كشفت الانتفاضة المصرية عن عديد من الدروس لأية طبقة سياسية مصرية أو لغيرها داخل الأنظمة السياسية التسلطية وطبقاتها الحاكمة فى المنطقة العربية يمكن إيجازها فيما يلى:
1 ـ تزايد دور وتأثير الوسائط الإعلامية والمعلوماتية المتعددة فى إحداث تغييرات فى المجال العام السياسى الفعلى المحاصر فى مصر وتونس على أيدى نظامى مبارك وبن على القمعيين، وفى نظم تسلطية عربية أخرى.
عانت الأجيال الشابة المصرية والتونسية ــ والعربية ــ ولا تزال من ظاهرة موت السياسة، ومن ثم الحرمان من العمل السياسى السلمى، وكذلك من غياب الآمال والفرص الاجتماعية فى الخروج من دائرة البطالة أو الحراك الاجتماعى لأعلى، فضلا عن تزايد قسوة الأجهزة الأمنية والانتهاكات الممنهجة للكرامة الإنسانية وتحقيرها الممنهج وكذلك حقوقهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية.
الأخطر إحساس هذه الأجيال الشابة ذات التعليم الجيد فى تونس وبعضها فى مصر، أنها تفتقر إلى مدارس سياسية تتعلم وتمارس من خلالها السياسة، وتتمثل فى الأحزاب الرسمية والمحظورة. من هنا استطاعت بحكم أعمارها الشابة أن تستخدم عقلية ولغة وأدوات الوسائط الاتصالية والمعلوماتية الجديدة ومواقع التفاعل الاجتماعى ــ تويتر والفيس بوك ــ فى بناء شبكات اتصالية للمناصرة الإقليمية والكونية، والأهم فى التنظيم والتعبئة السياسية على الواقع الافتراضى، وفى توليد القوى الداعمة لهم من الأجيال الشابة.
2 ـ قلناها مرارا وتكرارا منذ عقد الثمانينيات ولا نزال وكتبناها أن تماسك المنظومات الأمنية فى مصر وأى بلد آخر فى ظل الأزمات الكبرى، والانتفاضات الشعبية له حدود، وهو ما أبرزته التجربة المصرية الحالية وفى 18 و19 يناير 1977 والإيرانية فى نهاية حكم الشاه والحالة التونسية مؤخرا، حيث يؤدى اتساع عمليات وظواهر الاحتجاج واستمراريتها إلى انكسار التماسك البنيوى داخل هذه المنظومة، وذلك على الرغم من أن قادة الأجهزة الأمنية التونسية والمصرية وكوادرها كانوا يدافعون بشراسة عن النظام، ولكن دون جدوى، لأن الإدارة السياسية غائبة تماما منذ عقود عن ممارسة أى دور ذى طبيعة سياسية وإسناد كل القضايا والملفات والمشاكل والأزمات إلى الأجهزة الأمنية.
أدت الفوضى إلى الكشف عن ضعف فى الكفاءة المهنية وطرائق إدارة الأزمة الأمنية على مسارح حركة الانتفاضة الشعبية، بما يكشف عن هدر أموال طائلة من قوت المصريين ومواردهم فى بناء منظومات أمنية تدافع عن الحكم ومحالفيه من رجال الأعمال وسرعان ما تسقط.
3 ـ إن الدعم الغربى ــ الأمريكى والأوروبى والإسرائيلى ــ لبعض الأنظمة الحليفة له حدود، لم تعد الجماهير الشابة المنتفضة تثق فى دور الأمريكان والأوروبيين فى دعم حقوق الإنسان والإصلاح السياسى والاجتماعى والاقتصادى ويعتبرونها عقبة إزاء نيل حريتهم ومحض ألفاظ وكلمات لا معنى لها!
4 ـ فى لحظات انهيار النظم السياسية التسلطية تتسارع عمليات التفكك والتقوض فى المنظومات الأمنية والسلطوية، بما يؤدى إلى اضطراب القرارات السياسية والأمنية وتتسارع نتائجها المؤدية للنهايات.
5 ـ ثمة حدود للقمع المنظم والتعذيب المنهجى القاسى للسياسيين والنشطاء وأن هناك حدودا لاستمرارية انتهاك الكرامة الإنسانية للشعب المصرى، وبعدها تنهار نظم القمع الوحشى.
6 ـ إن ثمة استعارات رمزية لأشكال الاحتجاج يمكن ملاحظتها بين الأجيال الشابة الغاضبة فى المنطقة، تنتقل بسرعة وتلاحق من بلد لآخر ويتم تطويرها فى كل حالة عربية إلى آفاق أكثر فاعلية كما فى المثال المصرى البارز، خاصة فى مجال التنظيم، وعمليات التعبئة والتحريك وتبادل المعلومات عبر آليات وأساليب أسرع من أجهزة الدولة وقادتها ولاسيما على المستويين الاتصالى والمعلوماتى والأمنى.
7 ـ بروز توجه عقلانى ووطنى داخل الجيش المصرى بعدم الانخراط فى عمليات قمع للتوجهات والمصالح الجماهيرية واسعة النطاق فى إطار التقاليد المصرية، وثمة رابطة وثقى وعضوية بين الجيش والأمة المصرية، لأنهم كانوا ولا يزالون يشكلون حركة وطنية واحدة.
من هنا ترحيب المصريين بالقوات المسلحة قبل الانتفاضة وبعدها رغما عن أن الأمة سعت ولا تزال لتأسيس نظام ديمقراطى شامل أيا كان شكل النظامين الدستورى والسياسى فى بلد عرف النظام النيابى منذ مطلع بناء الدولة الحديثة المصرية.
8 ــ إن ظاهرة موت السياسة شملت المعارضات والحزب الحاكم، الذى تحول إلى عبء سياسى وبيروقراطى غير قادر على التحرك فى الشارع فى كل الأزمات الكبرى وأثناء اللحظات الحرجة بين تماسك النظام وأجهزته، وبين تفككه.
9 ــ إن مسألة الجمود الجيلى، وأزمات الشرعية السياسية والأساس الديمقراطى للحكم، والحداثة السياسية هى مداخل جادة للإصلاح السياسى والاجتماعى والدينى، وليست الانقلابات السياسية أو الدستورية، أو الجرى وراء سراب مفاهيم ماضاوية تحاول إعادة الدولة الدينية كسيف إرهاب على أرواح ورءوس «المواطنين».
وبرز واضحا أن الحديث عن فزاعة الدين والإخوان والجماعات الإسلامية، كانت تستخدم لإخافة المصريين وإرهابهم وقمعهم، لكى يتم القبول بالأمر الواقع الحامل لجمود سياسى وفساد معمم وشيخوخة سياسية عند قمة النظام وأجهزته.
10 ــ إن الشعوب والأحرى الطبقة الوسطى لا تعيش فقط على المزايا الاجتماعية من التعليم والضمان الصحى والتأمينات والسيارات وامتلاك المساكن.. الخ، وإنما تحتاج إلى سياسة للأمل فى مجال تقرير مصائر السياسة فى بلادها، وفى التعبير عن آرائها وتطلعاتها والمشاركة الفعالة فى المؤسسات السياسية.. الخ.
11 ــ كشفت الأزمة عما سبق أن سميناه بفجوة إدراكية ونفسية ومعلوماتية بين الطبقة السياسية الحاكمة، وبين ما يجرى فى الواقع على مسارح الانتفاضة السياسية، وهو ما جعل تصريحات صفوت الشريف، وأحمد نظيف رئيس الوزراء الأسبق تبدو تقليدية وخشبية ولا معنى ولا قيمة لها وتعكس جمودا ذهنيا وفقدانا للمهارات، والأخيلة السياسية والقدرة على التكيف مع واقع متغير بسرعة شديدة فى الواقع الفعلى.
12 ــ غياب الدولة والسلطة السياسية قبل يوم الغضب 25 يناير 2011 المجيد وما بعده، ومعها جهاز إعلامى غير كفء وغير مهنى ويدار بأساليب تنتمى إلى أكثر من أربعة عقود ويزيد، ولعالم الدولة التسلطية وإعلامها التعبوى الذى يعيد تكرار تراث من اللغو الشعاراتى، الذى يزيد الغضب والحنق فى مواجهة الطبقة السياسية. لا شك أن هذا النمط من الإدارة الإعلامية التعبوية وغير المهنية أدى إلى فجوة بين السلطة الحاكمة والجماهير.
13 ــ إن أبناء وشباب الطبقة الوسطى المصرية عزموا عزمهم وخاضوا معركة إسقاط النظام السلطى بوصفه أكبر متلاعب بالدين والفتنة الطائفية دعما لمواقفه ومصالحه السياسية والاقتصادية والاجتماعية. اعتمدت الطبقة السياسية الحاكمة على استخدام الإسلام كفزاعة وأداة لإشاعة الخوف والرعب على حريات المصريين العامة والشخصية، وأن ممتلكاتهم وأموالهم العامة والخاصة ستتعرض للخطر إذا شاركوا فى أية نشاطات سياسية تؤدى إلى تهديد النظام ومصالحه السياسية والاقتصادية. ظلت الطبقة الوسطى ــ الوسطى، وشرائح الوسطى ــ العليا الأقباط مرعوبين من الإسلام السياسى والراديكالى، وتمرد الفقراء وأبناء المناطق العشوائية، ومن هنا كانوا مترددين عن المشاركة فى التغيير.
14 ــ يوم جمعة الغضب ــ 28 يناير 2011 ــ ذائع الصيت، كان يتشكل من تركيبة اجتماعية لجيل مصرى جديد من أبناء ثورة الاتصالات والوسائط المتعددة ــ تويتر والفيس بوك ــ من أبناء مصر والعولمة وحاملين رؤى وقيما إنسانية عالمية بروح مصرية عميقة، جيل يتراوح أبناؤه بين 18 و30 سنة، وبعض من أبناء جيل السبعينيات من نشطاء حركة حقوق الإنسان وبعض الكتاب والصحفيين على اختلاف توجهاتهم.
15 ــ إن المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية الرسمية فشلت مطالباتها المؤيدة للنظام، وكسر بعض الأقباط الشباب حاجز الخوف الذى أشاعته المؤسسة كى لا يشاركوا أخوتهم فى الانتفاضة ودق الأبواب أمام مصر الجديدة.
16 ــ كشف النظام وقادته الرئيسيون عن غياب وبطء شديد فى المعالجة السياسية للأمور، وفى غياب حضور فاعل ورمزى للدولة فى أثناء الانتفاضة، التى كانت تتطور فى ديناميكية وسرعة واتساع فى نطاقها، وفى احتضان قطاعات جيلية واجتماعية واسعة للطلائع الوطنية الشابة على مسرح الانتفاضة. غياب حضور رئيس الجمهورية والمجموعة الحاكمة والحزب الوطنى الحام وقادته عن المشهد يشير إلى أننا لم نكن سوى إزاء حزب سياسى ورقى لا وزن سياسيا أو اجتماعيا له على الخريطة الاجتماعية والسياسية للبلاد.
17 ــ إن اختصار النظام الأمنى الكلى وقطاعاته فى الأمن السياسى، أدى إلى خلل المنظومة الأمنية واختزالها فى دعم النظام ــ رجال السلطة الكبار ورجال الأعمال من محالفيهم ــ ومن ثم ضعف الأمن الجنائى، وانتشرت الجرائم وغياب قانون الدولة عن التطبيق لصالح قانون العنف والبلطجة والعصب الإجرامية.
يبدو أيضا أن بعض رجال الأمن تورطوا مع بعض هذه العصب على نحو كشف عنه انهيار المنظومة الأمنية كلها.
18 ــ أشاعت عمليات النظام على صعيد عدم احترام قانون الدولة وسيادته واستخدامه ضد خصومه، إلى سيادة قانون القوة والفساد والأعراف مما أدى إلى إيجاد ثقافة ضد قانون الدولة، ولا تأبه به ولا تحترمه خاصة فى ظل انتشار ظواهر البلطجة والعنف الجنائى والاجتماعى، من هنا تبدو جرأة بعض الدهماء من اللصوص وكبار تجار المخدرات وصغارهم فى إشاعة الفوضى والرعب بين المواطنين.
19 ــ كشف غياب الأمن عن الشارع المصرى ــ خلال أيام الانتفاضة الأولى فى ليل جمعة الغضب، ويوم السبت ــ عن ضعف فى المهنية والكفاءة وغياب إدارة سياسية وأمنية للأجهزة الأمنية.
20 ــ لجأ النظام وقادته إلى أساليب بالية تكشف عن جمود عقله السياسى ــ إن وجد أساسا ــ وبيروقراطية ونمطية سلوكه من خلال إغلاق خطوط الهاتف المحمول والإنترنت والبلاك بيرى والرسائل القصيرة والفيس بوك والتويتر. سلوك بائس لم يأبه به أحد بل ساعد على نشر المزيد من الغضب الجماعى وسط قطاعات شعبية واسعة.
إن الحالة المصرية لاتزال حاملة لعديد من الدروس.
مصر تصاغ الآن على الأرض وفى قلب روح الأمة المصرية الحديثة العريقة، وعلى رأسها وأولها نهاية شرعية 23 يوليو، وأكتوبر، «وسلطة نشر الخوف والجمود والشيخوخة السياسية والجيلية». نحن فى نهاية نفق جمهورية الخوف. نحن ندق أبواب الجمهورية الديمقراطية الجديدة التى تؤسس للدولة القانونية الدستورية والحرية والعدالة.