في أثناء هجرة الحبشة أو بتعبير أدق: بين الهجرتين الأولى والثانية إلى الحبشة، كان قد حدث في مكة أمر جلل، كان بمنزلة حجر زاوية تَغيّر بعده مسار الدعوة تمامًا، واختلفت بسببه استراتيجية المؤمنين في جهادهم ضد أهل الباطل في مكة المكرمة، زادها الله تكريمًا وتعظيمًا وتشريفًا.
هذا الحدث كان إسلام حمزة بن عبد المطلب t عم رسول الله ، ثم إسلام عمر بن الخطاب t بعده بثلاثة أيام، حدث ضخم، كان له رعد وبرق، وصدى مدوٍّ، ووقع مجلجل، فقد أسلما -رضي الله عنهما- في أواخر السنة السادسة من البعثة، وفي شهر ذي الحجة على الأرجح، وكانت قصة إسلامهما غاية في العجب، تظهر فيها بوضوح معاني الآية الكريمة: {إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص: 56].
لقد أسلم كلا البطلين في أحوال لا يتوقع أحد من المسلمين أن يدخل الإيمان في قلب أيٍّ منهما.
أسلم أولاً حمزة بن عبد المطلب t القرشي الهاشمي الشريف، وكان فارس قريش، وكان من أكثر الناس عزة ومنعة، وأقواهم بأسًا وشكيمة.
أبو جهل يتطاول على رسول الله
كعادته خرج حمزة بن عبد المطلب عم رسول الله إلى الصيد، وفي مكة وفي ذات هذا اليوم مر أبو جهل على رسول الله وهو عند الصفا وحيدًا، فما كان من أبي جهل إلا أن تطاول على رسول الله بلسانه وسبه سبًّا مقذعًا، ورسول الله صامت لا يجيبه أو يرد عليه سبابه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاَمًا} [الفرقان: 63]، لكن أبا جهل لم يزده حلم رسول الله إلا اغترارًا وجهلاً، فما كان منه إلا أن حمل حجرًا وقذف به رأس رسول الله الشريفة، فشجَّه حتى نزف منه الدم -بأبي هو وأمي - بعدها انصرف أبو جهل -لعنه الله- إلى نادي قريش عند الكعبة، مفاخرًا يحكي ما فعل، وما تم بينه وبين رسول الله .
مكر الله وعينه التي لا تنام
كان لعبد الله بن جدعان أَمَة (وكانا كافريْن)، وكانت تلك الأمة قد رأت وسمعت ذلك الذي حدث بين رسول الله وبين أبي جهل لعنه الله، وبعد انتهاء الحدث جاء حمزة عم رسول الله من صيده، وبترتيب إلهي وقفت الجارية تقص ما حدث لحمزة، الجارية كافرة، ومولاها مثلها أيضًا، والذي تحكي له حمزة -أيضًا- كافر، لكن {وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ} [المدَّثر: 31]. قالت الجارية:
"يا أبا عمارة، لو رأيت ما لقي ابن أخيك محمد آنفًا من أبي الحكم بن هشام؟ وجده هاهنا جالسًا فآذاه وسبه، وبلغ منه ما يكره، ثم انصرف عنه محمد لم يكلمه".
كان حمزة هو الوحيد الذي يدافع عنه من بين أعمامه، لكن أين بقية الأعمام؟ أين أبو لهب؟ إنه من أشد المحاربين له، لا أحد منهم يتذكر أخاه عبد الله والد محمد ، فهل إذا كان حيًّا كان سيحدث مثل هذا الموقف؟! وأين بنو هاشم وبنو عبد مناف؟ وهل يصل الموقف لأن يَضرب أبو جهل أشرف شرفاء بني هاشم وأشرفهم على الإطلاق؟! أوَ يصل الوضع إلى هذا الحد ونحن نشاهده بأعيننا؟!
الظلم الشديد الذي تفاقم ووصل إلى هذه الدرجة كان قد حرك هذه العواطف وتلك المشاعر والأفكار في قلب حمزة وعقله، مشاعر الحب لمحمد ، ولأبيه عبد الله الذي مات وترك محمدًا، وأيضًا مشاعر القبلية الهاشمية الشريفة، وكذلك مشاعر الغيظ والغضب من زعيم بني مخزوم، وأيضًا مشاعر النخوة تجاه نصرة المظلوم.
بعد سماع كلام الجارية تلك لم يجد حمزة نفسه إلا متجهًا نحو فعل غريب، ومدفوعًا وبقوة عجيبة تجاه عمل لم يفكر ولم يخطر ببال أحد أبدًا أن يقدم عليه، بل لم يفكر هو نفسه في أن يفعله، لقد انطلق حمزة -وهو الذي ما زال على دين قومه- إلى أبي جهل، حيث يجلس بين أصحابه وأقرانه وأفراد قبيلته في البيت الحرام، وقد نظر إليه ثم أقبل نحوه لا يقوى أحد على الوقوف أمامه، وأمامه تمامًا كانت نهاية خطواته، ثم ودون أدنى ارتياب أو تفكير رفع قوسه وقد هوى به على رأس أبي جهل في ضربة شديدة مؤلمة، شجت على أثرها رأسه وأسالت الدماء منها، لقد كان قصاصًا عادلاً، ضربة بضربة، ودماء بدماء، لكن فوق ذلك فإن الإهانة كانت غاية في الشدة لأبي جهل؛ حيث كانت هذه الضربة أمام أفراد قبيلته وعشيرته، بينما كان الذي حدث مع رسول الله بعيدًا عن أعين الناس.
لقد كان مثل هذا الرد في عرف الناس كافيًا لأن يُشفي الغليل ويريح الصدر ويسكن القلب، لكن حمزة ما زال ثائرًا، لم يُشف غليله بعدُ، ولم يُرح صدره ولم يسكن قلبه ولا سكنت جوارحه، أراد حمزة أن يكيد لأبي جهل بكل ما يستطيع، أراد أن يلقي في قلبه حسرة تدغدغ جوانبه وتشل أركانه، فكر حمزة، ما أشد ما يغيظ أبا جهل؟ وفي نفسه علم أنه الدين الجديد، إنه الإسلام، وعلى الفور ودون سابق تفكير أو تَرَوٍّ قال حمزة: "أتشتمه وأنا على دينه أقول ما يقول؟! فرُد عليَّ ذلك إن استطعت".
انطلقت هذه العبارة من فم حمزة فوقعت كالقذيفة على قلب أبي جهل، لم يستطع بعدها أن يحرك ساكنًا، ألهته عن التفكير في الانتقام، وقد تضاءل حجمه حتى كاد أن يختفي وهو كبير الكافرين، حينها قام رجال من بني مخزوم يريدون أن ينتصروا لأبي جهل، لكنه خيفة منعهم ذلك، بل وهدأ ثائرتهم وقال: "دعوا أبا عمارة؛ فإني والله قد سببت ابن أخيه سبًّا قبيحًا".
لكن، ما الذي حدث من حمزة؟! أبهذه السهولة يدخل في دين الإسلام؟! أبهذه السهولة يقول وفي لحظة واحدة الكلمة التي لطالما رفض أن يقولها سنوات وسنوات؟!
سنوات ست كان يسمع حمزة عن الإسلام، سنوات ست لم تنقل حمزة من حال الكفر إلى حال الإيمان، بينما نقله هذا الحادث غير المقصود في عرف الناس، لقد دخل حمزة دين الإسلام رغمًا عن إرادته، لم يتروَّ في التفكير كعادته، خرجت الكلمة من فمه فما عرف كيف يستردها.
إسلام حمزة وسنن الله
يظن البعض أن حمزة قد أسلم مصادفة، لكن الحقيقة أن إسلامه ليس بالمصادفة، إنما هي سنة من سنن الله ، فالظلم الشديد إذا تفاقم أمره وطال ليله أعقبه نصر من الله ، ولا شك أن إيمان حمزة بن عبد المطلب كان نصرًا للدعوة، وإذا لم يكن هذا الظلم الذي وقع شديدًا ما لفت نظر حمزة، وما استطاع أن يحرك أشياء كثيرة جدًّا ما تحركت منذ سنوات ست، فهو تدبير رب العالمين، فكما يخلق من بين الفرث والدم لبنًا خالصًا سائغًا، يخلق من وسط الظلم عدلاً ونورًا، ومن وسط الاضطهاد والقهر والبطش نصرًا وتمكينًا، ولو كان أبو جهل يعلم أن مثل هذا سيحدث ما فكر ولو مرة واحدة في سب أو ضرب رسول الله ، لكنه تدبير رب العالمين {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللهُ وَاللهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [الأنفال: 30].
فهي رسالة إلى كل الدعاة: لا تحبطوا من الظلم الشديد، فلعله الظلم الذي يسبق نصرًا عظيمًا للدعوة، ولعلها أحلك لحظات الليل سوادًا التي يأتي بعدها ضياء الفجر، فحين يتفاقم الظلم ما يلبث أن يولد النصر للإسلام والمسلمين.
صدق النفس وتحقيق الإيمان
بعد كلمته الكيدية السابقة لأبي جهل، وكرجل صادق مع نفسه ومع مجتمعه، لا يستطيع أن يرجع في كلمته، وفي الوقت ذاته لا يستطيع أن يدخل في دعوة لا يؤمن بها حقًّا، عاد حمزة t إلى بيته وهو في صراع حميم مع نفسه، ماذا أفعل؟ ولمن ألجأ؟!
ولأن فطرته سوية وسليمة لجأ إلى الله ، فقد كان العرب في جاهليتهم يؤمنون بالله، وأنه خالق ورازق وقوي وقادر، يؤمنون بذلك كله لكنهم كانوا لا يحكّمونه في أمورهم، ويشركون به بعبادتهم الأصنام يتقربون بها إليه I زُلْفَى، لجأ حمزة إلى الله بما يشبه صلاة الاستخارة قائلاً: "اللهم ما صنعتُ إن كان خيرًا فاجعل تصديقه في قلبي، وإلاَّ فاجعل لي مما وقعت فيه مخرجًا".
ولأن الله يريد به خيرًا هداه لأن يذهب إلى رسول الله خير طبيب ليعرض عليه أمره وما أهمه، وعنده قال حمزة: "يابن أخي، إني قد وقعت في أمر ولا أعرف المخرج منه، وإقامة مثلي على ما لا أدري ما هو، أرشد أم هو غيٌّ شديد؟ فحدثني حديثًا؛ فقد اشتهيت يابن أخي أن تحدثني".
وهنا أقبل عليه رسول الله وحدثه بما كان يحدثه به من قبل، فذكّره رسول الله ما كان يذكّره إياه، ووعظه ما كان يعظه به، وخوفه ما كان منه يخوفه، وبشره ما كان به يبشره، اللغة هي اللغة، والحديث هو الحديث، لكن الوعاء الذي يستقبل الفيض قد اختلف وتغير، وإنها للحظة هداية يختارها الله بحكمة بالغة. سمع حمزة الكلمات التي طالما كان يسمعها كثيرًا، لكن هنا انبسطت أساريره، وانشرح صدره، وآمن من ساعته بصدق، وقال لرسول الله وبيقين صادق من قلبه:
"أشهد أنك الصادق، فأظهر يابن أخي دينك، فوالله ما أحب أن لي ما أظلته السماء وأني على ديني الأول".
وسبحان الله! هكذا وفي لحظة واحدة أصبحت الدنيا كل الدنيا لا تساوي شيئًا في مقابل دينه الجديد الإسلام، ومن بعدها أصبح حمزة t أسد الله.
انتقل بعدها حمزة t ومن فوره من رجل مغمور في صحراء الجزيرة العربية يعيش فقط لحياته وملذاته، يخرج للصيد ثم يعود للطعام والنوم، إلى رجل قد أصبح كل همه أن يُعبّد الناس لرب العالمين، وأن يدافع عن دين الله وعن رسول الله وأن يُظهر الإسلام ويحمي المستضعفين، ولننظر كيف ترقّى في القدر من كونه سيدًا لمجموعة من الرجال في قرية لا تكاد ترى على الخريطة في فترة من عمر الدنيا لم تتجاوز سنوات معدودات، إلى كونه سيِّدًا للشهداء في الجنة، فقد أصبح حمزة t سيدًا لكل الشهداء على مر التاريخ وإلى يوم القيامة، وقد خلد ذكره في الدنيا وخلد ذكره في الآخرة، وبحق لو نريد أن نعرف قيمة الإسلام، فلننظر إلى حمزة قبل الإسلام، ولننظر إليه بعد الإسلام.
فهذا هو الإسلام الذي صنع حمزة، وصنع أيضًا أبا بكر وعمر وعثمان وعليًّا وغيرهم على مر التاريخ. إذا كنا حقًّا نحتاج إلى رجال مثل حمزة فيجب علينا أن نأخذ الإسلام كما أخذه، ويجب أن نعيش الإسلام كما عاشه حمزة t، وعاشه كذلك كل الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.