أيام تمر ويهل علينا عيد الفطر المبارك، داعين الله أن يتقبل منا ومنكم أعمالنا ودعائنا، ومرة أخرى سنجد تعليقات مثل انظر إلى تخلف المسلمين لا يستطيعون الاتفاق على يوم عيدهم، أو لماذا يختلف المسلمون في عيد الفطر ويجتمعون في عيد الأضحى، وصراحة أراني أجد عدم فهم هذه النقطة على وجهها الصحيح يجعل لها آثار مضرة تنصرف على حياة المسلم كلها وأفعاله وأقواله وأفكاره.
بداية، يرى البعض الاختلاف على أنه عيب أو عار يجب علينا التخلص منه، وأنا أريدك أن تقتنع أنه ليس كذلك، بل هو سُـنة كونية، قانون بشري لن يهنأ للبشر عيش بدون فهمه وتقبله والرضا به. اضرب لكم مثلا، سورة الفاتحة، لا تصح صلاة من تركها، أو لم يقرأها على وجهها السليم. خذ الآية الرابعة، نحفظها جميعا على الوجه: مالك يوم الدين، لكن هناك قراءة أخرى معتمدة وصحيحة على الوجه: ملِك يوم الدين، ومن كان محظوظا بسماع تفسير شيخنا الشعراوي لسورة الفاتحة، واستمع منه لحكمة اختلاف القراءات، فلن يحتاج لإكمال قراءة مقالتي هذه.
الآن، إذا وقفت في صلاة وقرأ فيها الإمام ملك يوم الدين، هل ستصحح له وتصيح فيه مالك؟ لم يخطئ الإمام فيما قرأه، فماذا ستفعل؟ هل ستقف لتسب وتلعن الاختلاف – أم ستقبله بصدر رحب؟ نعم، هناك مساحات في الإسلام يمكن الاختلاف فيها، وهناك مساحات محصورة بنص لا مجال فيه لاجتهاد أو خلاف، هذا معلوم ولا جدال فيه. دعوني اضرب مثلا آخر على الاختلاف من سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
تذكرون طبعا الحديث النبوي: “من كان يؤمن باللّه واليوم الآخر ، فلا يُصلينَّ العصر إلاّ في بني قُريظة” (البخاري و مسلم)، وعندما سار الصحابة إلى بني قُريظة، وقاربت الشمس على المغيب، انقسم الصحابة قسمين .. قسم قال: الوقت ضاق ويجب أن نُصلَّي، وقسم قال: الصلاة في بني قريظة، ولما احتكموا بعدها إلى النَّبي صلى اللّه عليه وسلم تبسم ولم يعنف أحداً، وأقرَّ هذا وأقرَّ هذا، الذي أراد أن يصلي في زمان الصلاة، والذي رأى أن يصلي في مكان الصلاة، لأن كل حدث له ركنان أساسيان : الزمان والمكان، والنَّبي صلى اللّه عليه وسلم أقرَّ الفريقين على اجتهادهما. انظر للنبي حين أقر الفعلين رغم “اختلافهما”؟ نعم، الحق كان من جانب فريق واحد منهما، لكن النبي عليه الصلاة والسلام تقبل اجتهاد الفريق الآخر.
لماذا اختلف الإئمة الأربعة وغيرهم؟ لأن في الإسلام مساحة للخلاف. هل اختلف الإئمة في الأصول؟ على حد علمي البسيط لا، لكن اختلفوا في الفروع. كم كان الإمام مالك يكن من الحب لتلميذه الإمام الشافعي والعكس، وكم كان الإمام ابن حنبل يدعو للشافعي، ورغم اختلاف مذهب هذا مع ذاك كان الحب والوئام وتقبل الخلاف سائدا بينهم، هذا الخلاف لم يكن أبدا ليجعل الإمام الشافعي – على سبيل المثال العصري – يدخل على مدونة الإمام مالك ويترك له تعليقا هجوميا مليئا بالسب والقدح – هؤلاء القمم لم يكونوا ليفعلوا ذلك.
حين تتقبل حتمية الخلاف والاختلاف في الإسلام، ومن بعدها في جميع نواحي الحياة، وترضى روحك وعقلك بهذا، فلن تجد نار الغضب مشتعلة في صدرك حين يختلف أحد معك في الرأي، بل ستبتسم وتقبل الرأي المخالف وتمضي في حياتك سالما غانما. هذه الراحة ستجعل عقلك ينشغل بما هو أهم، مثل ربح حلال أو حل معضلة رياضية أو اكتشاف دواء لداء عضال. هذه الراحة ستجعلك ترقى وتسمو لتفكر فيما هو أفضل وأفيد، لك وللبشرية. ثم بالله عليك أخبرني، لماذا قبلنا أن يأتي رمضان في الربيع تارة وفي الخريف تارة، وفي البرد تارة وفي الحر الشديد تارة، ثم نرفض قبول اختلاف في يوم أو اثنين؟
حين تتقبل الخلاف بصدر رحب، ستجد الآراء المخالفة لك خفيفة على قلبك، فهناك من سيقول التسويق علم راسخ لا يتغير، وهناك من سيقول التسويق علم معتمد على البشر ولأن البشر لا يتوقفون عن التغير، فهذا العلم متغير مثلهم، فالرأي الأول حصر رأيه على فترة زمنية قصيرة، والآخر نظر إلى فترة زمنية أطول، وكلاهما محق في حدود نظرته، ولا حاجة لتنابز بالألقاب، أو أن تترك تعليقا تقول فيه أنت مدون تسير مع التيار ليس لديك خلفية علمية تؤهلك لأن تنصح أو تقترح.
حين تتقبل الخلاف، لن يضرك أن تفطر مصر قبل السعودية أو بعدها، وستنظر بعين الرضا لاختلاف مواقيت عيد الفطر في البلاد المسلمة، فهذا من طبيعة الإسلام، والبشر، والكون. ساعتها ستدرك أن للخلاف فوائد ومناقب. فقط تخيل معي لو أن أصابع يدك الواحدة كانت مثل بعضها البعض، أو أن كل الرجال تشابهوا، أو حملوا الاسم الواحد، كيف كنت لتعرف محمود من أحمد من حامد، أو كيف كنت لتعرف الكهل من الصغير. في الاختلاف حكمة، ابحث عنها بعقل متفتح ولا تشغل عقلك وقلبك برفض الاختلاف، لا تعارض شيئا لن تغيره مهما فعلت، تعايش معه وامض إلى ما هو أفضل.
أعرف أنك ستختلف معي في رأيي هذا، وكلي أمل أن تتقبل هذا الخلاف بيننا بصدر رحب. عيدكم سعيد ومختلف، وتقبل الله منا ومنكم الطاعات.
على الجانب:
كنت قد ذكرت من قبل أن لي مشروعا سريا يشغلني، حسنا، كنت أود الإعلان عنه منذ زمن، لكن شركة صدف في غزة والتي تصمم لي موقعي الخدمي الجديد تأخرت عن موعدها الأول للتسليم وهو نهاية شهر يوليو، ثم توقعت أن ننتهي في أغسطس، ثم ها هو سبتمبر وقد انتصف، ولذا قررت أن أعلن عن هذا الموقع بكل عيوبه بعد العيد… كنت أود حقا أن يخرج الموقع كما أريده لكن هذه عادة تصميم المواقع، العربية وغيرها، لا تخرج للنور كاملة، وفي هذا حكمة حتما.
الخلاف: مصدر مشتق من الفعل الثلاثي المزيد بالألف خالف أي على وزن “فاعل”.
الاختلاف: مصدر مشتق من الفعل الثلاثي المزيد بالهمزة والتاء اختلف أي على وزن “افتعل”
وعلى هذا النحو يقال: خالف يخالف خلافا ومخالفة، واختلف يختلف اختلافا
من العلماء من لا يرى فرقاً بين الخلاف والاختلاف، بل هما مترادفان، ومن العلماء من يفرق بينهما.
خلاصة القول هي أن التفريق بين الاختلاف والخلاف وعدم التفريق بينهما مجرد اصطلاح، ولا مشاحة في الاصطلاح. والذي عليه عمل جمهور العلماء من الأصوليين والفقهاء في مصنفاتهم: عدم التفريق بينهما، فإنهم يستعملون أحدهما مكان الآخر.