في السنوات الأخيرة أثار اهتمامي ازدياد الشكوى من الخوف … الخوف يداهم القلوب بكثرة هذه الأيام … كثيرون يخافون بلا سبب .. أو لسبب واه مضحك .. البعض يخاف إلى حد الرعب … أحياناً يشل الخوف حياة الإنسان .. يسلبها مذاقها ويحرمه من أي متعة .. والخوف يجلب الحزن والأسى والشفقة على النفس .. الخوف يجلب الإحساس بالهوان والضعف .. والخوف مذلة .
الخوف ينسف الثقة بالنفس ويجعل الإنسان حائراً عاجزاً منطوياً يراقب ذاته المنهارة ويحسد الآخرين على الطمأنينة التي يشعرون بها .
إنه يشعر أنه قليل وضئيل وهزيل ومحدود ، ولا يسع الإنسان إلا أن يكره نفسه وهو الذي يسعى طلباً للعلاج .. وفي العيادة النفسية تكون المصارحة والمواجهة .. ربما لأول مرة يواجه نفسه يقول بصوت مرتفع أنا خائف ..يعري نفسه بلا حرج لا يخشى نقداً أو تجريحاً أو مهانة أو احتقاراً أو اعتداء .
*** وأقصى أنواع الخوف هو الخوف من الناس أو الخوف من شخص معين . أو خوف من مجموعة معينة من الناس .. خوف بلا سبب وبلا معنى .وبذلك يتحاشى أي موقف يعرضه لمقابلة أو مواجهة الناس ، يسيطر عليه إحساس غريب بأنه سيتعرض لنقدهم أو اهانتهم .. بأنه قد يرتكب حماقة تعرضه للسخرية أو سيرتكب خطأ يعرضه للاستهزاء . أو قد يتصور أنه سيتعرض للاعتداء .. ويحمل هم الدنيا كله في قلبه إذا كان عليه ، أو إذا كان مضطراً لمقابلة الناس .. عذاب يتلوى به وهو ذاهب لمقابلة أحد أو حضور أي مناسبة وكأنه يساق للموت وينتهز أي فرصة للهرب ويشعر بالارتياح العميق إذا استطاع أن يتفادى المواجهة واللقاء .. ولكن هذا يمثل مشكلة مستمرة لصاحبنا ويكون غير راض عن نفسه .. يشعر بالألم لخوفه وهروبه وخاصة أنه خوف بلا مبرر وبلا معنى .. خوف بلا سبب .. ولكنه خوف يرعبه ويهزه من الداخل .. خوف يسيطر عليه سيطرة تامة ..
وهذا الخوف قد يعوق تقدمه في عمله . إذ عليه أن يعطي تقريراً عن عمله لزملائه أو رؤسائه أو مرؤوسيه كل أسبوع ولكنه يجد صعوبة بالغة في ذلك وحين يحاول يكون غير مقنع وغير مؤثر .
أسوأ يوم لديه هو صباح يوم السبت حيث الاجتماع الأسبوعي وحيث مطلوب منه أن يتكلم .. وأسوأ ليلة ينام فيها هي تلك الليلة التي تسبق ذلك الاجتماع . ويعتذر عن مناسبات أو لقاءات أو سفريات ويرسل الرجل الثاني في العمل أو يرسل زميله بدلاً عنه حتى لا يضطر لمواجهة الناس .
المشكلة قد تبدأ في الطفولة وتزداد تدريجياً حتى مرحلة المراهقة حيث تتفاقم وتصبح مصدر تعاسة حقيقية له وتصبح معوقة له في حياته ، فالخوف له مظاهره كارتعاش أطرافه ولذا لا يستطيع الكتابة في وجود الآخرين . وقد يتلعثم إذا بدأ في الكلام وتطير الأفكار من رأسه ويزداد نبض وعنف قلبه ويغزر عرقه في كل أجزاء جسمه .. هذا بالإضافة إلى الرهبة التي يشعرها بداخله .
وقد تزداد الصعوبة في مواجهة الجنس الآخر فيجد مشقة بالغة في التحدث مع فتاة فينعقد لسانه تماما أو يقول كلاما بلا معنى .. والصعوبة تشتد في وجود أكثر من فتاة أو في مجموعة بها خليط من الشبان والفتيات . لذا فهو منذ البداية بلا شلة .. بلا مجموعة من الأصدقاء – لا يشارك في أي نشاط .. لا يذهب إلى رحلة ... لا يشارك في أي مناسبة
هذا الإنسان قد يلجأ إلى الكحول أو إلى استخدام المهدئات بدون استشارة الطبيب لتقلل من حدة روعه وخوفه ، أو لكي يستعد لمواجهة موقف معين .. وهذا خطأ كبير لأن هناك أسلوباً طبياً علاجياً معروفاً لهذه الحالات ولا داعي لأن يزج صاحب المشكلة بنفسه في طريق قد يقوده إلى الإدمان أو التعود على مواد يصعب التخلص منها وقد يكون لها آثارها الضارة على جسده .
وهذا النوع من الخوف يجعل الإنسان يتنازل عن حقوق كثيرة له ولا يستطيع أيضاً أن يدافع عن نفسه كما لا يستطيع أن يواجه الآخرين بأخطائهم وبغيهم وتعديهم . وبذلك يتصاعد احساسه بالأسى وبالظلم وبضياع حقوقه وبالضعف .
*** والخوف قد لا يكون من الناس ولكن من الوحدة يخاف حين يكون وحيداً .. ولا يشعر بالاطمئنان إلا في وجود الآخرين . يخاف من الأماكن العامة .. يخاف من الأماكن المتسعة يخاف من الشارع .. لا يمكن أن يسير وحيداً .. لا يمكن أن يذهب إلى مكان ما بمفرده .وإذا اضطر لذلك انتابه الخوف الذي يصل إلى حد الذعر والعرق والارتعاش . وضربات القلب العنيفة والإحساس بعدم بالاطمئنان والاحساس بأنه على وشك أن يفقد وعيه أو قد يداهمه شعور بأنه على وشك الموت .. وكيف يهرب إذن من هذا المكان !! كيف ينجو بنفسه!!.
هذا هو لب أو صميم مشكلته . شعوره بأنه إذا تعرض لشيء فإنه لن يستطيع الهرب من هذا المكان .. نفس الشعور يداهم من يخاف من الأماكن الضيقة أو الأماكن المزدحمة أو الأماكن المغلقة كالمصعد والسيارة .. إنه يخشى حين ينتابه الخوف ألا يستطيع أن يفلت من هذا المكان .. ولذا فإن الذي يخاف من مثل هذه الأماكن يشعر بالارتياح إذا اطمأن أنه وقت اللزوم يستطيع الهروب أي يستطيع أن يغادر المكان أو يغادر السيارة تزداد طمأنينته إذا كان أحد من أفراد عائلته بصحبته . بعض الناس لا يستطيعون مغادرة بيوتهم إلا إذا كانوا بصحبة أحد يعرفونه ويثقون به . وبذلك قد يجد الشخص صعوبة بالغة في الوصول إلى مكان عمله .
وإذا اضطر مثلاً لأن يمشي بضع خطوات بمفرده تهاجمه كل أنواع القلق الحاد ويشعر بنفس الأعراض إذا استقل مثلاً سيارة عامة ..
وهنا قد تتصاعد مشاعر الخوف التي قد تصل إلى حد الذعر ولا يهدأ إلا إذا وقفت به السيارة وتركها . هذا الإنسان يكون دائم الحزن والقلق والضيق والتبرم ولا يرضى عن حياته ويواجه صعوبات عائلية كثيرة وكذلك صعوبات في عمله وخاصة إذا لم يفهموا ماذا يعاني وكيف يعاني .. وهنا يأتي الشق الاجتماعي المهم لهذا المرض .. أنه مرض له ارتباط بالناس المحيطة .. الأسرة والعمل .. الزوجة سوف تغضب لأن زوجها لا يصطحبها للخارج وكذلك الأولاد .. أو قد تضجر لاضطرارها لمصاحبته لعمله كل يوم .. والعمل قد لا يقدر كيف يعاني حتى يصل إلى مكان عمله ويضغطون عليه وقد يضطرونه للقيام بأعمال تقتضي انتقاله من مكان إلى مكان .
وبذلك تتضاعف معاناة صاحبنا لأن أحداً لا يقدر ولا يفهم حقيقة مرضه .. وقد لا يصدق أحد أن هناك مرض .. وهذه هي أعراضه .
*** والخوف الذي يسبب أيضاً إزعاجاً شديداً لصاحبه وللمحيطين به هو الخوف من المرض .
وبعض الناس لديهم قليل من الوسوسة المرضية إذا تعرضوا لمصادر عدوى أو إذا سمعوا عن مرض خطير ولكن سرعان ما يتغلبون على وساوسهم ولكن صاحبنا دائم الخوف على نفسه .
دائم القلق خوفاً من أن يصاب بالمرض .. أي عرض يشعر به يتصور أنه بداية أو مقدمة لمرض خطير .. أي ألم في صدره معناه ذبحة صدرية وأزمة قلبية . وأي الم في رأسه معناه ورم في المخ أي تنميل ف أصابعه معناه أن الشلل وشيك الوقوع .
وحين يقلق تتضاعف الأعراض العضوية التي يشعر بها فيزداد وهمه واحساسه بأنه قد تعرض للخطر فعلاً .
الأهل والأصحاب يضجون من كثرة شكواه ومخاوفه ولكن هذا الإنسان يتألم فعلاً ويعذبه خوفه .. يحتاج إلى من يطمئنه في كل لحظة .
*** والخوف قد يكون من أشياء بسيطة محددة . لكنه خوف أيضاً بلا معنى .. خوف لا مبرر .. خوف مبالغ فيه خوف لا يشاركه فيه الناس .. الخوف من الحيوانات والحشرات التي لا تضر الإنسان ولا يخاف منها إنسان آخر .
قد يشعر إنسان بعدم الارتياح في وجود قطة أو كلب بجواره ولكن صاحبنا يصاب بالذعر والهلع والصراخ والقلق الحاد إذا مرت بجواره قطة .. وهو على استعداد لأن يقطع طريقاً طويلاً ملتوياً ليتفادى المرور بمكان يقف فيه كلب .. هذا النوع من الخوف يضايق صاحبه لأنه خوف بلا مبرر ولأنه يسبب له حرجاً اجتماعياً .
*** وقد لا يكون هناك مصدر لأي خوف ولكن تنتاب الإنسان حالات من الرعب أو قد نسميها قلقاً حاداً .. هذه الحالات قد تنتابه وهو يجلس وحيداً أو مع الناس أو هو يشاهد التليفزيون أو وهو مسترخ على شاطئ البحر .. أي في أي مكان .. وفي أي وقت دون أي سبب خارجي .. خوف شديد يصل إلى حد الرعب ويصاحب ذلك أعراض مختلفة منها :
- ضيق في التنفس .
- الاحساس بضربات القلب .
- آلام في الصدر .
- صعوبة في البلع وكان شيئا يسد بلعومه .
- دوخة .. دوار .. عدم اتزان أثناء السير .
- الاحساس بالاندهاش والاستغراب لكل شيء حوله وكأنه يحلم أو وكأنه منفصل عن الواقع .
- سخونة أو برودة في كل جسده .
- عرق غزير .
- إغماء .
- ارتعاش في كل الأطراف .
- الخوف من الموت ، أو يشعر أنه على وشك أن يفقد عقله أو أنه سيقدم على فعل شيء لا يستطيع التحكم فيه . هذه الحالات قد تستمر دقائق أو ساعات . وقد تعاوده من وقت لآخر .. وقد تظل ملازمة له شهوراً .. وهو أمر مضن ومرهق يفسد حياته وأوقاته ويزعج من حوله الذين يجدون أنفسهم في حيرة من أمرهم . كيف يساعدونه ؟ كيف يطمئنونه .؟ هم أيضاً يشعرون بالعجز ، إذ لا شيء يفلح في التخفيف من حدة الحالة أو إزالتها .
**** مريض الخوف يحتاج إلى من يصدقه .. يحتاج إلى من يقدر أنه فعلاً عاجز عن التحكم في مخاوفه . مريض الخوف هو ذاته يعرف أن مخاوفه لا أساس لها ولكنه لا يستطيع أن يكف عن الخوف الذي يصل إلى حد الرعب أحياناً .
إنه يحتاج إلى من يطمئنه ويهدئه بلا كلل .. يحتاج إلى من يسانده في رحلة العلاج الوجه المطمئن يبعث على الطمأنينة والوجه الباسم يشيع التفاؤل والثقة .. ووسائل العلاج كثيرة ومتعددة منها العلاج النفسي والعلاج السلوكي .. والعقاقير تلعب دوراً كبيراً وأساسياً في علاج المخاوف .. والعقاقير المهدئة لا تسبب إدماناً والطبيب يصفها لوقت محدد ثم يسحبها تدريجياً .. التوقف المفاجئ عن العقاقير يتسبب في حالة من القلق الحاد والخوف والرعب يشعر بها المريض . وقد يظن المريض حينئذ أنه أصبح مدمناً لا يستطيع الاستغناء عن المهدئات . ولكن الحقيقة أنه لا إدمان مع المهدئات ولكن لا يمكن التوقف عنها بشكل مفاجئ . ومضادات الاكتئاب علاج ناجح جداً للحد من المخاوف والطبيب هو الذي يحدد نوع العقار والجرعة ومدة الاستعمال وطريقة السحب .
ولكن لابد من مساهمة الأهل وصبرهم وعدم ضغطهم على المريض ومن منا لا يخاف !! ومن منا لا يشعر بالقلق أحياناً وبدون سبب .. ومن منا لا يهاجمه الوسواس أو بشأن صحته أو بشأن أشياء تافهة !! من منا لا تطارده أحيانا الأفكار السوداء التشاؤمية حتى تستهلك جزءا من وقته وأعصابه .. ولكن الخوف الذي يشعر به كل إنسان قد ينقلب إلى مرض .. مرض يسبب عذاباً ويحتاج إلى علاج ومساندة إنسانية .
" من كتاب إعرف نفسك ط2 1997، للمؤلف "