محطات التمييز العنصري.. والاضطهاد.. ورئاسة الدولة.. والتكريم العالمي، لا تمثّل مجرّد محطات في حياة شخصية سياسية متميّزة عرفها النصف الثاني من القرن الميلادي العشرين فحسب، بل هي في الوقت نفسه رموز مميّزة لطبيعة التطوّرات التاريخية التي شهدتها تلك الحقبة، وعندما تخلّى نيلسون مانديلا عن ترشيح نفسه لرئاسة ثانية في آيار/ مايو 1999م، بعد بلوغه الثمانين من عمره آنذاك، كان واضحا أن ذلك لن ينهي حقبة سياسية في حياة شخصية سياسية، كما هو الحال مع كثيرين سواه، يعلمون أنّ النسيان -على الأقل- يطوي ذكرهم عند فراقهم السلطة.
محطات في حياة مناضل
نيلسون مانديلا من مواليد بلدة صغيرة تُدعى "قونو"، ولد في الثامن عشر من تموز/ يوليو عام 1918م، وكان من الأطفال السود القلائل الذين استطاعوا زيارة المدرسة الابتدائية فالثانوية، ثم الجامعة في كلية فورت هاري، وقد طرد منها بسبب مشاركته في الاحتجاجات الطلابية على سياسة التمييز العنصري، فأكمل دراسته بالمراسلة في "يوهانس بورج"، وهناك كان أيضا من السود القلائل الذين استطاعوا مزاولة مهنة المحاماة في ظل الحكم العنصري.
وأثناء دراسته الجامعية انضمّ عام 1942م إلى حزب المؤتمر الوطني الإفريقي، ولم يلبث أن لعب دورا حاسما في تحويل الحزب إلى حركة جماهيرية شاملة لمختلف فئات السود، فقد أسس منذ البداية مع مجموعة من الساسة الشباب رابطة الشبيبة التابعة للحزب، والتي دخلت في معركة مع قادته التقليديين، فطرحت أفكارا جديدة، صعدت القيادات الشابة معها تدريجيا حتى أصبحت اللجنة المركزية للحزب في يدها، ودخل مانديلا نفسه عضوا فيها عام 1950م، فكان عقد الخمسينيات من بعد حافلا بجهود مكثفة لتنفيذ الأفكار التي طرحها مع أقرانه، وسرعان ما تعرّض للسجن والنفي والعقوبات المختلفة، وهو ما ساهم في وضعه خطة جديدة للعمل السري، بعد أن أصبح حظر العمل العلني لحزب المؤتمر الوطني منتظرا.
هذا ما وقع فعلا بعد مذبحة "شاربفيل" عام 1960م، فانتقل الحزب إلى العمل السري، كما بدأ تشكيل جناح عسكري مسلّح، كان مانديلا يقول عنه إنّه كان الوسيلة البديلة أو الاحتياطية عندما تغلق الحكومة العنصرية سائر أبواب العمل السلمي، وشارك نيلسون مانديلا في قيادة الجناح العسكري، وفي تأمين الدعم له من خارج جنوب إفريقيا بالمال والتدريب والسلاح، وعند عودته من رحلة قام بها إلى الجزائر اعتقل، فحكم عليه في تشرين الثاني/ نوفمبر عام 1962م بالسجن لخمس سنوات، وبعد ثلاثة أعوام حوكم -وهو في السجن- مرة أخرى فحكم عليه بالسجن المؤبّد، فتحوّل منذ ذلك الحين إلى الرمز العملاق السجين لمقاومة التمييز العنصري.
لم ينقطع ذكر مانديلا ولا انقطعت مسيرة الاضطهاد والمقاومة في جنوب إفريقيا، ومكث في السجن 28 عاما متواصلة، حتى خرج عام 1990م وتمت المصالحة مع الأقلية البيضاء الحاكمة، أو تم استسلامها للأمر الواقع، مع حرص مانديلا على ألا يتحوّل بلده إلى "ساحة انتقام"، وهو ما لعب دورا في حصوله مع "دي كليرك" آخر رؤساء حكومة أقلية بيضاء، على جائزة نوبل للسلام عام 1993م.
وكان مانديلا قد استلم رئاسة المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1991م، ليقوده في أوّل انتخابات حرّة في بلده عام 1994م، ويستلم منصب الرئاسة في العاشر من آيار/ مايو من العام نفسه، وقد وضع حجر الأساس لمسيرة بلده خلال الأعوام التالية، ليعتبر دوره في السلطة منتهيا بعد ذلك، فقد تخلّى عن رئاسة الحزب عام 1997م، ورفض ترشيح نفسه مرة ثانية لرئاسة البلاد عام 1999م، وبقي دوره مطلوبا على المستوى الإفريقي والدولي طوال السنوات التالية، ووجد التكريم في كل مكان، حتى أنّه حصل على الدكتوراه الفخرية من خمسين جامعة في أنحاء العالم، وبقي بعد أن تقدّم به السنّ يستيقظ يوميا في الرابعة والنصف صباحا، ويعمل اثنتي عشرة ساعة يوميا، ويؤكّد أنّه لا يجد مكانا أجمل من بيته مع أحفاده، ويحرص على سماع الموسيقى الكلاسيكية الأوروبية وموسيقى كورال الإفريقية
معركة محلية.. وخلفية دولية
نيلسون مانديلا الذي احتفل لتوه ببلوغه التسعين من عمره، فاحتفل معه العالم، هو نيلسون مانديلا نفسه الذي قضى 28 عاما في السجن، والعالمُ يتعامل مصلحيا مع سجّانيه من ممارسي التمييز والاضطهاد العنصري، من القلّة البيضاء الحاكمة حكم "استعمار استيطاني" جثم أكثر من مائة وخمسين عاما على صدور الغالبية السوداء في جنوب القارة الإفريقية.
ولعل من أبرز الميزات التي أظهرتها حياته السياسية
1- التصميم.. فعندما بدأ دراسته الجامعية في كلية فورت هاري، أبى أن يبقى بمعزل عن الأحداث المأساوية في بلده، وتحرّك سياسيا رغم انتشار أبشع ألوان القمع والاضطهاد المقنّن من جانب الحكم العنصري، ولما طُرد من الجامعة، أثبت لنفسه وأقرانه ما يعنيه التصميم بمتابعته الدراسة بالمراسلة في يوهانسبورج.
2- النظرة الثاقبة.. وقد تمتّع بها وهو في مطلع الثلاثينيات من عمره، عندما أدرك عدم جدوى الأسلوب التقليدي للعمل الذي التزمت به قيادة "حزب المؤتمر الوطني الإفريقي" للسود آنذاك، ومع ذلك لم يلجأ إلى أسلوب "الفتنة الداخلية" في الحزب، بل أوجد البديل العملي المقنع، فأسس في أيلول/ سبتمبر عام 1944م مع زهاء ستين شابا آخرين ما عرف برابطة الشبيبة داخل حزب المؤتمر، فأثبتت وجودها من خلال إنجازاتها العملية، ولم تمض سنوات ستّ إلا وأصبحت القيادات الشابة الناشئة في مواقع قيادة المؤتمر الوطني الإفريقي نفسه، وفيهم مانديلا وهو في الثامنة والثلاثين من عمره، ونفّذوا على الفور "برنامج العمل" الذي وضعته الرابطة، فحوّلت الحزب إلى "حركة جماهيرية" شاملة.
3- الهدف البعيد المدى.. فإلى جانب العمل السياسي اليومي وصعوده وهبوطه حسب الظروف، تبنّى مع أقرانه من بداية مكافحة التمييز العنصري، هدفا اعتبره هو الهدف الحاسم في صناعة مستقبل آخر في بلاده، وهو "الوصول بالتعليم إلى كلّ طفل أسود.. ومكافحة الأمية بين الكبار"، ولم يمنعه العمل للوصول لهذا الهدف البعيد من تأسيس الركيزة الثالثة، بتكوين نواة القوّة المسلّحة لحركته، وقد أدرك أنّ التمييز العنصري لن يزول إلا إذا توافرت القوّة اللازمة من وراء الأهداف المشروعة لتحرير السود من الاضطهاد، وإن لم يتمّ استخدامها.
4- الإمكانات الذاتية.. فقد كان القاسم المشترك في هذه الميزات الثلاث الحاسمة في شباب مانديلا السياسي، أنّها جميعا اعتمدت على القليل من الإمكانات الذاتية المتوافرة، وعلى تطويرها، وإيجاد المزيد، وهو يعلم أنّه لا يواجه في جنوب إفريقيا القلّة البيضاء العنصرية فحسب، بل يواجه من وراء ذلك ارتباطاتها الاقتصادية والعسكرية والسياسية الواسعة النطاق، بالقوى الغربية على وجه التخصيص، وهذا في مرحلة الحرب الباردة التي تميّزت بعدم استعداد الغرب للتخلّي طواعية عن موقع من المواقع التي يعتمد عليها في صراع النفوذ بينه وبين المعسكر الشيوعي في الشرق.
لقد كانت دولة العنصريين البيض في جنوب إفريقيا -بعد روديسيا- أحد المعاقل الأخيرة التي أفرزتها حركة الاستعمار الأوروبي الاستيطانية في أنحاء العالم، والتي شكّلت النواة الأولى لما يسمّى "حضارة الرجل الأبيض"، حتّى أصبح ذلك "الاستيطان" القائم على اغتصاب الأرض بالقوّة، وتشريد السكان الأصليين، والاستيلاء على الثروات، ركنا أساسيا من أركان الفكر "الحديث" في الغرب، ومصدرا باطلا من مصادر تشكيل بنية جديدة للقانون الدولي التطبيقي، وأصبحت ترتكز إليه النظريات المطروحة لتشكيلات النظام العالمي على المستويات الاقتصادية والسياسية، رغم تناقض ذلك جميعه تناقضا صارخا مع ما تزعمه "حضارة الرجل الأبيض" لنفسها أنّها وصلت بالحقوق والحريات الإنسانية والمثل الديمقراطية إلى ذروة ما عرفته البشرية، وما ينبغي أن تلتزم به في كلّ مكان.
لم يكن النضال المحليّ في جنوب إفريقيا ضد الحكم العنصري مقتصرا على مقاومة ما تتعرّض له غالبية السكان من اضطهاد فحسب، بل كان أيضا نضالا ضدّ ذلك التزييف والانحراف على المستوى العالمي، وضدّ أحد المرتكزات الرئيسية لممارسة "الاستبداد الدولي" في النظام السياسي العالمي الناتج عن الحرب العالمية الثانية، وضدّ الاستعباد الذي يمثّل أقصى ما وصلت إليه أشكال الاستغلال المادي باسم النهضة الاقتصادية العالمية الحديثة
السجين.. الأشهر عالميا
هذا ممّا يبيّن أهميّة ميزات الشخصية القيادية التي تمتّع بها نيلسون مانديلا وجعلته الأشهر عالميا من بين سجناء الرأي أو السجناء السياسيين.. وهو ما ترمز إليه العبارات الأخيرة من كلمته التي ألقاها في الدفاع عن نفسه أمام محكمة الأقلية البيضاء التي أودعته السجن: "إنّني أناضل ضدّ هيمنة البيض، وأناضل ضدّ هيمنة السود، وأدعو إلى القيم الديمقراطية والمجتمع الحر، الذي يتعايش فيه الجميع معا، وذاك ما آمل في العيش لتحقيقه، وما أنا على استعداد عند الضرورة للموت من أجله".
ثلاثة عقود تقريبا قضاها مانديلا في السجن، لم يؤثّر فيها على أقرانه فقط، بل على سجّانيه أيضا حتى نشأت بينه وبينهم علاقات "وديّة"، وهذا ما أثّر بدوره على "الرأي العام العالمي" فأصبح من مصادر الضغط على الحكومات الغربية، التي لم تتخلّ عن علاقاتها الاقتصادية والمالية بالعنصريين البيض، ولكنّها أصبحت مضطرة يوما بعد يوم إلى التخلّي السياسي عنهم عالميا، فأصبحت حكومة بريتوريا في "سجن كبير" موصد الأبواب، حتى داخل جنوب إفريقيا نفسها، ربّما باستثناء الباب الذي أبقاه مانديلا مفتوحا للتفاهم، وهو ما حرص عليه رغم ما ساد في المؤتمر الوطني الإفريقي نفسه من اتجاهات تدعو إلى استخدام العنف، تبنّاها بعض رفاق طريقه بالأمس، وفيهم زوجه.
هذا ممّا صنع التحوّل في تاريخ التمييز العنصري مع حلول يوم 11/2/1990م وإطلاق سراح مانديلا على أساس المفاوضات التي أجراها معه دي كليرك.
لم تشهد جنوب إفريقيا تيّار الدماء الذي كان يلوّح به "البيض" فيها وفي الغرب، ولم تشهد الانتقام الجماعي لمئات الآلاف من ضحايا الحكم العنصري، فلم يكن "التسامح" الذي دعا إليه مانديلا من البداية مجرّد شعار مؤقّت، بل كان منهجا تبنّاه، واستطاع من خلال زعامته الشعبية أن يحدّ به الرغبة في الانتقام التي كان يمكن فهم أسبابها لو انتقلت إلى أرض الواقع، وبقي مانديلا على ذلك طوال فترة رئاسته، حتى كانت وصيّـته الرئيسية لخلفه "تابو مبيكي" وهو يتخلّى لصالحه عن رئاسة المؤتمر الوطني الإفريقي عام 1997م، أنّ "عليه الحرص حرصا شديدا على ألا يستغلّ منصبه للتخلّص من خصومه، وعلى الالتزام بالأرضية المشتركة رغم خلافات الرأي".
هذا رغم الكشف التدريجي في ظلّ سيادة القانون على "حجم الجرائم" المرتكبة في العقود الماضية، كما ورد في تقرير "لجنة الحقيقة والمصالحة" ومن ذلك مثلا التجارب التي أجريت في مخابر كيميائية وحيوية بهدف القيام بحملات إبادة ضدّ السود، واستخدام السموم على نطاق واسع في الأغذية والأدوية، واللجوء إلى مواد تحدّ من المواليد السود، بل التفكير باستخدام القنابل النووية لإبادتهم.
وانقلبت الحكومات والمؤسسات الغربية بين ليلة وضحاها، فإذا بالسجين المنسيّ يحصل على ألوان من التكريم لم يحصل سواه عليها، حتى إذا وصل إلى منصب الرئاسة في 10/5/1994م إذ بالشركات الغربية التي لم ينقطع تعاونها مع العنصريين البيض، على استعداد -جزئي على الأقل- للتعاون مع الحكومة الجديدة في بلد يمتلك ثروات أرضية كبرى من الذهب واليورانيوم والنحاس والفحم الحجري وغيره.
جنوب إفريقيا بعد مانديلا
تجدّد الحديث من اللحظة الأولى بعد غياب مانديلا عن سدّة الرئاسة حول المخاوف من تدهور العلاقات بين السود والبيض من جديد، ولعلّه كان في حينه الرئيس الوحيد من بين حكام عاصروه، الذي لم يحرص كما حرصوا على أن يكون "هو" من يقود بلاده عبر بوابة الألفية الميلادية الثالثة.
وقد بقيت المعطيات لتدهور العلاقات بين السكان متوفرة لفترة لا بأس بها، فمن صفوف البيض كان يوجد من لا يزال ينطلق من منطق الاستعلاء على "الإنسان الأسود" وهو ما عبّر عنه أحد كتّابهم في حينه "ريان مالان" بقوله: "إنّهم يريدون إذلالنا وتخويفنا، وإلا فكيف يتجرّأ رئيس لجنة الحقيقة والمصالحة على مطالبتي بالاعتذار لأنّني أبيض البشرة، ويزعم أنّ سلامتي معلّقة بذلك" وبالمقابل لا تخلو صفوف "السود" من مواقف متشدّدة، وكأنّ أصحابها كانوا ينتظرون خلوّ الساحة من مانديلا -كزوجته السابقة وينّي مانديلا- التي لم تتخلّ عن "نشاطاتها" في المؤتمر الوطني الإفريقي.
وقد أخذ بعض الناقدين على مانديلا أنّه لم يستطع تنفيذ ما أعطاه من وعود في انتخابات الرئاسة أن يحصل كلّ فرد في بلده على ما يحتاج إليه من أسباب الحياة المادية الكريمة، وأن يعمل على التخلّص من البطالة المرتفعة، ومن الجهل المنتشر، وغير ذلك ممّا رسّخه النظام العنصري على امتداد عشرات السنين الماضية، ولا يوجد ما يستدعي الدفاع عن مانديلا أو المشاركة في الانتقادات الموجّهة إليه، ولكن ألا يُستغرب أن يُنتظر منه تحقيق "المعجزات" الاقتصادية وغير الاقتصادية في بلاده خلال بضع سنوات فقط؟ ثمّ هل يمكن أن يحقّق هو أو سواه من "الوعود" الأقرب إلى أهداف وطنية مشتركة، إلاّ بمقدار ما تتلاقى عليه الجهود لتحقيقها على أرض الواقع؟
واجهت جنوب إفريقيا بعد فترة رئاسة مانديلا مشكلات كانت شخصيته الطاغية شعبيا تواريها عن الأنظار، وقد تواجه المزيد، إنّما لا تقتصر الأسباب على ما قام به أو ما عجز عن تنفيذه، عندما كان يعمل في سدّة الرئاسة 12 ساعة، ولكن تعود إلى المعطيات التي خلّفها عهد التمييز العنصري أولا، والمعطيات الدولية الجديدة التي يراد ترسيخها في عصر العولمة ثانيا، ولا يغيّر هذا أو ذاك من حقيقة أنّ نيلسون مانديلا المناضل في شبابه، والسجين لما يتجاوز ثلث عمره، والرئيس المتسامح مع أعدائه، كان رمزا بارزا من الرموز الإيجابية النادرة في القرن الميلادي العشرين، الذي عرف في ظلّ "حضارة الإنسان الأبيض" أمثال ستالين وهتلر وموسوليني، وأمثال ميلوسوفيتش ونيتانياهو وشارون، ولم يعرف أمثال مانديلا، وعرف حربين عالميتين وحروبا أشعل أوارها صراع النفوذ، وأسقطت 170 مليون نسمة في ستين عاما مضت، ولم يعرف ما تعنيه كلمة "التسامح السياسي" كما طبّقها السياسي "الأسود" العجوز من جنوب القارة الإفريقية.