بتـــــاريخ : 11/12/2008 5:45:09 PM
الفــــــــئة
  • الآداب والثقافة
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1520 0


    غربة

    الناقل : mahmoud | العمر :35 | الكاتب الأصلى : اسكندر نعمة | المصدر : www.awu-dam.org

    كلمات مفتاحية  :
    قصة غربة اسكندر نعمة

     

     

    هاهي الأيام المرّة، والسنواتُ الآسنة قد انقضت وولّت إلى غير رجعة، وجاءّت اللحظة السعيدة التي ترقّبتها طويلاً.أجل يامحمود... سبعٌ سنواتٍ قد انقضت بكل مافيها من مآسٍ وغربةٍ وألم وضياع... سبع سنوات قضيتها غريباً عن الوطن والأهل.. شابَ فيها شعرُ رأسك، وشاخَ قلبُك، وتلاشت روحُك وأعصابك... إفرحِ الآن يامحمود، فقد آن لك أن تعود إلى الوطن من جديد فتستريح وتطمئن.. كم كانت هذه السنواتُ السبعُ طويلةً يامحمود.. كأنّ كل يوم منها يوازي فصلّ شتاءٍ كامل، مثقل بالبرد والظلمة والأوجاع...‏

     

    افرح الآن يامحمود... فتلك السنوات السبعُ الثّقال تبدو لكَ، وأنت على أبواب العودة إلى الوطن أشبهَ بحلم طويل طويل ، وكابوس متخم بالفزع والألم والتشنج .. حلم طويل مخيف بدأ لحظةَ كرهَتْ نفسُكَ الوظيفة التي قضيتَ فيها ردحاً طويلاً ، من حياتك، وأصبحتَ تخشى على نفسك وعيالك الجوعَ والعري والفضيحة... كان لديكَ عذرُكَ آنذاك.. ففي تلك الأوقات التي تبدو الآن لناظريك بعيدة، كنت قد شارفتَ على الخمسين، وأصبحتَ مسكوناً بهمِّ زوجة وخمسة أبناء... لم تكن وظيفتُكَ التي بذلتَ في يومٍ مضى، ماءَ وجهك للحصول عليها، كافيةً لسدِّ حاجات العائلة ولو لأيامٍ قليلةٍ من الشهر..‏

     

    كانت حياتُك قاسيةً يامحمود، صعبة، مخيفة... وازدادت صعوبةً وهمّاً عندما تغيرّتِ الدنيا في رحاب الوطن، وأُصيبت الأسعارُ بالجنون المتصاعد.. حاولتَ أن تتعلّم حرفة، لكن الوقت قد فات.. لم تستطع -وقد شارفتَ على الخمسين- أن تتعلّم شيئاً جديداً.. كنتَ حريصاً ألاّ تحرمَ أبناءك من التعليم.. بعتَ قطعةَ الأرض الوحيدةَ التي تملك، المجاورةَ لمنزلك القديم الذي ورثته عن أهلك. وجاءَ يومٌ استبدَّ بك العجزُ والضّياع.. أُصبتَ بالشّلل الفكري والنفسي .. أنفقت ثمن الأرض ولم تستطع أن تصل بأكبر أبنائك إلى ردهات الجامعة.. كان ذلك حلماً وردّياً بالنسبة له... أخذ الحزنُ يامحمود يحتلُّ مساحة قلبكَ صباحَ مساء. .. ماذا كنت ستفعلُ أمام ذلك الثالوث المتجهّم.. الوظيفةُ.. الفقرُ.. العائلة.. كنتَ تبدو في أسوأ حال، عندما تعودُ من الوظيفة، فتلتقي ابنكَ الاكبر وهو ذاهبٌ ليقضي نوبتهُ الليليّة في معمل البسكويت.. كان يطمحُ أن يَتمَّ دراسته الجامعيّة.. لكن الفقر كان أقوى... كنت تداري عنه عينين مليئتين بالدموع....وقلباً مسكوناً بالفزع من يومك وغدك... لم تكن راغباً أبداً، في أن تسلكَ دروباً معوجّة، او تفعل شيئاً تخجل منه... كنت دائماً مستعداً لأي عمل شريف.. لكن الدنيا ضيّقة، والأبواب موصدة، والوجوه من حولكَ مكفهرّة، والعيونَ زجاجية.. يومها.. ضاقت مساحةُ عينيك، مسحتَ الدموع عنهما، عقدتَ مابين حاجبيك.. تعّمقت أخاديدُ وجهك، واتخذتَ قراراً حاسماً بأن تغادر الوطن... قلتَ لنفسك: بلادُ الله واسعة، والاغتراب في بلاد الغربة، أفضل من الغربة في الوطن.. وأقسمتَ يميناً معظّما... ألاّ تعود إلى الوطن إلاّ غنيّاً، او لن تعود أبداً... وقتئذ... بعتَ أكثر محتويات بيتك الصغير، وماتملكه زوجتك المسكينة، وانتزعتَ من ابنك الأكبر آخر راتب له تقاضاه من معمل البسكويت.. كل ذلك لتضمن نفقاتِ السفر، وأيام الإقامة الأولى، وحصة المقاول الذي سيظلّكَ بجناحيه...‏

     

    في ليلة حزينةٍ جداً، ودّعتَ فاطمة التي لم تفارقها على مدى خمس وعشرين سنة.. احتجزتْ دموعها في حلقها.. اربدَّ وجهها، ارتجفت شفتاها وهي تودِّعكَ، وتدعو الله أن يبعدَ عنكَ سطوة الحكّام والظلاّم.. قبّلت الكبار والصّغار بوهن.. كان داخلُك يبكي بمرارة.. حملتَ حقيبتكَ الكبيرة العتيقة، ومضيتَ إلى محطة "البولمان".كان ذهنُك مشتّتاً، وأعصابك محطمة... عندما ابتلعك جوفُ السيارة الكبيرة، انتحيتَ جانباً وأسلمتَ نفسك للبكاء الحزين... هل كنت يامحمود تبكي فاطمة والأولاد؟؟.. هل كنت تبكي وظيفتك التي قَسَتْ عليك بفظاظة، ووضعتكَ على هامش الحياة؟؟.. هل كنت تبكي قطعة الأرض التي بعتها وأمتعة البيت؟؟.. أم كنت تبكي نفسكَ وغربتكَ ومستقبلكَ المجهول؟؟...‏

     

    لاتحزن يامحمود.. لاتبتئس... لقد انقضى كل ذلك، وأصبح في عداد الذكريات، والذكريات كثيرةٌ ولها طعمٌ مرٌّ لاسع.. ماأكثر الأشياء التي ساءت بعد رحيلك عن الوطن .. ما أكثر ما اضطهدتك الغربة وأذلتك .. كثيرةٌ هي الليالي التي أمضيتها مسّهداً تستجرُّ ذكرياتكَ المريرة، وتسلي روحك َ المعذّبة بشريط تسجيلٍ أرسلته لك فاطمة والأولاد... أيّامٌ عصيّة على الحصر والتعداد أمضيتها مُطارداً من رجال الأمن لأنك بلا إقامة..‏

     

    لاتحزن يامحمود.. لقد انقضى كل ذلك.. أنت الآن في طريقك إلى الوطن.. تحتلُّ مقعداً في طائرة عائدةٍ إلى عاصمة بلادك.. تنظرُ بلهفةٍ إلى النافذة القريبة من مقعدك... أمامكّ المضيفةُ الجميلة الرشيقة.. تختلسُ منها نظراتٍ متشنجة.. أدهشتكَ أناقُتها، فرُحتَ تفترسُ تلك الاستدارات المذهلة في جسدها الممشوق.. كنت تراقبُ حركة أناملها وكفّيها بإعجاب شديد... ظلَّ فُمكَ مفتوحاً وأنت تغطس في بحر من الذهول.. تحرّكت الطائرة.. استيقظتَ من ذهولك.. تذكرتَ أنك عائدٌ.. أنك الآن في طريقك إلى فاطمة والوطن.. همستَ في داخلك.. آهٍ يافاطمة.. كم يمزّقني الشوقُ إليكِ... لكنّ المضيفة الجميلة أمرٌ آخر، أنستْكَ كثيراً من مأساة الغربة... تداولتكَ التناقضات.. ابتلعك الإحساس بالاحباط.. أرهقتك المفارقة بين فاطمة والمضيفة الأنيقة... صحوت أخيراً.. حّدثتكَ نفسك.. لن أغادر الوطنَ مرّة أخرى.. لن أفترقَ عنكِ يافاطمة...‏

     

    أنت الآن تملك المال... جمعتّهُ يوماً بعد يوم عبر سبع سنوات مضنية طويلة، وضعتهُ في هذه الصرَّة القماشيّة الكتيمة.. الصرّةُ مستريحةٌ إلى جانب إبطك الأيسر، مربوطةٌ بحزام رقيق يشدها إلى الكتفين... بين الحين والآخر، تمدُّ إليها أناملَ مرتعشة تطمئنُّ إليها... تحدّثك نفسُك.. أنت بالطبع لن تعود إلى الوظيفة.. هذا زمنٌ قد انقضى.. لقد كبُرَ الأولاد.. الدنيا تغيرّت.. الأسعارُ ازدادت جنوناً.. لابدَّ من القيام بمشروعٍ يدرُّ أرباحاً وافرة.. أنت الآن في عصر الانفتاح والاستهلاك والاستثمار.. الأيام الآن مختلفةٌ تماماً.. مجالات الكسب متاحة لكل من يملك المالّ والخبرة.. نحن الآن في عهد جديد.. أنت تملك كلَّ شئ.. المالَ... الخبرةَ الظروفَ المواتية...‏

     

    بدأت الطائرة في الإقلاع.. الطائرة تشقُّ الهواء نحو السماء... ذاكرتك يامحمود، تعود نحو الأرض.. وداعاً أيتها الشوارع والجدران.. وداعاً للتراب الذي اختلط بعرقي وأعصابي.. لم يعد هناك يامحمود ماتخاف منه.. لن يبيعك كفيل إلى كفيل آخر.. لن يطاردَك الكفيل ويقاسمك أجورَك.. لن تضطرّ تحت وطأة الملاحقة أن تنزل ضيفاً على مُغترب مثلك تعرفه، أو تبيتَ في الطريق خارج المدينة.. لقد مرّت هذه السنوات مريرةً ثقيلةً قاسية.. يحقُّ لكَ الآن أن تفرح.. أن تغني.. أن ترقص إن شئت.. لكن لاتنسَ أن تتحسَّسَ الصرّة تحت إبطك بين الحين والآخر.. آهٍ لهذه المضيفةِ ماأجملها.. لكأنّها غصن قرنفلٍ ميّاس، ينشر عبقه في كل الاتجاهات.. فاطمة.. ليتكِ .. ليتكِ آه يافاطمة...‏

     

    كان التعب قد هدَّ محمود، لقد أمضى أيامه الأخيرة قبل السّفر بلانوم.. بدأت دائرتا عينيه تضيقان.. جسده يتكوّر.. كفّه اليمنى تضغط برفق ولين تحت إبطه الأيسر.. أسند رأسه إلى ظهر المعقد، لوى عنقه فوق صدره ونام مطمئناً.. لم يطل نومه.. قادته الأحلام عبر دهاليزّ معقدة متشابكة.. ضاق ذرعاً بهذه الدهاليز الموحشة.. عندما تخلص من منعطفاتها، عاد من جديد إلى أرض المطار، بدت له ساحة كبيرة موحشة.. وجد الطائرة ذاتها تكاد تقلع، إنها تنتظره... تلفّتَ حوله، لم يجد أحداً، خامرهُ خوف محيّر.. صعَد الدرج بسرعة فائقة واحتل المكان المخصّص له..أسعدتهُ ابتساماتُ المضيفة الجميلة.. اقتربت منه.. همست في أذنه.. لمَ تأخرت.. لم نشأ الإقلاع حتى تأتي.. ضحك ملءَ أعماقه.. استرخى في مقعدة، وأسند ظهره إلى الوراء... درجت الطائرة على ساحة المطار.. قبل أن تقلع، تراجعت.. توقّفت.. جمدت نهائياً عن الحركة.. تلفّت حوله مستفسراً، لم يفهم شيئاً.. فجأة رأى قائد الطائرة وثلاثة من المسافرين مثله، ذوي أجساد ضخمة، ووجوه متجهّمة ملتحية، يقتربون من المضيفة الأنيقة يسألونها عن مسافر اسمه محمود.. أدرك محمود ذلك.. رسا قلبه في قاع جوفه.. سأل نفسه بهلع: ماذا يريدون منّي؟؟ أشارت إليه عيونُ المضيفة وأناملها.. غطس في أمواج الخوف بلاحدود.. تخثر الكلام في حلقه.. أخذ يفحُّ كالأفعى المشلولة، وجمدت عيناه عن الحركة.. لم تستطع ابتسامات المضيفة ان تنقذه ممّا هو فيه.. تقدم منه الرجال وقائد الطائرة... أصدر فحيحاً شديداً... امتدّت أيديهم إليه أكثر.. أكثر.. انقلب خوفُه إلى هياجٍ عصبيٍّ شديد.. قفز محاولاً الهرب.. أمسكوه..مدّ أحدهم يده إلى صدره واستلَّ الصرّة القماشيّة.. حاول محمود انتزاعها من يده.. ضربه الآخر على قمّةِ رأسه.. أيقن محمود أن المقاومة غير مجدية.. استسلم لمصير أسود.. انفجر الرجال بضحكٍ هستيريّ.. خرجوا من باب الطائرة واحداً تلو الآخر... اندفع محمود من مكانه واقتحم باب الطائرة.. قفز بعنف نحو أرض المطار.. راح يلوب حول نفسهُ... الصرَّةُ أو الموت.. لكنه عبثاً حاول.. لقد اختفى المجرمون.. أصابه انهيار شديد.. تدحرج على أرض المطار.. استسلم لبكاءٍ مرٍّ أليم.. تحوّل بكاؤه إلى نشيج مرتفع صاخب.. استيقظ محمود.. لم يطل نومُه كثيراً.. كانت المضيفة تربت على كتفه، تحملُ له ابتسامةً عطرة وعشاءً ساخناً... أصَلحَ من جلسته.. نسي أن يشكر المضيفة، وبسرعة البرق راحت كفُّه اليمنى تتلمّسُ موضع الصرَّة القماشية تحت إبطه الأيسر.. استراحَ عندما وجدها واطمأن كثيراً.. عرف أنَّ ماجرى، كان أضغاثَ أحلام، وراح يلتهم طعامه بسرعة... بعد الانتهاء، أشعل سيجارة وراح يلهو بدخانها، وهو يُحكمُ النظرَ إلى النافذة القريبة، إلا أنه لم يرَ شيئاً.. الظلام يسودُ الكون.. ضاق ذرعاً.. تساءَل في سرّه: متى تصلُ الطائرةُ وينتهي المشوار.. أقسمَ أنه لحظة يصل الأرضَ سيقبّلُ ترابَ وطنه.. تعاظم لديه السؤال.. متى ستصل الطائرة؟؟.. خرج السؤال من سرّه.. بلغ المضيفة.. أعلنت أنَّ الوصول قريبٌ جداً، وأن الطائرة بدأت بالهبوط...‏

     

    ***‏

     

    محمود.. أّيها المغتربُ العائد... هذي عاصمة الوطن الجميل تلوحُ لعينيك عبر الظلام.. بساطٌ متناثرٌ من الأضواء.. تجّمعاتٌ سكنية ضخمة تملأ الأرض وتشقُّ الفضاء.. إنك يامحمود تقتربُ أكثر... لعلَّك الآن تشعرُ أنك ولدتَ من جديد.. وأنك بحاجة لأن تصرخ صرخة الوليد كي تستقبل الحياة..‏

     

    أخذت الطائرة تدبُّ على مدرجِ المطار، وأنت تفكُّ الحزام، وتتلمّسُ موضعَ الصرَّة من جسدك المرهق.. تقف على ساقين متعبتين، تسير نحو باب الطائرة. لكن قبل أن تغادر الطائرة نحو ردهات المطار. وتستنشق أوّل نسمةٍ من هواء الوطن العليل، عليك يامحمود أن توطّن نفسك لإرباكات وقسوة إجراءَات الجوازات والجمارك والموظفين والمراقبين. وأن تكحّل عينيك بالزحام الخانق. وتعطِّر أذنيك بالضجيج المفتعل...‏

     

    ***‏

     

    هبط محمود من الطائرة..سار متمهلاً. نظر إلى السماء. امتصَّ نفساً طويلاً عميقاً..انحنى على الأرض. قبّلَ أرضَ المطار. بينما كانت كفّه اليمنى ماتزال تتجوّل في صدره لتطمئنَ أن شيئاً ما، ينام بهدوءٍ متوسّداً إبطه الأيسر‏

     

    كلمات مفتاحية  :
    قصة غربة اسكندر نعمة

    تعليقات الزوار ()