[وقوله: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76]. وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ [الأنعام: 92]. لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر: 21]. وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 101، 103]. ] .
* قوله: (وقوله:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ). ففي هذه الآيات دليل على عظم منزلة القرآن الكريم بين كتب الله ومنزلته في شرع الله، وفي قلوب عباده، فإنك تعرف من هذه الآيات أنه كلام الله؛ لأن فضله على كلام الناس كفضل الله على خلقه. وتعرف من هذه الآيات أنه منزل من الله، لا أنه مفترى ولا مكذوب، كما يقوله المشركون. وتعرف أنه منزل من الله لا من غيره كما في هذه الآيات. وبعد معرفتك لهذا، فإنك: أولا: تعتقد عقيدة صادقة أنه آية من الله ومعجزة للرسول -عليه الصلاة والسلام-. ثانيا: تتدبره وتتعقله كما أمرك الله. ثالثا: تعتقد كل ما ورد فيه من الأمور الغيبية وتصدق بها. رابعا: تعمل به وتطبقه حسب ما تستطيع، يحملك على هذه الأمور التصديق بمضمون هذه الآيات ونحوها: *الآية الأولى: في سورة النمل:
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [النمل: 76]. بنو إسرائيل كانوا قد اختلفوا في أشياء أثبتها بعضهم ونفاها بعضهم، وحرفوا كثيرا من كتبهم، فجاء القرآن بالقول الفصل والحق والصدق، وبين لهم القول الصحيح في كل ما اختلفوا فيه، فتجد قصة موسى وقد اختلفوا فيها وقصها الله كما هي، وتجد قصة بني إسرائيل وكثيرا من سيرهم محققة، ليس فيها اختلاف، وإن كانوا قد اختلفوا هم بأنفسهم في كثير من الأشياء، وجاء القرآن بالفصل بينهم، وذكر تلك القصص على ما هي عليه، هذا معنى قوله:
يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ . فيجب أن يكون مرجعا لهم، وإذا كان مرجعا لهم فهو مرجع للأمة، مرجع لها في قصص الأنبياء وما وقع عليهم، مرجع لها في الآخرة، وما يكون فيها وما يحدث فيها، مرجع لهم في الأحكام والحلال والحرام، وما يحل من ذلك وما يحرم، مرجعا لهم في الاعتبار والأمثال ونحوها، يجب أن يكون مرجعا للجميع؛ لأنه من الله. * أما الآية الثانية: في سورة ص:
كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ [ص: 29]. ذكر الله أنه أنزله، فالإنزال من الله، وهو من أقوى الشواهد، فإنه منزل من الله، والإنزال لا يكون إلا من أعلى، فدل على أنه منزل من الله، وأنه كلامه؛ لأنه الذي أنزله، ولم يقل: خلقناه، فلم يذكره بالخلق كما تزعم المعتزلة، بل ذكره بلفظ الإنزال والتعليم ونحو ذلك، فإذا عرفنا أنه منزل من الله تلوناه حق تلاوته، إذا أمرنا الله بتدبره امتثلنا
لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وإذا أمرنا بالتذكر تذكرنا
وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ وأولو الألباب: هم أصحاب العقول النافعة لا العقول المعيشية الدنيوية، فإنهم لا يتعقلونه بل يعرضون عنه، فيستبدلون به ما سواه، وما هو ضده، من اللهو واللغو والباطل ونحو ذلك. *الآية الثالثة: في سورة الحشر:
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ [الحشر:21]. ففيها أنه منزل؛ لأن الله ذكر أنه منزل بقوله:
نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ [الشعراء: 193، 194]. يقول: لو أنه أنزل على جبال لخشعت الجبال، فلماذا لا تخشع هذه القلوب؟ لماذا لا تخشع قلوبكم، وقد خوطبت بهذا القرآن العظيم؟ فالجبال لو أنها مكلفة ونزل عليها هذا القرآن العظيم، لرأيت الجبل منه خاشعا: يعني: مخبتا وخاضعا ومستكينا ومتواضعا
مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ يعني: من شدة خوفه، إذا كان هذا شأن الجبل مع كونه جمادا أصم شامخا، ومع ذلك هذا فعله، فإنك بطريق الأولى أن تكون خاشعا منصدع القلب من خشية الله، فإن من تأمله وقرأه بحضور قلب، حمله ذلك على أن يخشع، وعلى أن يخشى الله، ومن آثار خشيته: أن يخشع قلبه ويخشع بدنه. * أما الآية الرابعة والخامسة والسادسة: فهي من سورة النحل، قال الله تعالى:
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ فذكر أنه هو الذي نزله، وأنه أعلم به، وأنه قد ينسخ منه بعض الآيات، ويأتي ببعض بدلا منها، وهذا معنى:
بَدَّلْنَا آيَةً أي: نسخناها وأتينا ببدلها، كقوله تعالى:
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106]. فإذا بدل الله آية مكان آية، فإن المشركين يشكون،
وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ فذكر أنه منزل، والله أعلم بما ينزل، ولكنهم عندما تنسخ آية يتهمون الرسول بأنه افترى الأول والآخر، ويقولون: إنما آت مفتر فيرد الله عليهم:
بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ قُلْ نَزَّلَهُ صرح بأنه منزل
رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ [النحل: 102]. روح القدس يعني: جبريل نزل به (من ربك) يعني: نزله من الله الذي هو ربك وربه
بالحق يعني: مشتملا على الحق، وفائدته:
لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ تثبيت وهدى وبشرى خاصة بالمسلمين. ثم قال:
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعني: علم الله وسمع أنهم يتكلمون في الرسول -عليه الصلاة والسلام- ويتهمونه بأنه تلقاه من إنسان، فقالوا:
إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ وكان عندهم رجل يهودي أو نصراني بمكة، وكانوا يقولون: إنه الذي لقن محمدا هذا القرآن مع أن ذلك النصراني لم يكن عربيا، فقال الله تعالى:
لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ يلحدون أي: يميلون إليه، ويدعون أنه الذي تلقى عنه محمد -صلى الله عليه وسلم- هذا القرآن لسانه أعجمي، وأما محمد -صلى الله عليه وسلم- فلسانه عربي، فلهذا قال:
وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ [النحل: 103]. فكيف يزعمون أنه تلقاه من ذلك الأعجمي، فهذا دليل على أنه منزل من الله على قلب النبي صلى الله عليه وسلم. فالحاصل أن هذه الآيات دالة على فضل القرآن، وفضل تدبره وتعقله، ودالة على أنه منزل من الله ودالة على أنه مستمر على الهدى وعلى التثبيت وعلى البشرى للمسلمين، ودالة على أنه مرجع وحكم لكل من اختلف في شيء من الأمور، فإنه يجد فصل النزاع في هذا القرآن، ودالة على أنه كلام الله؛ لأنه لم يذكره بالخلق، بل ذكره بالتنزيل.