مرض أبي طالب
بدأ العام العاشر من البعثة بمرض الشيخ الكبير أبي طالب، الرجل كان قد جاوز الثمانين من عمره، وقد أمضى ثلاث سنوات محاصرًا مع قومه في الشِّعب في مشقة بالغة من أكلٍ لورق الشجر والجلود، مع الحذر والترقب والقلق، كل ذلك أرهق الشيخ الكبير، وازداد عليه المرض وبدأ الناس في مكة يقولون إن هذا هو مرض الموت.
وفد قريش لأبي طالب قبل وفاته
اجتمع زعماء الكفر من جديد -البرلمان المكي- وتشاوروا فيما بينهم وقالوا: إنا نخاف أن يموت هذا الشيخ فيكون إليه - أي رسول الله - شيء فتعيرنا به العرب، ويقولوا: تركوه حتى إذا مات عمه تناولوه.
أي أن قريشًا تخاف أن تقوم بإيذاء رسول الله بعد وفاة أبي طالب، فتعيرها العرب بأنها استغلت موته لإيذاء ابن أخيه، ولم تكن تقدر على ذلك في حياته، وهذه بقية حياء في زعماء الجاهلية، فقده كثير من أهل الباطل بعدهم.
فكرت قريش ماذا تفعل؟ ثم قرروا أن يذهبوا إلى أبي طالب ليقدموا له تنازلاً جديدًا غير التنازلات السابقة التي عرضها عتبة على رسول الله ، في محاولة للالتقاء في نصف الطريق مع رسول الله .
كوّن زعماء قريش وفدًا مهيبًا مكوَّنًا من معظم رجال الحكومة في مكة، كان الوفد مكونًا من خمسة وعشرين رجلاً، كان منهم: أبو جهل بن هشام، وأبو سفيان بن حرب، وعتبة بن ربيعة، وشيبة بن ربيعة، وأمية بن خلف وغيرهم، فدخلوا جميعًا على أبي طالب وهو على فراشه فقالوا: يا أبا طالب، إنك منا حيث قد علمت وقد حضرك ما ترى وتخوفنا عليك، وقد علمت الذي بيننا وبين ابن أخيك فادعه، فخذ له منا وخذ لنا منه، ليكف عنا ونكف عنه، وليدعنا وديننا وندعه ودينه.
عرض مغرٍ من زعماء مكة، سيصبح لرسول الله جماعته الإسلامية في مكة ويصبح لأهل الكفر جماعتهم الكافرة هناك، ويعيش هؤلاء وهؤلاء دون أن يتعرض أحد لدين غيره، سيرفع أهل مكة الأذى عن رسول الله وأصحابه، سيتيحون لهم حرية العبادة، لكن في مقابل أن لا يتكلم رسول الله في معتقدات أهل مكة، أن لا يُسَفّه آلهة قريش، أن لا ينكر عندهم منكرًا ولا يأمر عندهم بمعروف، أن لا ينصح أحدًا بتطبيق أحكام الله على عباد الله، أن لا يتكلم في السياسة، ولا في الحكم ولا في المعاملات ولا في غيرها، فقط يصلون كما يريدون أن يصلوا، ويعتقدون فيما يريدون أن يعتقدوا فيه، ويفصلون بعد ذلك دينهم عن دنيا مكة، فهي إذن علمانية، وما أشبه اليوم بالبارحة!!
في الوضع الضعيف الذي كانت فيه الدعوة الإسلامية في ذلك الوقت، وقد خرجوا منذ شهور قليلة جدًّا -أقل من ستة أشهر- من الحصار الاقتصادي المريع الذي مر بهم، وفي ضوء السيطرة العسكرية لزعماء قريش على مكة والزيادة العددية لقوات أمنهم، ومع الأخذ في الاعتبار أن نصف الطاقة الإسلامية مهاجرة على بُعد مئات الأميال في الحبشة، في ضوء كل هذه الاعتبارات فإن هذا العرض يعتبر في نظر الكثيرين فرصة، ولو فرصة مرحلية.
لكن في المقابل لو أقرَّ رسول الله بتنازل أو بأمر ما فإنه سيصبح ملزمًا به، فإن استمر على إقراره خسرت الدعوة بعد ذلك الكثير، وإن خالف إقراره كان خائنًا لعهده منكرًا لمواثيقه، وهذا ليس من شيم الصالحين.
إذن الداعية الذي ينظر إلى الأفق البعيد لا يجب أن يقدم تنازلاً في عقيدته أو في دينه أو في شرعه لن يستطيع بعد ذلك أن يستعيده، بل عليه أن يصبر ويثبت وإن كان ظاهرًا أمام العين أن الخسائر كبيرة، وهذا فارق ضخم بين ساسة الدنيا وساسة الآخرة، ساسة الدنيا يسيل لعابهم لأي مكسب أو نصر أو خطوة أمامية، وساسة الآخرة يقيسون الأمور بميزان السماء لا بميزان الأرض، وهذا يعطي لهم ثباتًا على المبدأ ووضوحًا في الرؤية.
ماذا حدث عند أبي طالب؟
إن أبا طالب يريد أن يطمئن على ابن أخيه محمد قبل أن يموت، وهو لا يأمن أهل قريش فأراد أن يوفق بين الطرفين، فأرسل إلى رسول الله فجاءه فقال: يابن أخي، هؤلاء أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليعطوك وليأخذوا منك، ثم أخبره بالذي قالوا، وبالذي عرضوا عليه من عدم تعرض كل فريق للآخر ووقف مكة للأذى على أن تقف الدعوة.
قال له رسول الله : "يا عم، أفلا تدعوهم إلى ما هو خير لهم؟"
قال أبو طالب: وإلامَ تدعوهم؟
قال: "أدعوهم إلى أن يتكلموا بكلمة واحدة تدين لهم بها العرب، ويملكون بها العجم". ورسول الله يقول هذا الكلام والمشركون يستمعون، فتسمرت أقدامهم ودقت قلوبهم وسال لعابهم، ما هذا؟ كلمة واحدة تدين لنا بها العرب ونملك بها العجم، إن أهل قريش ما حلموا يومًا بوحدة العرب تحت قيادة واحدة، ما توقعوا يومًا أن يكون أحدهم ملكًا على العرب جميعًا، وفوق ذلك يملكون العجم!!
إن هذا فوق التخيل وفوق الأحلام، لقد كانت أقصى أحلام أحدهم أن يقف ذليلاً أمام كسرى أو قيصر، فقط يقول: دخلت إيوان كسرى أو وقفت أمام عرش قيصر. وفي قصة هرقل مع أبي سفيان كما سيأتي في أحداث المدينة المنورة خير دليل على ذلك، فقد كان الزعيم القرشي العزيز الشريف، يقف ذليلاً جدًّا أمام قيصر يستجوبه بدقة عن رسول الله وقد أوقف قيصر أبا سفيان أمامه ووضع خلفه مجموعة أخرى من رجال قريش ليكونوا شهداء على أبي سفيان إذا كذب، وفي هذا إهانة كبيرة جدًّا لزعيم بني أمية، ولكن كانوا يقولون: أين نحن من هؤلاء؟
أما الآن فهم يستمعون من رسول الله إلى أمر عجيب، أنهم سيقولون كلمة واحدة تدين لهم العرب ويملكون بها العجم، الفرس والروم وغيرهم، وهم ما جربوا على رسول الله كذبًا من قبل، فماذا يفعلون؟
لم يتردد أبو جهل كثيرًا، وتشوق لمعرفة هذه الكلمة فقال كلمة عجيبة، قال بلهفة: ما هي؟ ثم أقسم: وأبيك لنعطيكها وعشر أمثالها.
قال رسول الله في ثبات: "تقولون: لا إله إلا الله، وتخلعون ما تعبدون من دونه".
فصفقوا بأيديهم، ثم قالوا: أتريد يا محمد أن تجعل الآلهة إلهًا واحدًا؟ إن أمرك لعجب.
ثم إن بعضهم قال لبعض: إنه والله ما هذا الرجل بمعطيكم شيئًا مما تريدون، فانطلقوا وامضوا على دين آبائكم حتى يحكم الله بينكم وبينه. ثم تفرقوا.
مساكين هؤلاء الكفار، مساكين هؤلاء الذين عاشوا يقاتلون من أجل قضية خاسرة، مساكين هؤلاء الذين أغلقت عقولهم وقلوبهم فلم تذق طعم الإيمان، يتعبون ويسهرون ويكيدون ويدبرون ويحزنون ويتألمون ثم ماذا تكون النتيجة لهذا التعب والسهر الكد والعرق والحياة الضنك؟!
{وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124].
مثل تلك المعيشة التي كان يعيشها هؤلاء التعساء في اجتماعات ومؤتمرات ولقاءات وتدبيرات وترتيبات وحذر وترقب وهلع، لا تطمئن قلوبهم، ولا تهدأ جوارحهم، لا يستطيعون نومًا هادئًا، ولو نام أحدهم بات حوله من يحرسه، ثم هو مع ذلك غير مطمئن ولا آمن، ما أبلغ الوصف الذي وصفه رب العالمين لهذه الطائفة من البشر التي جعلت همَّها وقفَ الدعوة إلى الله {فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا} [طه: 124]، وفوق ذلك {وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آَيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى * وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآَيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الآَخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى} [طه: 124- 127].
رفض الكافرون كلمة لا إله إلا الله، وأنزل الله في حقهم سورة ( ص) {ص وَالْقُرْآَنِ ذِي الذِّكْرِ * بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ * كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلاتَ حِينَ مَنَاصٍ * وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآَلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الآَخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلاَّ اخْتِلاَقٌ} [ص: 1- 7].
ولا شك أن الصحابة كانوا يعيشون مع سورة ص بطريقة غير الذي يقرأ بها الآيات وهو لا يعيش معناها، فارق ضخم بين الذي يقرأ القرآن للبركة والحسنات فقط، وبين الذي يقرؤه ليتخذه منهاجًا ودليلاً وإمامًا ومرشدًا. لا شكَّ أن الصحابة قد أدركوا -وهم مدركون- من قبل القيمة الحقيقية لهذه الكلمة البسيطة في حروفها العميقة في معانيها وآثارها، كلمة لا إله إلا الله.
روى الترمذي وحسنه وابن حبان والبيهقي والحاكم وصححه وابن ماجه وأحمد عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ : "إِنَّ اللَّهَ سَيُخَلِّصُ رَجُلاً مِنْ أُمَّتِي عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيَنْشُرُ عَلَيْهِ تِسْعَةً وَتِسْعِينَ سِجِلاًّ، كُلُّ سِجِلٍّ مِثْلُ مَدِّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَقُولُ: أَتُنْكِرُ مِنْ هَذَا شَيْئًا؟ أَظَلَمَكَ كَتَبَتِي الْحَافِظُونَ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: أَفَلَكَ عُذْرٌ؟ فَيَقُولُ: لاَ يَا رَبِّ. فَيَقُولُ: بَلَى، إِنَّ لَكَ عِنْدَنَا حَسَنَةً، فَإِنَّهُ لاَ ظُلْمَ عَلَيْكَ الْيَوْمَ. فَتَخْرُجُ بِطَاقَةٌ فِيهَا: أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ. فَيَقُولُ: احْضُرْ وَزْنَكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، مَا هَذِهِ الْبِطَاقَةُ مَعَ هَذِهِ السِّجِلاَّتِ؟ فَقَالَ: إِنَّكَ لاَ تُظْلَمُ. قَالَ: فَتُوضَعُ السِّجِلاَّتُ فِي كَفَّةٍ وَالْبِطَاقَةُ فِي كَفَّةٍ، فَطَاشَتِ السِّجِلاَّتُ، وَثَقُلَتِ الْبِطَاقَةُ، فَلاَ يَثْقُلُ مَعَ اسْمِ اللَّهِ شَيْءٌ".
والصحابة y قالوا الكلمة بصدق ويقين، قالوا لا إله إلا الله، وخلعوا من حياتهم كل ما ينافي هذه الكلمة، قالوها بألسنتهم وقلوبهم وعقولهم وجوارحهم، قالوها بالحروف وقالوها بالأفعال، فدانت لهم العرب وملكوا بها العجم، وصدق رسول الله {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} [النَّجم: 3، 4].
كلمة واحدة تعطونها تدين لكم بها العرب وتملكون بها العجم. هذه الكلمة عندما قالها الصحابة y جمعوا العرب جميعًا تحت راية واحدة، ثم تجاوزوا العرب إلى غيرهم، سقطت عروش كسرى وقيصر وغيرهم من ملوك الأرض بجيش لا إله إلا الله، وفتحت بقاع لا تحصى ولا تعد بلا إله إلا الله، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، بلا إله إلا الله.
هذا ليس خاصًّا بالصحابة فقط، هذا الفتح والنصر والتمكين لكل من قال لا إله إلا الله بصدق وعمل بها، والذي لم يجعل منهجه (لا إله إلا الله) كان مصيره أن يُسحب بعد ذلك في قليب بدر، ذلة في الدنيا وذلة في الآخرة.
نتيجة هذا الموقف الذي حدث بين زعماء قريش وبين رسول الله ، حدث ما يمكن أن يسمَّى بقطع العَلاقات، ووقف المفاوضات، وتجمّد الموقف نسبيًّا في مكة.