبرار لفي نعيم، والفجار لفي جحيم. وقال لهم: هذا طريق الخير فاسلكوه، وهذا طريق الشر فاجتنبوه،
فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ [ النحل: 36 ]. فتوفيق الله لمن شاء يعتبر مِنَّة ونعمة وفضلا، وخذلانه لمن شاء وعدم توفيقهم يعتبر حكمة وعدلا، وله تعالى الحكمة البالغة والحجة الدامغة. فالذين أنكروا القدر كليا أنكروا قدرة العباد، وسلبوا العبد قدرته واختياره. هؤلاء هم الذين نفوا عن أفعال الله تعالى حكمها ومصالحها، وصاروا لا يعللون، إنما يستدلون بالآية الكريمة في سورة الأنبياء
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [ الأنبياء: 23] فلا يجعلون لله حكمة في شيء من الأشياء، ولا في شرع من الشرائع أصلا، فيقولون: إنه يعذب بدون اختبار وبدون ذنب، ويثيب بدون عمل، ولو عاقب لجاز له أن يعاقب، ولو عذب لجاز له أن يعذب. يجوز أن ينعم أفسق الناس، وأن يعذب أتقى الناس. ويستدلون بهذه الآية:
لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ يجعلون ذلك حسب هذا القول. ولا شك أن هذا مخالف للنصوص الصريحة التي نفى الله تعالى فيها الظلم عن نفسه، كما في قوله تعالى:
وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ فصلت: 46 ]
وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ آل عمران: 182 ] وما أشبه ذلك، فإنه لو فعل ذلك لأصبح ظلما، وقد قال في الحديث القدسي:
. ولا شك أن تعذيب المطيع يعتبر ظلما، والله تعالى منزه أن ينسب إليه شيء من ذلك، فهذا ونحوه مما يُبطل قول هؤلاء الذين ينفون عن أفعال الله حِكَمها ومصالحها.