من الكتب ما أن تقرأها حتى تبدأ تشعر بنوع من الألفة بينك وبين المؤلف، ذلك أنك تجده يتحدث دون تكلف أو تصنع أو تزين، بل يخبرك بحديث من القلب. هذا ما تشعر به وأنت بين صفحات كتاب اللبناني الأصل، الأمريكي الجنسية والعقل، بول أورفاليا.
كنت قد عرضت كامل قصة كفاح ونجاح بول، واليوم نتناول معا كتابه الذي ألفه (Copy This) ليشرح فيه قصته مع متجره كينكوز، الذي نجح – دون دراسة أو خبرة تجارية عملية حياتية – في جعله واحدا من سلاسل المحلات الناجحة، وساعد الكثيرين على أن يتحولوا من شباب لاهي، إلى رجال أعمال ناجحين. (والشكر موصول إلى نواف الرياض!).
حلاوة هذا الكتاب تكمن في أسلوبه السلس، فأنت تشعر أن بول رجلا لا يعرف التصنع، يحدثك من قلبه، كأنك تجلس معه في بيته في عصر يوم هادئ. لكن السر الحقيقي يكمن في رسالة بول البسيطة: الكل يستطيع أن ينجح، فقط إذا انتبه لما يدور من حوله، وإذا كان عاقد العزم على تحقيق ما يريده.
الفصل الأول: يمكن لأي شخص آخر أن يفعلها بشكل أفضل!
كان بول ذاهبا إلى المدرسة، في السيارة مع أمه، فقابلا طفلا يبدو عليه أنه كان لبناني الأصل، فتوقفت الأم، وطلبت من بول أن يذهب إلى هذا الطفل ويتعرف عليه ويصاحبه ويساعده، لأن هذه عادة الأم مع كل من يبدو لبنانيا مثلهم. لم يكن الأرمني داني تيفرزيان لبنانيا، لكنه تحول ليكون أفضل أصدقاء بول فيما بعد.
كان لهذه الأم الكثير من الفضل على ابنها بول، بل إنها السبب – بعد الله – في نجاحه في حياته، فهي كانت دائما ما تقول له: عندما تكون موظفا، فقيمتك تساوي قيمة آخر راتب قبضته. تمتع بول بطفولة تنقل فيها ما بين بيوت أقاربه الكثيرين جدا، ولما كانوا كلهم لبنانيين، وكانوا جميعا يكرهون فكرة التوظف لدى الغير، فهو نشأ يتعلم من عدد لا يحصي من التجارب التجارية الحية، وحضر موائد طعام دار حولها نقاشات حول اتحادات العمال والحقوق المدنية، وغيرها من الخبرات الحياتية.
تعلم بول من والده الذي أدار مصنع ملابس نسائية، بالمشاركة مع عمه بنسبة تشارك بالتساوي لكن كل منهما اختص بجزئية انتاجية أبعدتهما عن التنازع وتناحر الآراء، وتعلم من أزواج خالاته الذين عملا سقاة في حانة، وادخرا كل مليم كسباه حتى افتتحا معا حانة خاصة بهم. كل هذا ساعد بول على تعلم جزئية تجارية إدارية ذات أهمية قصوى: أهمية المشاركة.
لكن الأمور لم تمض وردية، فبول – كما علمنا – عانى من مرض جعله غير قادر على تعلم القراءة والكتابة بسهولة، ولذا حين عثرت زوجة عمه – شريك والده في مصنعه – بول يترك وظيفته في ترتيب الملابس بعد كيها، وجدته يتولى أخذ أوامر الشراء ويرتبها، صرخت بصوت عال: لا تدعه يفعل ذلك، فهو لا يعرف حتى القراءة. يومها خرج بول من مصنع أبيه غاضبا، ليجلس في سيارته يبكي لساعات، وليخرج من هذه السيارة وفي رأسه فكرة واحدة: بقدراته هذه، عليه أن يتوقف عن محاولة إرضاء الآخرين، وأن يرضي نفسه هو.
عاد بول للعمل مرات عديدة بعدها في مصنع أبيه، حتى طرده أبوه منه، فهو لم يكن يعرف كيف يتعامل مع بول. لقد كان بول يكتشف نفسه، ويتعلم أنه يستطيع فعل ما هو أفضل من عامل تجميع ملابس في مصنع. لقد كان لبول تجارب مؤلمة حين عمل في وظائف أحرى ليطرد منها بعد البداية بأيام. كان بول من النوع الحالم، الذي يحب التحدث مع الزبائن، لا يجيد بيع الوقود، أو دهان الحوائط، أو بيع الفرش من باب لباب. هذه التجارب المؤلمة دلت بول على مصيره الحتمي: إما أن يرثى لنفسه وينتهي أمره في ملجأ للمشردين، أو أن يعمل لحسابه ويكون هو مدير نفسه. هذا الإدراك ساعدته أمه كثيرا على الوصول إليه.
رحلة بول مع التعليم لم تكن سهلة أو بسيطة، فهو اعتمد على مساعدات أصدقائه، ولذا حين تعين إجراء بحوث مشتركة من مجموعات الطلاب، كان نصيب بول شراء بيتزا والمشروبات المثلجة والقهوة لفريقه من الطلبة، ونسخ أوراق البحث التي أعدها الفريق، لقد كان هذا جل ما يستطيع بول عمله.
حين ذهب بول إلى مركز نسخ الأوراق في الجامعة، كانت هذه أول مرة يدخل بنفسه إلى داخل هذا المركز، وهكذا هبط عليه الإلهام من السماء: المستقبل في نسخ الأوراق! كانت المشكلة أن مراكز نسخ الأوراق – نادرة العدد في سنة 1970، وقت قصة فتانا بول – كما أنها كنت تدار من داخل الجامعة، ما جعل الوصول إليها غير متيسر للكل.
وجد بول أن إنشاء مركز لنسخ الأوراق، في جامعة صديقته التي تبعد ساعتين عنه، هو الفكرة الذهبية لبدء مشروعه الخاص به، فهو تخيل مدى حاجة جميع الناس لخدمات مركز تصوير الأوراق، وهو أراد أن يكون أول من يوفر هذه الخدمة، كما أن جامعة صديقته لم تكن توفر مثل هذه الخدمة!
بعد شهرين من هبوط الوحي على بول، كان قد افتتح أول محل له، وكان محله صغيرا جدا، يمتد على مساحة قدرها 100 قدم، وكان ملحقا بمطعم صغير لتقديم شطائر البورجر، على الطريق المؤدي للجامعة، والذي كان يرتاده غالبية الطلبة الدارسين في الجامعة، في مدينة سانت باربرا، في منطقة اسمها ايلا فيستا، بإيجار قدره 100 دولار في الشهر.
كان لا بد للمحل من اسم، وببراءة شديدة، أطلق عليه بول اللقب الذي أطلقه عليه أصدقاؤه، وله في هذا الاختيار فلسفة، ذلك أن الناس لا تنسى الاسم غير التقليدي بسرعة، على عكس غيره من الأسماء. كينكو، أو ذو الشعر اللولبي، كان اللقب، وكان حرف اس للدلالة على الملكية، أو اختصار محل كينكو.
من أول يوم، أدار بول المحل ليقدم الحلول للناس، وليس وسيلة للحصول على أموالهم، كثيرا ما قضى بول وقته في التحدث للعملاء لكي يعرف رغباتهم وطلباتهم وأمنياتهم، وكثيرا ما سعى ليساعدهم على تحقيق أحلامهم وأهم خطواتهم في الحياة.
غني عن البيان، أنها ما كانت سوى أسابيع، وأيقن بول أنه وضع يده على منجم ذهب، لكن المشكلة الآن كانت: ما السبيل للتوسع؟ ولهذه مقالات تالية.
أرى، والله أعلم، أن هذه المقالة تلقي بعض الضوء على تساؤل البعض لماذا ينجح اللبنانيون في الغربة. أكرر، بعض الضوء، وليس كله!