وأما المنتج الذي اختارت الشركة الناشرة له دعوتنا لحضور الإعلان عنه في باطن الأرض فهو لعبة كمبيوتر (و اكس بوكس360) تحمل اسم مترو 2033، وقبل أن تظن بي الظنون، فغرضي لا ينتهي عند الإعلان عن هذه اللعبة، بل القصة خلفها. مترو 2033 قصة روسية من الخيال العلمي، ألفها شاب روسي اسمه ديمتري جلوجوفسكي عمره الآن 30 ربيعا، وبدأ كتابتها وهو طالب في المدرسة، إذ كان يقضي في كل يوم دراسي ساعة من الصباح ومثلها في المساء راكبا عربات مترو أنفاق موسكو، في الذهاب إلى والعودة من مدرسته، وبدلا من معاكسة الفتيات أو تخريب المترو أو مضايقة بقية الركاب، كان لديمتري خطة أفضل للاستفادة من وقته.أطلق ديمتري العنان لخياله، وأسلم نفسه للهستيريا السائدة في مجتمعه من وقوع أهل موسكو فريسة لهجوم نووي، ولأن مترو الأنفاق كان دائما بمثابة الملاذ الآمن لأهل موسكو، لذا تخيل ديمتري ماذا كان ليحدث بعد وقوع انفجار نووي في موسكو، يضطر معه الناجون المحظوظون للنزول تحت سطح الأرض، من أجل تجنب مخاطر الإشعاع النووي القاتل. على مر سنوات طوال، كان ديمتري يجلس في المترو يتخيل كيف سيتفاعل المجتمع الروسي مع موقف كهذا، وما التطورات التي ستطرأ عليه، وهو وجد أن الروس مثلهم مثل بقية البشر، سينقسمون ما بين الفاشي والنازي والانتهازي والطيب والرأسمالي والشيوعي، وسيقوم كل من لديه ميول متشابهة بالانضمام إلى الجماعة التي تشاركه اهتماماته، وستتحول المحطات إلى تجمعات تشبه الدول… كل هذا من خلال قصة شاب صغير اسمه ارتوم، المولود تحت الأرض والذي لم يخرج أبدا خارج نطاق محطة المترو التي تمثل موطنه.
في عام 2002 أطلق ديمتري (المجهول وقتها) موقعا على انترنت، نشر من خلاله فصول قصته الخيالية هذه، وفي عام 2005 تحولت إلى قصة منشورة ورقيا بسبب أدائها الطيب مع جمهور انترنت، حتى انتهى الحال بالرفيق ديمتري وقد حصل على بعض الجوائز تقديرا له على هذه القصة، واليوم، في عام 2009، ترجمت قصته إلى أكثر من 20 لغة، وهي على وشك الصدور بالانجليزية، ولقد سعدت خلال هذا المؤتمر الصحفي بالجلوس إلى طاولة ديمتري لأسمعه يجيب على بعض الأسئلة.
لماذا تجد العديد من القصص والمؤلفات الروسية كئيبة حزينة؟ وهنا انبرى ديمتري مجيبا، إذ قال لنا أريدكم أن تضعوا أنفسكم محل الشعب الروسي، لقد وقع ضحية حكم ديكتاتوري ممتد، لقد اختفت الملايين في ظروف غامضة ليس لأنها انتقدت نظام الحكم بل لأنها ربما قالت نكتة أو دعابة جرى تفسيرها بشكل خاطئ انتهى بقائلها إلى السجن أو ما هو أسوأ، وأما خارج نطاق الحكم المستبد فانظر كيف دمر نابليون 80% من مباني موسكو بعدما حاصرها، وانظر إلى كم ما نهبه من كنوزها، ثم انظر الحرب العالمية الثانية وتوابعها، لقد فقدت روسيا أكثر من 25 مليون قتيل خلال هذه الحرب، في حين أن ألمانيا التي بدأت هذه الحرب خسرت فقط 9 مليون قتيل، ولذا من حق أي روسي أن يتشاءم ويتوقع الأسوأ، وأن ينظر إلى الدنيا نظرة سوداوية، وأن يظهر هذا واضحا في مؤلفات أدبائه…
ثم يردف ديمتري، لقد حرصت على أن أظهر الشعب الروسي على حقيقته، وليس على الصورة الكوميدية الغبية التي تصر عليها صناعة الأفلام الأمريكية، حيث تعرض الروسي على أنه شخص سمين غبي له طريقة مضحكة في التحدث، لقد جعلت سياق القصة يمضي بشكل يوضح للقارئ أن الروس يألمون كما يألم الناس، ويفرحون كما يفرح الناس، ويعانون ويضحكون، وهو ما حرصت عليه من البداية.
مرة أخرى، أعود إلى ما ذكرته من قبل عن ضرورة تكاتف أعضاء الفريق، لقد ساند متصفحو المواقع الروسية المؤلف المغمور ديمتري، فساعدوه على نشر قصتين تاليتين، وعلى أن تتحول قصته التي شهرته إلى لعبة كمبيوتر، وعلى أن تترجم قصته إلى قرابة 40 لغة عن قريب، وأن يبيع أكثر من 400 ألف نسخة من قصته الأولى، ومن يدري ماذا يحمل المستقبل له. كان يمكن لأول قارئ لأول فصول قصته أن ينهال عليه بشديد النقد وإبراز العيوب، ولا تحسبن الروس قليلي خبرة أو ناقصي شجاعة لعمل شيء مثل هذا، فأغلب ظني أن جيناتهم تستطيع فعل ذلك بدون الحاجة لأمر من العقل، وأنا أجد الروس يستوون معنا معاشر العرب في كم المشاكل والمعاناة التي نواجهها في حياتنا اليومية، لكن مثلما نجح ديمتري، حتما الكثير من شبابنا العربي قادر على النجاح، وليس الأمر موقع أو مدونة أو فصول قصة، بل الأمر مؤازرة أعضاء الفريق، ومساعدة بعضهم بعضا!
بعد هذه المقابلة، جاء موعد العودة إلى الفندق، والخروج من المخبأ، حيث كانت درجة الحرارة 2 تحت الصفر، وكانت موسكو نائمة، وشوارعها سالكة، وفي الصباح الباكر جدا، كان موعد العودة إلى مطار شيرمتيفا مرة أخرى، حيث قابلت موظف قسم الجوازات ديمتري، الذي تمتع بوجه مثل الثلج فلم يضحك على جواز سفري هذه المرة، لكنه طلب مديرته والتي كادت أن تمزق جواز سفري إربا، لكنها بعد 15 دقيقة من الفحص الدقيق سمحت لي بالمرور، لأجد أن علي خلع كل ما أحمله من معادن، ثم رفع يدي أمام جهاز الفحص للتأكد أكثر من خلوي من المعادن، ثم دلفت إلى المطار التعيس، لأجد الطائرة السابقة لطائرتي متأخرة فأخرت طائرتي، ثم ركبت الباص حتى موقع الطائرة، ومثل تلاميذ المدارس الصغار كانت المعاملة لنا، وما أن استقريت على مقعدي حتى حمدت الله أن انتهت هذه التجربة، وحين هبطت في مطار دبي، استطعت أن أدرك كم هو مطار عظيم، ففي خلال نصف ساعة كنت أستقل سيارة تاكسي عائدا إلى بيتي، بدون قلق من استغلال السائقين، أو من معاملة خشنة من مراقبة الجوازات.
إذا كنت لأعطي موسكو تقييما على مقياس التودد إلى الأجانب أو سمه User Friendly Scale، لقلت أربعة من عشرة، لكنها تتحسن يوما بعد يوم، خاصة بعدما هاجم رئيسها ميدفيديف حقبة ستالين ومن يفعلون مثله، داعيا الناس إلى انتهاج عقلية متفتحة متوازنة، وهي كلها مؤشرات على أن روسيا تفوق من سباتها، وتعالج أخطائها، ولعل محبيها في عالمنا العربي يفعلون مثلهم!
السؤال الآن، لماذا لا أجد قصة عربية خيالية ناجحة مشهورة منتشرة منشورة مجانا إلكترونيا بالكامل؟ لكن سؤال المليون سيكون: هل سأجد تعليقات تقول أن حال الشباب الروسي أفضل من حالنا العربي؟ ولهذا ينجحون؟ لماذا عجزت أن أجد مِن العرب مَن هو مثل ديمتري؟