الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين والصلاة والسلام على عبده ورسوله وخليله وصفوته من خلقه نبينا وإمامنا وسيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهداه إلى يوم الدين[1].
أما بعد: فإن الله عز وجل بعث نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق وهو الإسلام الذي بعث الله به الرسل جميعاً حيث قال سبحانه وتعالى: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[2]، وقال سبحانه: وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ[3].
فالإسلام هو: دين الله الذي بعث به جميع المرسلين من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، وهو الذي كان عليه أبونا آدم، فإن الله بعثه لنفسه وذريته نبياً على شريعة علَّمه إياها وشرعها له فاستقام عليها وذريته حتى بعث الله نوحاً عليه الصلاة والسلام.
فالإسلام هو استسلام لله وانقياد بطاعة أوامره وترك نواهيه هذا هو الإسلام.
وأصل دين الإسلام وأساسه هو توحيد الله عز وجل، وإخلاص العبادة له وحده سبحانه وتعالى، هذا هو أصل دين الإسلام: أن تكون العبادة لله وحده من دعاء وخوف ورجاء وصلاة وصوم وذبح ونذر وغير ذلك يكون لله وحده، وبهذا بعث الله الرسل جميعاً، كما قال عز وجل: وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ[4].
ومعنى: اعْبُدُواْ اللّهَ يعني وحدوا الله (خصُّوه بالعبادة) وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ يعني اتركوا عبادة ما سوى الله، والطاغوت كل ما عُبِدَ من دون الله من شجر أو حجر أو صنم أو كوكب أو غير ذلك، كله طاغوت.
لكن إذا كان المعبود لا يرضى بذلك كالأنبياء والملائكة والصالحين، فالطاغوت هو الشيطان الذي دعا إلى عبادتهم وزينها للناس وهم براءٌ من ذلك.
فأصل دين الإسلام هو هذا: إخلاص العبادة لله وحده دون كل ما سواه والكفر بعبادة غيره، يعني إنكار عبادة غيره واعتقاد بطلانها وأنها شرك بالله عز وجل.
هكذا بعث الله جميع الرسل، من أولهم نوح إلى آخرهم وخاتمهم محمد عليه الصلاة والسلام، وهكذا علَّم الله آدم وشرَع له، فعبد الله وحده، وهكذا ذريته على دينه عليه الصلاة والسلام، حتى وقع الشرك في بني آدم في عهد نوح عليه الصلاة والسلام.
وكل رسول بلَّغ أمته أنه مبعوث لهم ليأمرهم بتوحيد الله والإخلاص له. فنوحٌ عليه السلام قال لقومه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[5].
وهكذا هود وصالح وشعيب وإبراهيم ولوط وغيرهم، كلهم قالوا لقومهم: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ[6].
وهكذا موسى عليه الصلاة والسلام قال لقومه: اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ، إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا[7]، وهكذا عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام قال لقومه ذلك قال: مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ[8].
وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم لما بعثه الله قال لقومه: ((اعبدوا الله ما لكم من إله غيره))، وكان يعلمهم ويقول لهم: ((قولوا لا إله إلا الله تفلحوا))[9].
فهذه دعوة الرسل جميعاً، إنهم دعوا الأمم إلى توحيد الله وإفراده بالعبادة، وتوجههم إليه سبحانه بجميع حاجاتهم، في توكلهم في خوفهم في رجائهم في طلب الجنة، وطلب النجاة من النار، وطلب الرزق، وطلب العافية، وهكذا يخافونه ويرجونه ويُصلُّون له ويصومون ويذبحون وينذرون؛ يرجون ثوابه ويخشون عقابه.
ومكث محمد صلى الله عليه وسلم في قومه في مكة عشر سنين، يدعوهم إلى توحيد الله قبل كل شيء، وينهاهم عن الشرك وهو التعلق بغير الله من الأشجار والأحجار والأصنام ونحو ذلك، ويقول لهم: ((يا قوم قولوا لا إلـه إلا الله تفلحوا)).
ومما ينبغي التنبيه عليه أن ما يتعلق بالأسباب الحسية ليس داخلاً في الشرك ولا في منافاة التوحيد وهي ما يتعلق بالأسباب الحسية مع الناس الحاضرين الموجودين ليس من الشرك في شيء، فإذا قال الإنسان لأخيه أو لشخص آخر من الناس: افعل كذا، ساعدني في كذا، اعمل لي كذا، كأصلح سيارتي، اعمل في مزرعتي، أحضر لي كذا وكذا، احمل هذا الشيء الثقيل، وهو يقدر على ذلك ويعلم أنه يقدر على ذلك، هذه أمور حسية ليس فيها شرك وليس فيها محظور، وإنما المراد بدعوة الله وحده وخوفه ورجائه ونحو ذلك فيما لا تعلق له بالأسباب الحسية مع الحاضر القادر الموجود، فإذا كان شخص حاضرٌ موجودٌ فكلَّمه أخوه أو صاحبه أو من يحتاج إليه من الناس يقول له: افعل كذا وافعل كذا بأجر أو بغير أجر فليس هذا من الشرك، وليس هذا منافياً للتوحيد بل هذه أمور حسية جائزة، فعلها الرسل وفعلها المسلمون فليست من الشرك، فإذا قال: يا فلان افعل كذا، ادعُ الله لي، استغفر لي، ساعدني في كذا، أعني على كذا، مما هو يقدر عليه أو يسمعه، أو بمكاتبة أو بالهاتف عن طريق الهاتف أو التلكس، في أمور يقدر عليها، ليس هذا من الشرك.
إنما الشرك أن يدعو ميتاً أو جماداً أو حياً يعتقد أنه يتصرف في الكون أو أن له قدرة وخاصية يتصرف في الكون دون الله، هذا هو الشرك الذي جاءت الرسل بالنهي عنه والتحذير منه، أما الأمور الحسية المعلومة التي يفعلها الإنسان مع الشخص الآخر الحاضر الحي الذي يقدر عليها بالمشافهة أو من طريق الكتابة أو التلكس أو الهاتف فهذه أمور جائزة حسية لا محظور فيها وليست من الشرك في شيء، كما قال الله تعالى في سورة القصص: فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِن شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ[10].
فينبغي التنبه لهذا؛ لأن بعض الجهلة يشتبه عليه هذا الأمر.
ومما ينبغي أن يُعلم أنه داخل في أصل الإسلام: الإيـمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وأنه رسول الله بعثه الله إلى الناس عامة، وهكذا جميع المرسلين الماضين لا بد في صحة الإسلام واعتبار أن المنتسب إليه مسلم لا بد أن يُقر ويؤمن بالرسل الماضين. ففي عهد نوح لا بد أن يؤمن بنوح، وفي عهد هود لا بد أن يؤمن بهود مع التوحيد لله والإخلاص لله وعبادته وحده.
وفي عهد صالح كذلك، وفي عهد شعيب كذلك، وفي عهد إبراهيم كذلك، وفي عهد لوط كذلك، وفي عهد يوسف وإسحاق ويعقوب كذلك، وهكذا في عهد موسى وهارون اللذين أنزل الله عليهما التوراة، لا بد من الإيـمان بهما مع توحيد الله والإخلاص له واعتقاد أن موسى وهارون أنبياء من أنبياء الله ورسل الله، فلو وحد الله وعبده وحده وأدى أمره ولكن لم يؤمن بالأنبياء ما صح إسلامه.
ثم بعد بعث عيسى كذلك، لما بعث الله عيسى ابن مريم فلا بد من الإيـمان به، فاليهود الذين لم يؤمنوا بعيسى صاروا كفاراً؛ لأنهم ما آمنوا بعيسى ولو وحدوا الله ولو عبدوه ولو صاموا وصلوا ما يكونون مسلمين، حتى يؤمنوا بالرسول الذي أدركوه وعلموا أنه جاء من عند الله، لا بد من الإيـمان به كعيسى عليه الصلاة والسلام.
ثم بعد عيسى لما جاء محمد صلى الله عليه وسلم وجب الإيـمان بمحمد، ومن لم يؤمن به فهو كافر ولو آمن بجميع الرسل الماضين، لا بد من الإيـمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وبما بعثه الله به إلى الناس عامة من الجن والإنس، لا بد من توحيد الله وإخلاص العبادة لله – لا بد – من الإيـمان بجميع المرسلين، ومن جملتهم خاتمهم وأفضلهم نبينا محمد عليه الصلاة والسلام – لا بد – من الإيـمان به واعتقاد أنه رسول الله حقاً إلى الجن والإنس (إلى جميع الثقلين) وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، فلا يثبت الإسلام إلا بهذا في حق من كان بعد محمد صلى الله عليه وسلم (من كان في عصر أو بعده) فلا يكون مسلماً إلا بإيـمانه بجميع الأنبياء من عهد آدم إلى محمد صلى الله عليه وسلم؛ لا بد من الإيـمان بهم واعتقاد أنهم صادقون، وأنهم أنبياء الله وأوحى الله إليهم وبلَّغوا ما أوحي إليهم، بلَّغوه وأدوا الأمانة ونصحوا الأمة ولم يقصِّروا، لا بد من الإيـمان بهذا وخاتمهم محمد صلى الله عليه وسلم، لا بد من الإيـمان بأنه بلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وأدى ما عليه، عليه الصلاة والسلام، حتى توفاه الله. وأنه خاتم الأنبياء ليس بعده نبي، وأنه مبعوث إلى الثقلين الجن والإنس، فعلى جميع الثقلين من المكلفين أن يؤمنوا به وأن يتبعوا شريعته عليه الصلاة والسلام. فلا يكونون مسلمين ولا يكون هناك إسلام إلا بهذا.
يقول الله سبحانه: قُولُواْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِن رَّبِّهِمْ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ[11].
بيَّن سبحانه أن الواجب على المكلفين من هذه الأمة أن يقولوا هذا، يعني أن يؤمنوا بجميع المرسلين وما جاءوا به، وقال سبحانه وتعالى: وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)[12].
ثم قال: قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[13]، وفي آية أخرى: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا[14].
فدل ذلك على أن الرسل يجب الإيـمان بهم جميعاً، وأن الله أرسلهم مبشرين ومنذرين، كما قال سبحانه: رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ[15] وهم رسل إلى الخلق. كل رسول إلى قومه لينذرهم ويبشرهم، يبشرهم بالجنة إذا أطاعوا واستقاموا وينذرهم بالنار إذا لم يستجيبوا، وهكذا محمد صلى الله عليه وسلم، أرسله الله بشيراً ونذيراً يبشر الأمة إذا استجابوا لدعوته بالجنة والسعادة والعز والتمكين، وينذرهم النار والخيبة والخسران والذل والهوان إذا خالفوا أمره ولم يستقيموا على ما جاء به عليه الصلاة والسلام.
فعلم بهذا أن الواجب تصديق جميع المرسلين والإيـمان بهم، وأن على من أدرك محمداً صلى الله عليه وسلم، أن يؤمن به وأن يصدقه وأن ينقاد لشرعه، وبهذا يكون قد دخل في الإسلام؛ لأن الإسلام انقياد لأمر الله وتصديق له ولهذا قيل له إسلام: إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ[16] يعني انقياداً، يقال: أسلم فلان لفلان انقاد له وذل له وأطاع أمره.
فالمسلمون هم المنقادون لأمر الله المطيعون لأمر الله الذي جاء به نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، ودل عليه كتابه القرآن، فلا يكون إسلام إلا بهذا. لا يكونون مسلمين ولا يكون لهم إسلام إلا بهذا، يعني إلا بتصديقهم بالرسل الماضين وإيـمانهم بما جاءوا به وتصديقهم محمداً صلى الله عليه وسلم وإيـمانهم به وانقيادهم لما جاء به من الشرع المطهر عن محبة وعن إخلاص وعن صدق وعن رغبة ورهبة لا عن كذب ولا عن رياء ولا عن نفاق.
وكل رسول من رسل الله عليهم الصلاة والسلام، كل رسول بلَّغ أمته كل خير يعلمه لهم ونصحهم في ذلك وأرشدهم، كما أنه بلغهم كل شر يعلمه لهم. هكذا كل رسول؛ لأن الرسل أنصح الناس وأكثرهم وأكملهم إيـماناً فكل رسول بلَّغ أمته ودعاها إلى كل خير يعلمه لها في دينها ودنياها ونهاها عن كل شر يعلمه لها في دينها ودنياها. كما ثبت عن رسول الله محمد عليه الصلاة والسلام أنه قال: ((ما بعث الله من نبي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم وينذرهم شر ما يعلمه لهم))[17]خرَّجه الإمام مسلم في صحيحه.
هكذا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بلَّغ هذه الأمة كل ما يعلمه لهم من خير، وأنذرهم كل ما يعلمه لهم من شر، فدعاهم إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال، وأنذرهم سيء الأخلاق وسيء الأعمال، كالرسل قبله عليهم الصلاة والسلام، يقول عليه الصلاة والسلام: ((إنما بعثت لأتمم صالح الأخلاق))[18]، وفي اللفظ الآخر: ((لأتمم مكارم الأخلاق)) فبعثه ليدعو إلى مكارم الأخلاق ومحاسن الأعمال وينذرهم سيء الأخلاق وسيء الأعمال.
وكانت الرسل عليهم الصلاة والسلام إذا بينوا للناس صفة ربهم وخالقهم وتوحيده والإخلاص له والإيـمان بالمرسلين بلغوهم أيضاً ما أعد الله لهم في الجنة، وما أعد لمن عصاه في النار.
هذا كله من تمام العقيدة التي هي عقيدة الإسلام، فالرسل يبينون مع بيانهم حق الله وتوحيده وبيانهم صفاته سبحانه وأسمائه مع ذلك يبينون ما يلزم في العقيدة من الإيـمان بملائكة الله التي خلقها لعبادته، وهم من النور خلقهم من النور كلهم عبيدٌ مكرمون كما قال تعالى: بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ[19]، فالله خلقهم ليعبدوه ويطيعوه وخلقهم من النور وجعلهم سبحانه وتعالى ينفذون أوامره في عباده، فالرسل بلغوا عنهم حتى يؤمن بهم العباد وأنهم ملائكة كرام، خلقهم الله لطاعته وتنفيذ أوامره من النور، وخُلِقَ بنو آدم من الطين، وخُلِقَت الجن من النار وهم أصناف ثلاثة: الملائكة من النور، والجن من النار، وبنو آدم من التراب.
فالرسل بينوا هذا وجاءت بذلك الكتب السماوية: كالتوراة والإنجيل والزبور والقرآن، وبينت الرسل أيضاً ما يتعلق بالكتب المنـزلة من التوراة والإنجيل وغيرها.
وبينوا أيضاً مع ما يتبع ذلك من أمر الآخرة والبعث والنشور والحساب والجزاء والوقوف بين يدي الله يوم القيامة، وأن الناس يخرجون من قبورهم ويجازون بأعمالهم، فمن أطاع واتبع ما جاءت به الرسل فله الجنة يوم القيامة، وهي دار كريمة، فيها ما تشتهه الأنفس وتلذ الأعين، دار أعدها الله لأهل طاعته، فيها كل خير، وكل نعيم، وفيها حياة دائمة، لا كدر فيها، ولا مرض، ولا موت، ولا حزن، بل نعيم دائم، ولا بول وغائط بل نعيم دائم، وحياة دائمة لمن اتقى الله وأطاع الرسل. وهناك دار أخرى هي دار النار (دار الهوان، دار العذاب) أعدها الله لمن خالف الرسل ولم ينقد لما جاءوا به ولم يتبع الرسل، هؤلاء لهم الدار الأخرى وهي: دار الهوان، دار العذاب، دار النكال، أهلها في عذاب دائم لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ[20]، أما أهل الجنة فهم في نعيم دائم وخير دائم وصحة دائمة كما قال عز وجل: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48)[21].
وفي النار قال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمْ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77)[22]، أي مقيمون في دار الهوان (دار النار) وقال في الآية الأخرى: لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُم مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ[23]، وقال عنهم أيضاً سبحانه: إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيى[24].
فالله سبحانه بيَّن على أيدي الرسل مصير المتقين المتبعين للرسل وهو الجنة والكرامة في دار أعدها الله لهم فيها كل ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين من الأنهار والحور العين واللحوم والمشارب الطيبة والملابس الطيبة إلى غير ذلك من أنواع النعيم.
وأعد داراً أخرى بيَّنها الرسل وبيَّنها الله في كتبه، هي دار الهوان، هي دار الشقاء والعذاب. هذه الدار أُعدت لمن خالف الرسل ولم يتبع ما جاءوا به، فلا يتم الإسلام إلا بهذا الإيـمان، ولا يتم الإسلام ولا يكون العبد مسلماً سواءً كان رجلاً أو امرأة إلا بهذا الإيـمان. الإيـمان بالبعث والنشور والحساب والجزاء والجنة والنار، وأن الجنة أعدها الله لمن اتبع الرسل، والنار أعدها الله لمن خالفهم.
ومن تمام هذه الأصول التي يجب الإيـمان بها، وجاءت بها الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، من تمام هذه الأصول: الإيـمان بالقدر، وأن الله علم الأشياء قبل وجودها، وكتبها عنده سبحانه وتعالى، وأحصاها، وأنه خالق الأشياء وموجدها، وأن ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، هذا قدر يشمل أموراً أربعة.
الإيـمان بأن الله علم كل شيء قبل وجود الأشياء وكتبها عنده سبحانه وتعالى، وهو الخالق لما أوجد منها بمشيئته سبحانه وتعالى وقدرته، فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهذه أمور أربعة كلها تابعة للقدر:
(1) الإيـمان بأن الله سبحانه علم كل شيء، وهو العالم بجميع ما كان وما يكون إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ[25].
لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا[26].
(2) كتابته لهذه الأشياء، فقد كتب كل شيء سبحانه وتعالى، كما قال عز وجل: أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ[27].
وقال سبحانه: مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا[28].
(3) أن ما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكـن، سبحانه وتعالى: وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ[29].
(4) أنه خالق الأشياء وموجدها، سبحانه وتعالى: اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ[30].
هذا كله داخل في الإيـمان بالقدر، وهو أصل ثابت من أصول الإيـمان التي تقدم شرحها، وقد أخبر النبي عن هذا لـمَّا سأله جبرائيل عن الإيـمان قال: ((أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر))[31]، اليوم الآخر تقدم أنه أخبر فيه عن الوقوف بين يدي الله والحساب والجزاء والجنة والنار، كل هذا داخل في اليوم الآخر ((وبالقدر خيره وشره)) يعني: أن الله عَلِمَ الأشياء وكتبها وأحصاها فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن، وهو سبحانه وتعالى خالق كل شيء ورب كل شيء.
هذه الأصول الستة لا بد في حق المسلم أن يؤمن بها ويقتنع بها، وأنه سبحانه وتعالى على كل شيء قدير وبكل شيء عليم سبحانه وتعالى.
ولما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم الصحابة بالقدر، وأن الله كتب كل شيء. سألوه قالوا: يا رسول الله إذا كان الله كتب كل شيء ففيمَ العمل؟ قال عليه الصلاة والسلام: ((اعملوا فكلٌ ميسر لـما خُلِقَ له، أما أهل السعادة فميسرون لعمل أهل السعادة، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل أهل الشقاوة، ثم قرأ عليه الصلاة والسلام قوله تعالى في سورة والليل إذا يغشى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10)[32]))[33].
هكذا بيَّن لهم صلى الله عليه وسلم، والمعنى: أن الله قدّر الأشياء وكتبها، وأنه سبحانه الموفق والهادي لمن يشاء. فعلى العبد أن يعمل ويجتهد ويسأل الله التوفيق، ويأخذ بالخير؛ لأن الله تعالى أعطاه عقلاً يميز به بين الخير والشر، والهدى والضلال، وميزه عن البهائم بهذا العقل العظيم، فعليه أن يختار وله مشيئة وله إرادة، فعليه أن يختار الخير ويسأل ربه الهداية إليه ويأخذ به، وعليه أن يبتعد عن الشر ويسأل ربه العافية منه ويحذره ويُحذِّر غيره.
هكذا أمر الله تعالى العباد على أيدي الرسل عليهم الصلاة والسلام أن يأخذوا بالخير ويلتزموه ويسألوا الله الهداية له والتوفيق لأخذه والتمسك به، وعليهم أن يحذروا الشر ويبتعدوا عنه ويسألوا الله العافية منه، هكذا علَّمهم صلى الله عليه وسلم.
ونكتفي في هذه الحلقة بهذا التعريف العام عن الإسلام، وفي الحلقة الأخرى – إن شاء الله – يكون فيه البحث عن شرائع الإسلام التي جاءت بها الرسل وعلموها الناس بعدما أخبروهم بالعقيدة التي يلزمهم أن يعتقدوها في الله عز وجل، وفيما أخبرت به الرسل عليهم الصلاة والسلام على وجه عام. أما التفصيل في الشرائع من الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد وغيرها من الشرائع، وما شرعه الله من ترك المحارم، هذا له حلقة أخرى – إن شاء الله تعالى – نبين فيها جنس الشرائع، وأن الرسل بدأت بالعقائد التي تتعلق بالقلوب وبالإيـمان، ثم بيَّنوا شرائع الإسلام التي جاءت بها الرسل، وبينوها لهم عن أمر الله سبحانه وتعالى، ليعملوا بها ويأخذوا بها، وهي ما بين أفعال وأقوال يأخذ بها المكلف، وبين أعمال وأقوال يتركها.
فالشرائع: أفعال وتروك، أشياء تفعل، وأشياء تترك. وجاء محمد صلى الله عليه وسلم بأكملها وأتمها، وبعثه بما يتمم مكارم الأخلاق، ويأتي البحث فيها – إن شاء الله – في الحلقة الآتية.
وأسأل الله سبحانه أن يوفق الجميع لما يرضيه، وأن يصلح قلوبنا وأعمالنا جميعاً، وأن يهدينا صراطه المستقيم إنه سميع قريب، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه.
[1] كلمة توجيهيه لسماحته صدرت برقم 2350/ خ في تاريخ 19/12/1419هـ.
[2] سورة آل عمران، الآية 19.
[3] سورة آل عمران، الآية 85.
[4] سورة النحل، الآية 36.
[5] سورة الأعراف، الآية 59.
[6] سورة الأعراف، الآيات 65، 73، 85. وسورة هود، الآيات 50، 61، 84، وسورة المؤمنون الآيتان 23، 32.
[8] سورة المائدة، الآية 117.
[9] أخرجه الإمام أحمد في مسند المكيين، حديث ربيعة بن عباد الديلي رضي الله عنه برقم 15593 بلفظ: "يا أيها الناس...."، وابن حبان 14/6562.
[10] سورة القصص، الآية 15.
[11] سورة البقرة، الآية 136.
[12] سورة الأعراف، الآيتان، 156، 157.
[13] سورة الأعراف، الآية 158.
[15] سورة النساء، الآية 165.
[16] سورة آل عمران، الآية 19.
[17] أخرجه مسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب الوفاء ببيعة الخلفاء الأول فالأول برقم 1844.
[18] أخرجه أحمد في باقي مسند المكثرين، باقي مسند أبي هريرة برقم 8729.
[19] سورة الأنبياء، الآية 26.
[20] سورة فاطر، الآية 36.
[21] سورة الحجر، الآيات 45- 48.
[22] سورة الزخرف، الآيات 74- 77.
[23] سورة فاطر، الآية 36.
[25] سورة العنكبوت، الآية 62.
[26] سورة الطلاق، الآية 12.
[27] سورة الحج، الآية 70.
[28] سورة الحديد، الآية 22.
[29] سورة الأنعام، الآية 112.
[30] سورة الزمر، الآية 62.
[31] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ برقم 4777، ومسلم في كتاب الإيـمان، باب بيان الإيـمان والإسلام والإحسان برقم 8.
[32] سورة الليل، الآيات 5 -10.
[33] أخرجه البخاري في كتاب تفسير القرآن، باب فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى برقم 4949، ومسلم في كتاب القدر، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمـه برقم 2647.