واليوم نستكمل الجزء الثالث من قصة النجاح في المغرب التي عرضنا جزئها الأول هنا، ثم الثاني، حيث يقول بطلها: نصحني الطبيب أن أبتعد عن الحاسوب، وإلا فإن الأمور قد تنتهي إلى ما لا تحمد عقباه. توقفت لمدة ستة أيام. وبمجرد أن أحسست بالتحسن عدت كما كنت. ينبغي للبرنامج أن يكتمل. لعله من الطريف أن تعرف أنني فقط في تلك الفترة عرفت كيف “أحل لغزا كبيرا “. كيف أربط البرنامج مع قواعد البيانات. بحمد الله انتهى البرنامج. ولكنني ما كنت أريد بيعه. أعدمت البرنامج الذي أعددته في شهرين. لا غضبا. ولكن كما فعل طارق بن زياد. حتى أقطع على نفسي طريق الرجوع.
صورة من مدينة العيون
قابلت بعض المسؤولين، وبعض المقاولين، وعرضت عليهم التعاون. هم يأخذون الغلة، وأنا آخذ البرنامج الأصلي الذي سيوفرونه لي لكن. خاب المسعى. أريد برامج شرعية، فهذه البرامج المقرصنة رغم توفرها – هي أموال، والكفار رغم أنهم كفار – إلا أن أموالهم في بعض الحالات تكون معصومة. وكما لا أرضى لغيري أن يسرق عملي، لا أرضاه لغيري. ثم من حيث المنطق، لو حدث وأنني بعت برامج بأموال طائلة، واقتنعت بعدها أنها حرام علي، كم سيكون الامتحان عسيرا في تلك اللحظة. لذا رأيت من الأسلم لي أن أبدأ منذ البداية ببرامج أصلية.
فكرت وصديقي في برنامج يحل مشكلة كبيرة لبعض الإدارات. لكنه رغم وضعه المالي الجيد كان يخشى الخسارة. لم يقبل أن يكون هو الممول. ثم لم يقبل فكرة أن يكون التمويل قسمة بيننا ـ رغم ظروفي السيئة. سوف تضحك حينما تعلم أن ما حال دون حلمنا هو مبلغ 500 دولار. وهو ثمن نسخة أصلية من ويندوز، وأوفيس بروفيشيونال. نظرا لغلاء سعر النسخة الأصلية من (لغة البرمجة) فيجوال بيسك 6. تلك اللغة العتيقة التي لا أحسن غيرها، بل لا أحسنها هي أيضا.
وحينما أعيتني الحيلة، قلت في نفسي: لم لا تكون شركتنا هي الممول؟ ولكن ماذا عن الخسارة؟ بعد المجزرة الرهيبة قررت ألا أخوض في مشروع يتضمن أحد الأمور التالية:
– أن يعتمد قيام المشروع على شخص بعينه أ وبصفته. إلا إذا كنت أنا.
– أن يتطلب المشروع كراء (إيجار)، يستنزفني، ويضغط علي.
– أن تكون بضاعته مواد لها مدة صلاحية محددة. ولو كانت طويلة لا زلت أتذكر الدجاج.
– أن يكون المشروع شيء آخر غير البرمجة. والسبب أنك حينما تبيع سلعة تخرج من يدك نهائيا إلا في حالة البرمجة.
في البداية كان رصيد حساب الشركة صفرا، وفي ذمتي 500 دولار دين لها. ذهبت إلى أحد المكتبات واتفقت مع صاحبها على أقساط بضمان شيكات. فوافق. وبدأ العمل بعد 10 أيام. وكانت تلك اللحظة بالذات هي لحظة الشروق. البرنامج الذي أعددناه ببساطة يتعلق بالحالة المدنية. وفكرته تتمحور حول إنتاج كل الوثائق المتعلقة بالحالة المدنية لشخص ما. ولكي يتم ذلك لابد من إدخال بياناته من السجلات الأصلية. وهذه العملية فيها من الصعوبة ما فيها. ولتسهيلها نقوم بمسح ضوئي لكل السجلات.
تتجلى أهمية هذه العملية في كونها تطيل العمر الافتراضي للسجلات، لأنها تحفظ من كثرة التداول بالأيدي. فحينما تصور – يعتمد الموظف على الصورة لنقل البيانات، ثم إن الصورة تأتي بسرعة عند كتابة رقم رسم الولادة، بعكس البحث اليدوي في السجلات الأصلية. كنا قد فكرنا في فكرة ظنناها جديدة ـ أي تصوير السجلات الأصلية بماسح ضوئي. حينما انتهينا من البرنامج اكتشفنا أن هناك برنامجا شبيها لشركة تبدو قوية. وهي أيضا تقوم بعملية التصوير.
الشركة التي أتحدث عنها – كانت تقسم شاشة الحاسوب إلى نصفين، النصف الأيمن تعرض فيه صورة من السجل مصغرة بنسبة 50 بالمئة. أما في برنامجنا فإننا نقسم شاشة الحاسوب إلى ثلاثة أقسام أفقية. الثلث العلوي مخصص للصورة، وهي مكبرة بنسبة 150 بالمئة. وبما أن المساحة لا تكفي لإظهار الصورة كاملة، فإننا ابتدعنا طريقة أعتقد أنها تستحق كلمة إبداع. كلما انتقل الموظف من حقل لآخر، تتحرك الصورة آليا ليظهر الجزء المقصود. وهذا يتطلب بعض الإعدادات المسبقة، فتموضع اسم الأب مثلا يختلف من سنة لأخرى في الغالب. بهذه الطريقة تمكنا من أن نخفض المدة التي تتطلبها عملية إدخال البيانات إلى النصف تقريبا.
وجاءت لحظة الحسم… التسويق! قمت بمحاولة لتسويق هذا البرنامج، وعرضته لإحدى المؤسسات خجلا من غلائه مقابل 500 دولار فرفضوه. وبعد مدة وجيزة تمكنت من بيعه لآخرين بضعف الثمن… سبع مرات. وتتابعت عملية البيع بعد أن لاقى البرنامج قبولا. وهذا لا يعني أن الوضع كان ورديا طول الوقت. كانت نيتنا تتجه صوب إعداد برامج جديدة لكننا تحت ضغط الطلب لم نستطع إعداد شيء آخر. وكان نصيبي من الكعكة يوازي راتبي لسنة كاملة. وهناك صفقات أخرى قيد الإبرام. في بداية الأمر، كان العمل يتم بحاسوب يتنقل بين من يقوم بالتصوير، والكتابة، والبرمجة.
اذكر مقالة لك أخي رؤوف تقول “ابحث عما تملكه، واستغله الاستغلال الأمثل“، ولأن الوقت أصبح ثمينا، مع قلة الإمكانيات – المادة، قررنا كراء (تأجير) منزل رخيص نستطيع من خلاله التعاقب على الحاسوب الوحيد، واستغلاله الاستغلال الأمثل. بهذه الطريقة زاد العمل، ومن بعده زادت الحواسيب مع اختلاف تخصصاتها، وزاد عدد المستخدمين بشكل مباشر من ثلاثة، إلى سبعة في مقر عملنا، وهناك آخرون يقومون بنفس العمل الآن، ولكن ليسوا تابعين لنا بشكل مباشر، وعددهم ستة عشر.
قررنا أن ننشئ شركة لأن الوضع صار خارج سيطرتنا. كما أننا أصبحنا نستقطب المبرمجين بهدف الوصول إلى تعاون ينفعنا وإياهم. نحن نوفر المكان، والأجهزة، والبرامج الأصلية والتسويق. والمبرمج ينتج. من خلال هذه العملية، تعودنا على سماع مبالغ كنا نعتقدها خيالية. ولكن بفضل الله صارت عادية. الشركة اسمها الحالي Prog Shra وتقع في مدينة طانطان.
مع مرور الوقت ، ووقوع الأخطاء ، أصبحت أدرك بعض الحقائق منها أنك ما دمت تستهين بنفسك وببضاعتك ، فأنت عند الناس أهون … و لا مجال لشيء اسمه التواضع في البيع … على الأقل في اعتقادي. تعلمت أنه من الخطأ أن تخاطب الجميع خطابا واحدا … لعل قائلا أن يقول : هذه أمور معروفة، لكن فرق كبير وبون شاسع ما بين أن تسمع عن شيء … وبين أن تدفع غاليا ثمن الدرس … ليس الخبر كالمعاينة.
من محاسن البرمجة أنها – على ما يبدو – لا تكلفك الكثير … جود بالوقت ، و إعمال للفكر، مكان هادئ في البيت ، … وإذا كنت مثلي غرّا في التسويق ستقول ينبغي ألا أبيع بثمن باهظ لكي أشجعهم ، وأيضا لأنني لم أنفق مالا كثيرا … والنتيجة أنهم سيرفضون برنامجك ، ويشترون آخر بثمن كبير جدا … لسبب مقنع وهو أن البرنامج الآخر أفضل … والغريب انهم لم يروا لا هذا ولاذاك … فما هو السر ؟ حينما تنظر إلى الحاسوب، وترفع رأسك وتكتشف أنه بالفعل قد مرت شهور… وحينما تكون في بيتك كالغريب بسبب البرمجة، فاعلم بانك قد أنفقت أشياء ثمينة … حينما تسقط طريح الفراش … وحينما ترى صديقك المبرمج الآخر أصيب فجأة في عينه … لطخة دم على شبكية العين بسبب ارتفاع ضغطها… وارتفاع ضغط العين بسبب مداومة العمل على الحاسوب … حينما ترى كل ذلك تدرك أنك تبيع رخيصا … ومما تعلمناه … لا تبع رخيصا.
آخر مؤسسة تعاقدنا معها كان عدد سجلاتها ورسومها هائلا، ضعف ما قمنا به سابقا ثلاثين مرة ، وكنت أهاب الدخول في هذا التحدي في البداية، ولله الحمد، خضنا تلك التجربة بنجاح. تطلبت هذه العملية الأخيرة أن يعمل 15 شخصا في التصوير فقط، ومن فضل الله علينا أننا جعلنا عليهم مشرفا من الطراز الرفيع، ولأول مرة في حياتي أدرك معنى كلمة مشرف عمله منظم ودقيق، لا يترك شاردة ولا واردة إلا سجلها.
في العادة أقابل المتقدمين للعمل معنا من المستخدمين في التصوير لقاء أوليا، وأحاول معرفة سبب قدومهم، وقد فوجئت بوجود خمسة مبرمجين من بينهم أستاذ للبرمجة، والآخرين أكثرهم حاصلون على الإجازة، وكم يكون استغرابهم كبيرا حينما يسألون عن امتداد هذا البرنامج فأقول: اكس، إل ، إس .xlx كيف؟ تطبيق مبرمج ببرنامج الحسابات إكسل؟ مستحيل!! لكن ولماذا مستحيل، هناك شيء اسمه vba، (أو فيجول بيسك لتطبيقات مايكروسوفت). بين قلة إمكانياتي وغلاء سعر بيع لغة البرمجة فيجوال بيسك، هناك حلول ينبغي طرقها.
حينما أتحدث إلى المبرمجين واستفسر عن السبب الذي يمنعهم عن إنتاج برامج، أجدهم يتوقفون عند عقبة التسويق لبرامجهم، لكن المفاجأة التي لم أكن أتوقعها هي حين أخبرني مبرمج متقدم للعمل معنا: جئت فقط لكي أعرف من هو هذا الشخص الذي ليس لديه دبلوم في البرمجة وتمكن من انجاز تطبيق، ولماذا فشلنا نحن! ولقد عرفت: لأنك ببساطة تهوى البرمجة، ولم تتخذها لأجل الحصول على شهادة الدبلوم.
أدركنا أننا لسنا أهلا للإدارة، تنقصنا مؤهلاتها الطبيعية والمعرفية، فلسنا من ذلك النوع الذي يستعمل الصرامة في وقتها، لسنا منضبطين أيضا، وعند نقطة معينة ينبغي أن تسلم زمام أمور الإدارة – ولا أقصد القيادة – إلى الشخص المناسب. اخترنا مقر العمل بسيطا جدا، لكننا حددنا موعدا بحول الله عند نهاية السنة الحالية لكي نغير المقر، تصوري له هو أنه ينبغي أن يكون فخما جدا، وفيه أسباب الراحة للمبرمجين، لأسباب عدة أذكر منها:
الزبون يعطي الثمن بناء على مقر العمل. بدلا من زيادة أجور العاملين – التي تذهب ولا تعود – سأوفر لهم جوا مريحا جدا، لهم ولمن سيأتي بعدهم. من الأمور التي أحرص عليها أن أكسب ولاء العاملين معي، فحينما يدرك العامل أنك تفكر لمصلحته، سيعمل بغض النظر عن الأجرة. قررنا أيضا أن نستقدم أستاذ برمجة يقدم لنا دورات مكثفة – على نفقة الشركة – للاستفادة من أحدث وأبسط لغات البرمجة.
مما لاشك فيه ، أن كل خطوة من الأمور التي ذكرتها واجهت عقبات ومشاكل، فهل أقول بأنني نجحت؟ لا .. ليس بعد .. أظن أنني فقط عرفت الطريق، قد أخسر في أي لحظة خسارة أكبر مما خسرته سابقا إلا شيئا واحدا، وهو يقيني في قدراتي .. فيما يمكنني فعله، لأنني رأيت بعيني جزء مما يمكنني تحقيقه.