[ ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله محمد -صلى الله عليه وسلم- من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأن الله سبحانه لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11].
* قوله: (ومن الإيمان بالله الإيمان بما وصف الله به نفسه في كتابه، وبما وصفه به رسوله صلى الله عليه وسلم). هذا الكلام يتعلق بمسألة الإيمان بالصفات، فإن منهج أهل السنة في ذلك أنهم يثبتون من الصفات ما أثبته الله تعالى لنفسه في كتابه، وما أثبته له رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته، بخلاف الذين جحدوا صفات الله تعالى؛ كالجهمية وغيرهم من المبتدعة، فجحدوا أن الله سميع، وأنه بصير، وأنه عليم، وأنه متكلم، وأنه... إلخ. أو قالوا: سميع بلا سمع، عليم بلا علم، بصير بلا بصر... إلخ. ووصفوه بالعدم المحض، فرد عليهم أهل السنة والجماعة، وقالوا لهم: إنكم لم تؤمنوا بإله معبود موصوف بصفات الكمال، بل آمنتم بإله معدوم ليس له صفات، والواجب عليكم أن تثبتوا ما أثبته لنفسه من الصفات العلى، وتنزهوه سبحانه عن النقص. فإن صفات الله تعالى مصدرها الكتاب والسنة، فإن الله تعالى أعلم بنفسه، ورسوله -صلى الله عليه وسلم- أعلم بمن أرسله، وهو الله تعالى فلا يثبت له من الصفات إلا ما أثبتها لنفسه. وإذا آمنا بالصفات فيجب علينا الإيمان بمدلولها، فإذا آمنا بأن الله سميع عليم، حملنا ذلك على أن نخافه ولا نعصيه؛ لأنه يسمع ويعلم ما نقول ونعمل. وإذا آمنا بأن الله بكل شيء عليم، حملنا ذلك على أن نطيعه ونعبده حق عبادته، ولا نفرط في ذلك؛ لأنه عالم بكل تصرفاتنا وأحوالنا سبحانه، قال تعالى:
وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ [ق: 16]. فيكون المؤمن خائفا من محاسبة الله له على ما يجول في نفسه، وما توسوس به نفسه. وإذا آمنا بأن الله بصير، حملنا ذلك على خشيته في السر والعلانية، في الغيب والشهادة؛ لأنه يرانا على كل حال، فكيف نعصيه مع علمنا باطلاعه علينا، وأنه يرانا سبحانه، قال تعالى:
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ [الشعراء: 218، 219]. وإذا آمنا بأن الله على كل شيء قدير، حملنا ذلك على أن نخافه أشد الخوف؛ لأننا نعلم أنه قادر على أن يعذبنا، وقادر على أن يبطش بنا، فهو -سبحانه- قادر على أن ينتقم ممن عصاه، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء. وهكذا آثار هذه الصفات نؤمن بها، ونتجنب طريق الذين يحرفونها ويلحدون فيها، ويكيفون أو يشبهون، أو يعطلون أو نحو ذلك. * قوله: (من غير تحريف ولا تعطيل). التحريف: هو تغيير اللفظ عن ظاهره ومدلوله، وهو على قسمين: الأول: تغيير اللفظ عن وضعه، مثل قوله تعالى:
الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه: 5]. قالوا: إن معنى استوى أي: استولى، فزادوا حرفا، وكقوله تعالى:
وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ [الفجر:22]. الآية، قالوا: معناها وجاء أمر ربك فزادوا كلمة، فهذا كله من التحريف الذي ما أنزل الله تعالى به من سلطان. النوع الثاني: تحريف المعنى وهو صرفه عن حقيقته، كقول بعض المبتدعة: إن معنى الرحمة: إرادة الإنعام، أو قولهم: إن اليد معناها النعمة والقدرة. وهم يسمون كل ذلك تأويلا، ويعرفون التأويل بأنه: صرف اللفظ عن الاحتمال الراجح إلى الاحتمال المرجوح بدليل يقترن به، ولكنه في الحقيقة تحريف، ويدخل في قوله تعالى:
يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ [النساء:46]. ويكون فاعله قد شابه اليهود في تحريفهم للتوراة، فيعرض نفسه لغضب الله تعالى، ولكنه لا يكفر إلا إذا جحد أمرا معلوما من الدين بالضرورة. فأهل السنة يتجنبون هذا التحريف الذي سماه أهله تأويلا. والتعطيل: هو الإخلاء، فكأنهم -المعطلة- أخلوا الله تعالى من أسمائه الحسنى أو من مدلولها، حيث أثبتوا الأسماء ونفوا ما تضمنته من الصفات، فقالوا: إنه -سبحانه- سميع، ولكن بدون سمع، وبصير بلا بصر، وعليم بلا علم، فكأنهم بفعلهم ذلك نفوا الأسماء والصفات جميعا. وأما أهل السنة فإنهم يثبتون لله تعالى جميع الأسماء الحسنى والصفات العلى، التي أثبتها الله لنفسه في كتابه وأثبتها رسوله -صلى الله عليه وسلم- في سنته على حقيقتها كما يليق بالله تعالى. * قوله: (ومن غير تكييف ولا تمثيل بل يؤمنون بأن الله سبحانه
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ). التكييف: هو جعل كيفية للشيء، فقد جعل المكيفون لصفات الله تعالى كيفية محددة معلومة، ويقولون: إنهم علموا كيفية الصفات التي أخبرهم عنها سبحانه في كتابه، وأهل السنة لا ينفون وجود كيفية لصفات الله تعالى، ولكنهم ينفون العلم بالكيفية؛ لأن الله تعالى لم يطلعنا عليها. وكذلك فإن أهل السنة ينكرون على من سأل عن الكيفية مجرد سؤال، ولذلك ورد عن الإمام مالك -رحمه الله- أنه سئل عن كيفية الاستواء، فقال: الاستواء معلوم، والكيف مجهول... إلخ، وأمر بذلك السائل فأخرج من مجلسه. والتمثيل: هو إثبات مماثلة الله للمخلوقين بشيء من صفاته، وقد رد الله تعالى عليهم بقوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ [الشورى: 11]. فقوله:
لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ فيه رد على الممثلة الذين يمثلون صفات الله بصفات خلقه، وقوله:
وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ رد على المعطلة النفاة، الذين نفوا صفات الله تعالى. والمقصود أن إثبات أهل السنة للصفات على حقيقتها لا يقتضي التشبيه ولا التمثيل ولا التكييف ولا التعطيل، لأنهم أثبتوا ما دل عليه كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله عليه وسلم- ووصفوا الله تعالى بأنه لا سمي له، ولا شبيه له، ولا ند له، ولا يقاس بخلقه، ووصفوه بأنه أصدق قيلا، وأحسن حديثا من خلقه، وأنه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير. وكذلك فإن نفي أهل السنة عن الله تعالى مشابهة المخلوقين لا يعني تعطيل أسماء الله وصفاته كما فعله المعطلة؛ لأن الله تعالى أعلم بنفسه وأعلم بغيره، فإذا وصف نفسه فهو أعلم بما وصفها به، وكذلك رسوله -صلى الله عليه وسلم- هو أصدق الناس، والله تعالى الذي أرسله هو أعلم به، فقد اختاره واصطفاه من عباده لتبليغ رسالته. والحاصل أن القاعدة الجامعة لمذهب أهل السنة هي أنهم يثبتون أسماء الله وصفاته على حقيقتها كما يريد الله تعالى، من غير وقوع في التحريف أو التعطيل أو التكييف أو التمثيل. وكذلك فإنهم كما يثبتون الأسماء والصفات، فإنهم يثبتون مدلولها وأثرها على العبد، فإذا أثبتنا أن الله تعالى سميع، فلا بد من إثبات صفة السمع له سبحانه، وإذا أثبتنا له -جل وعلا- هذه الصفة، فإنه يجب علينا أن لا ننطق ولا نتكلم إلا بخير، لعلمنا واعتقادنا بأن الله سميع، وكذلك فإننا ندعوه تعالى بهذا الاسم بإخلاص وصدق ويقين، وكذلك إذا آمنا بأن الله رحيم يرحم عباده، فإننا نرجو رحمته وندعوه بذلك، وإذا آمنا بأن الله قدير ذو قدرة عظيمة، فإننا نجتنب ونبتعد عن معاصيه؛ لأنه قادر سبحانه على أن يبطش بنا، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء -سبحانه وتعالى- وإذا آمنا بأنه سبحانه يغضب إذا انتهكت محارمه، فإن ذلك يجعلنا حذرين من أسباب غضبه التي أخبر عنها وحذرنا منها، وهي في الجملة معصية أمره، والإصرار على ذلك، وهكذا إذا آمنا بأنه يلعن من يشاء من أهل معصيته ثم يعذبه عذابا عظيما، كقوله:
وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93].
وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [الفتح: 6]. إذا آمنا بذلك، دفعنا إيماننا إلى الابتعاد عن أسباب اللعن وأسباب العذاب، وإذا آمنا بأن الله يرضى عن عباده المؤمنين كقوله:
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ [البينة: 8]. دفعنا ذلك إلى عمل الصالحات ابتغاء مرضاة الله، ودعائه -سبحانه- بأن يرضى عنا بأن يقول الواحد منا في دعائه: اللهم إني أسألك رضاك والجنة، وأعوذ بك من سخطك والنار، وما أشبه ذلك. وهكذا في بقية الصفات يجب علينا أن نثبت آثارها في العباد، وبذلك تتضح أهمية العقيدة، وأهمية دراسة الأسماء والصفات، وذلك لما تتركه من أثر بليغ على من درسها وتأمل في معانيها.