قلت لك من قبل يا أخى.. نحن شعب يشترى فيه الآباء فى القرى أكفانهم عندما يبلغون أواسط العمر ويفترشون بها مقاعدهم الخشبية استعدادا للرحيل، شعب لم يبدع فى مجال أكثر من إبداعه فى بناء المقابر، ولم تسجل جدران معابده أعظم من مشاهد يوم الحساب واستقرار البشر بين الجنة والنار، شعب أنجب إخناتون بثورة الوحدانية، وحفظت دروبه خطوات موسى عليه السلام حين حانت ساعة الهرب من الفرعون، وحفظت وديانه وجباله نظرات السيد المسيح عليه السلام رضيعاً هارباً فى رحلة العائلة المقدسة.
ليس مصادفة إذن، ولم يكن أبدا حدثاً عارضاً أن يصير الدين هو المكون الأساسى للمزاج الشعبى لدى المصريين، فالدين هو صانع سلم التسلسل التاريخى وهو ميزان الشرعية حتى فى قصور السلطة، وهو مفجر الثورات حين يكون التغيير غاية شعبية، أو هو سند الثورات وداعمها، حين تتعثر حركة الثوار فى شتات الرؤى والأفكار.
حسنا.. تلك هى الحقيقة.. فهل هناك عيب فى ذلك؟ وهل يمكن أن يكون ارتباط شعب ما بالدين على هذا النحو الوثيق، أمراً يحتاج إلى نظر، أو سبباً فى إخضاع هذا السلوك الشعبى للأسئلة والاستفسار والتحليلات؟
أكرر عليك هذه الحقيقة لأننى لا أرى أى نوع من القطيعة بين الحديث عن الإسلام والدولة المدنية، ولا عن الإسلام والمواطنة، ولا عن الإسلام وحرية الرأى والاعتقاد، فمن يفترضون الشقاق بين الإسلام وكل هذه الأفكار الحديثة هم أنفسهم لا يفهمون حقيقة الإسلام، ولا يقرأون تاريخ النبى محمد صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام على نحو صائب أو عادل، أو أنهم يتعمدون تفجير الجدل لوضع الإسلام فى كفة والديمقراطية فى كفة أخرى دون بصيرة أو هدى أو سراج منير.
خذ مثلا، ما فعله الصحابى الجليل أبوبكر الصديق، رضى الله عنه، فما إن تولى الخلافة حتى حارب طائفة من المسلمين، لأنهم امتنعوا عن دفع الزكاة، وهو فعل لم يأت به النبى صلى الله عليه وسلم، لكن أبا بكر قضى بأن هذه الحرب لمصلحة الإسلام، رغم الخلاف السياسى الذى نشب بينه وبين عدد من الصحابة حول فكرة الحرب، ما فعله أبوبكر ينتمى إلى ما يصفه الفقه الإسلامى اليوم باسم (الاجتهاد)، بينما يمكن تصنيفه بمعايير اليوم باعتباره قرارا سياسيا مدنيا لا أصل له فى كتاب الله أو سنة النبى صلى الله عليه وسلم، لكن أبى بكر اجتهد عقليا فيما رآه متناسبا مع الشريعة ومحققا للمصلحة العليا للمسلمين، وهو المنطق الذى أراه من وجهة نظرى هو الأصل فى إعمال دور العقل لتحقيق المصلحة العامة حتى مع تطبيق الشريعة الإسلامية فى فجر هذا الدين، وفى مجد الدولة الإسلامية الأولى.
أبوبكر كان مجتهدا وعقليا ومدنيا إلى الحد الذى خرج به عما ورثه عن النبى صلى الله عليه وسلم، وبالمثل تماما، منع الصحابى الجليل عمر بن الخطاب، رضوان الله عليه، تطبيق حد السرقة فى القصة التاريخية الشهيرة فى زمن العسرة، وهو أمر ينظر إليه أيضا فى الفكر الدينى، على أنه (اجتهاد)، فيما يمكن الحكم عليه فى الفكر الإنسانى بأنه (رؤية واقعية مدنية تستند إلى حكمة العقل المجرد فيما لم تأت به النصوص الدينية من أحكام).
الفقه الإسلامى يعلى من قيمة العقل فى الاجتهاد والقياس إلى الحد الذى تتأكد فيه المصالحة الحقيقية بين الإسلام والمدنية، وتنتفى فيه مطلقا هذه الخصومة الجاهلة التى يختلقها البعض بين الإسلام والبناء الديمقراطى للدولة، أو بين الإسلام والمواطنة، أو بين الإسلام وتبنى القيم والقوانين أو التشريعات التى تحقق المصلحة العليا للمسلمين.
وبنفس المنطق (المدنى) الذى اعتمده أبوبكر وعمر مضى أيضا معاوية بن أبى سفيان رضى الله عنه حين بدل تماما نظام الحكم فى الدولة الإسلامية من الخلافة إلى الحكم الملكى، والمعنى أن معاوية سمح لنفسه بأن يغير شكل الحكم على نحو مختلف لما اتبعه الخلفاء الراشدون، وبالمثل أيضا طور العباسيون منظومة عمل مختلفة لبيت المال وتوزيع أنصبة الزكاة، وبنفس المنطق أيضا غير أبطال الفتوحات الإسلامية فى المشرق والمغرب كثيرا من القواعد والتعاليم والأحكام القانونية لتتلاءم مع البيئة التى يطبقون فيها الإسلام، وخرج الفقهاء بنظم جديدة فى دفع الزكاة والصدقات، حسب كل عصر وحسب الأنماط الثقافية والفكرية والعادات والتقاليد لكل بلد دخل فيه الإسلام حديثا.
وبالقراءة العلمية لهذا السلوك السياسى الإسلامى، يمكن الوصول إلى مصالحة بين الفكر المدنى والإسلام، والتعامل مع أصحاب الطرح الإسلامى وفق هذا المفهوم للتراث التاريخى للصحابة، وللفهم الفقهى لأفكار الاجتهاد والقياس على أن مشروع الدولة الإسلامية ليس خصما لمفهوم الدولة المدنية برؤيتها المعاصرة وبروحها الحديثة، طالما كان العقل بطلا هنا فى المشهد، وطالما كان المجتهدون لديهم الشجاعة على ابتكار القوانين والتشريعات التى لا تتعارض مع شرع الله فى نفس الوقت الذى تحقق فيه المصلحة العليا للمسلمين على النحو الأمثل.
لا يمكن لعاقل أن ينكر أن علماء الإسلام ابتكروا الاجتهاد والقياس ليتمكنوا من حل مشاكل طارئة فى الحياة العامة لم يشهدها عصر النبى محمد صلى الله عليه وسلم ولا صحابته الكرام رضوان الله عليهم، والاجتهاد فى الفقه الإسلامى أثمر الكثير من الأحكام التى سهلت أمور الدنيا على المسلمين فى الأزمنة التى تلت عصر النبوة والخلافة الراشدة، وكذلك فعل القياس أيضا وهو درجة تلى الاجتهاد فى العمل الفقهى وتعتمد على القدرات العقلية للفقيه أكثر من اعتمادها على النصوص المقدسة.
راجع مثلا فتوى الشيخ عبدالمجيد الزندانى حول (زواج فرند) وهى الفتوى التى اختص بها المسلمين فى المجتمعات الأوروبية، أو فتوى (زواج المسيار) للقرضاوى، وكلها أفكار لم يأت بها النبى أو أصحابه، وهى من قبيل الاجتهاد فى أمور الدنيا، وحسب ظروف المكان والزمان الملائم للفتوى.
ومن هنا فإن التاريخ الفقهى والسياسى فى الإسلام يحتمل هذا الفهم الدنيوى، ويحتمل أيضا أن يكون العقل نفسه مصدرا من مصادر التشريع التى تنظم حياة المسلمين فى ضوء العصر الذى يعيشون فيه، وهذا الطرح يمكن أن يبنى جسورا مع أصحاب الرؤية المدنية، إذ لا يخرج الفكر المدنى الليبرالى الحديث فى جوهره عن ذلك الفهم الإسلامى لمصطلحى الاجتهاد والقياس.
فلا مقدس سوى الكتاب والسنة، أما ما دون ذلك فيمكن تطويره ليتلاءم مع الحياة المعاصرة، والدولة المدنية الحديثة لا تفسير لها سوى هذا المعنى أيضا.
إذن، هل يمكن بهذه الرؤية الوصول إلى مصالحة حقيقية واعتبار الاجتهاد والقياس آليات مدنية، ثم فتح باب الاجتهاد من جديد ليتسنى لنا إعادة بناء مجتمعاتنا على أسس عصرية، ودون أن ينهبنا أحد أو يسطو علينا أحد تحت زعم أن الفكرة الإسلامية خصم للمدنية، وفى المقابل دون أن يخدعنا أحد باسم الدين فيجعلنا نمضى وراء رأى واحد بلا اجتهاد أو اختلاف فى الرأى أو جدل سياسى لا ينال من قداسة الدين لكنه يحقق الرسالة الأسمى للإسلام وهى الخير للبشر فى الدنيا وفى الآخرة.