من مقاصد الحج العظيمة أن يتربى الناس على ترك الترفّه والتوسع في المباحات؛ ولذا يتخفف الحاج من ثيابه إلا ثياب النسك، إزار ورداء مجردان، ليس فيهما زينة ولا تكلف.
وهو تذكير بالفقر المطلق للعبد، وخروجه من الدنيا كما دخلها أول مرة، بما يدعو إلى الاستعداد للقاء الله.
ومن هذا الباب – والله أعلم – جاء النهي عن التطيب، والأمر بترك الأظفار والشعر، وتجنب الوصال الجسدي مع المرأة بالجماع، وترك دواعيه وأسبابه من عقد النكاح فما بعده...
ومع هذا جعل الله في الحج سعة لا توجد في غيره من العبادات، ومن هذا ما رواه البخاري ومسلم من حديث عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ في حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ، فَجَاءَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ. فَقَالَ: (اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ). فَجَاءَ آخَرُ فَقَالَ: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي. قَالَ: (ارْمِ وَلاَ حَرَجَ). فَمَا سُئِلَ النَّبيُّ- صلى الله عليه وسلم- عَنْ شَيْءٍ قُدِّمَ وَلاَ أُخِّرَ إِلاَّ قَالَ: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.
وهكذا يحسن أن يكون شعار المفتي فيما لا نص فيه، أو في جنس ما أفتى به النبي [صلى الله عليه وسلم]: افْعَلْ وَلاَ حَرَجَ.
والسنة المحمدية تجمع التيسيرات التي تفرقت في كتب الفقه؛ فإن من العلماء من يأخذ بهذه الرخصة، ولا يأخذ بالأخرى، ومنهم من يأخذ بغيرها ويدعها، بينما السنة وسعت ذلك كله.
فمن قدّم أو أخّر في أعمال يوم النحر فلا حرج عليه.
وهذا لا يوجد في غير الحج، فلو قدّم الركوع على السجود، أو القعود على القيام في الصلاة لما صحت صلاته إجماعاً.
وهكذا ما يتعلق بالنية، وهي من أعظم شروط العبادة، فالحاج ينويه فريضة فينقلب إلى نافلة كمن قال: سأحج هذا العام نفلاً للتدريب، وأجعل فرضي عاماً آخر، فيقع حجه فرضاً شاء أم أبى، ولا عبرة بنيته.
ومثله لو حج حجًّا لم يرق له وفرّط وضيّع، وقال: أجعله نافلة، وأجعل حجي هذا العام فريضة، فسيكون ما نواه نفلاً هو الفريضة، وما نواه فرضاً هو النافلة خلافاً لقصده, وقد ينوي الحج عن غيره فيقع عنه هو كمن نواه عن فلان وهو لم يؤد الفريضة، ولا عذر له، وفي حديث ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ النَّبِيَّ -صلى الله عليه وسلم- سَمِعَ رَجُلاً يَقُولُ لَبَّيْكَ عَنْ شُبْرُمَةَ. قَالَ: ( مَنْ شُبْرُمَةَ؟) قَالَ: أَخٌ لِي أَوْ قَرِيبٌ لِي. قَالَ: (حَجَجْتَ عَنْ نَفْسِكَ؟) قَالَ: لاَ. قَالَ: (حُجَّ عَنْ نَفْسِكَ ثُمَّ حُجَّ عَنْ شُبْرُمَةَ ).رواه أبو داود, وابن ماجه، وفي الحديث نظر والأقرب أنه موقوف.
وفي مسألة الحج عن الغير قبل النفس خلاف مشهور.
وقد يحرم بنسك مبهم غير معين، كما أحرم علي –رضي الله عنه- فيما رواه البخاري ومسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ - رضي الله عنه – قَالَ: قَدِمَ عَلِي - رضي الله عنه - عَلَى النَّبِي - صلى الله عليه وسلم - مِنَ الْيَمَنِ فَقَالَ: (بِمَا أَهْلَلْتَ؟). قَالَ: بِمَا أَهَلَّ بِهِ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: (لَوْلاَ أَنَّ مَعِي الْهَدْيَ لأَحْلَلْتُ، فَأَهْدِ وَامْكُثْ حَرَامًا كَمَا أَنْتَ).
وحتى محظورات الحج فيها توسعة.
فحلق الرأس محظور بالكتاب والسنة والإجماع، وإذا احتاج إليه حلق وفدى، كما في البخاري ومسلم من قصة كعب بن عجرة –رضي الله عنه- قَالَ: أَتَى عَلَيَّ النَّبيُّ - صلى الله عليه وسلم - زَمَنَ الْحُدَيْبِيَةِ ، وَالْقَمْلُ يَتَنَاثَرُ عَلَى وَجْهِي فَقَالَ: (أَيُؤْذِيكَ هَوَامُّ رَأْسِكَ؟). قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ : (فَاحْلِقْ، وَصُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ، أَوْ أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ، أَوِ انْسُكْ نَسِيكَةً).
- وكذلك التوسعة في لبس الإزار ولو كان مخيطاً، لكن ليس على هيئة السراويل, بل تخاط تكة ويرسل دون أن يفصل منه كم عن آخر وقد حكى ابن تيمية الإجماع على جوازه.
والأصل في ذلك ما رواه البخاري ومسلم عَنِ ابْنِ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِ صلى الله عليه وسلم أَنَّ رَجُلاً سَأَلَهُ مَا يَلْبَسُ الْمُحْرِم؟ُ فَقَالَ : ( لاَ يَلْبَسِ الْقَمِيصَ, وَلاَ الْعِمَامَةَ, وَلاَ السَّرَاوِيلَ, وَلاَ الْبُرْنُسَ, وَلاَ ثَوْبًا مَسَّهُ الْوَرْسُ, أَوِ الزَّعْفَرَانُ، فَإِنْ لَمْ يَجِدِ النَّعْلَيْنِ؛ فَلْيَلْبَسِ الْخُفَّيْنِ, وَلْيَقْطَعْهُمَا حَتَّى يَكُونَا تَحْتَ الْكَعْبَيْنِ). والمقصود بالمخيط هو ما عبَّر عنه بعضُ الفقهاءِ بقولهم: ( الْمَخِيط الْمُحِيط ) أي: بالبدنِ, أو العضوِ. وإن كانت الكلمة لم ترد في القرآن, ولا في السنة بهذا الاصطلاح، وقد وقع بها لبس عند البعض فقالوا: كل مخيط لا يلبس, والعلة هي الخياطة.
وهذا غلط, فلو انشق الإزار, أو الرداء اللذان يلبسهما فخاطهما, ثم لَبِسَهُما فلا شيء عليه بالاتفاق.
فهناك توسعة وإذن شرعي في لبس المخيط الذي يكون إزاراً في أسفل البدن، فما كان يسمى: إزاراً, وأزره, أو ما يسميه أهل نجد (وَزْرَة) فإنه يجوز لبسه حال الإحرام.
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في شرح العمدة (ج 3، ص 34): أن فتقَ السراويلِ يجعلُه بمنزلةِ الإزارِ, حتى يجوز لبسُه, مع وجودِ الإزارِ بالإجماعِ. وقال في شرح العمدة (3/16): "أَمّا إِن خِيطَ أَو وُصِلَ لا لِيُحِيطَ بِالعُضوِ ويكون على قَدرِهِ؛ مثل: الإزارِ والرداءِ الموصلِ, والمرقعِ, ونحو ذلك فلا بأس به، فإنّ مَناطَ الحكمِ هو اللباسُ المصنوعُ على قدرِ الأعضاءِ، وهو اللباسُ المحيطُ بالأعضاءِ, واللباسُ المعتادُ".
وفي المجموع للنووي ( ج 7 ص 264 ) والمغني لابن قدامة ( ج 3 ص 127) وغيرهما قريب من هذا.
- وكذلك لبس الخفين إذا لم يجد النعلين وفي مشروعية قطعهما حتى يكونا أسفل من الكعبين نزاع بين أهل العلم، فعدم مشروعية القطع هو المشهور عن أحمد. وقطعهما مذهب الجمهور. واحتج أحمد بحديث ابن عباس وجابر -رضي الله عنهما- (مَنْ لَمْ يَجِدْ نَعْلَيْنِ فَلْيَلْبَسْ خُفَّيْنِ) فليس فيهما قطع الخف. مع قول علي - رضي الله عنه -: قطع الخفين فساد, يلبسهما كما هما. مع موافقة القياس فإنه ملبوس أبيح للحاجة فأشبه السراويل وقطعه إتلاف للمال.
- وثمت أمور يتورع عنها بعض الناس، وقد يذكرها من الفقهاء من يذكرها بدون دليل، فالأصل التوسعة على الناس فيها، ومن ذلك: ترك الاغتسال أثناء الإحرام مع جواز ذلك، حتى قال أحد الصحابة: إني اغتسلت في إحرامي في يوم واحد سبع مرات.
وعن يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّهُ قَالَ: بينما عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يغتسل إلى بعير وأنا أستر عليه بثوب إذ قال عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: يا يعلى اصبب على رأسي. فقلت: أمير المؤمنين أعلم فقال عمر بن الخطاب رضي الله: وَاللَّهِ مَا يَزِيدُ الْمَاءُ الشَّعَرَ إِلاَّ شَعَثًا، فَسَمَّى اللَّهَ ثُمَّ أَفَاضَ عَلَى رَأْسَهِ. رواه مالك والشافعي والبيهقي في السنن الكبرى.
يريد رضي الله عنه أن غسل الرأس بالماء ليس طيباً ولا بمعناه، وإنما هو تنظيف محض.
ومثله أن عمر –رضي الله عنه- كما ذكره ابن حزم في المحلى (7/174) وغيره "كان يترامس هو وابن عباس أو يتباقون في الماء" أي: يغوصون في الماء، ويتنافسون أيهم أكثر بقاءً دون أن يتنفس.
وروى البيهقي في السنن الكبرى عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ: أَنَّ عَاصِمَ بْنَ عُمَرَ وَعَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ وَقَعَا فِي الْبَحْرِ يَتَمَاقَلاَنِ يُغَيِّبُ أَحَدُهُمَا رَأْسَ صَاحِبِهِ وَعُمَرُ يَنْظُرُ إِلَيْهِمَا فَلَمْ يُنْكِرْ ذَلِكَ عَلَيْهِمَا.
وأنت تلحظ في هذا نوع دعابة وتبسط من الخليفة العظيم عمر الفاروق مع شاب كابن عباس، حرصاً على القرب من مشاعر الشباب وأحاسيسهم وعواطفهم وميولهم، وهذا من الحصافة والفقه والمعرفة وبناء الصلة بين الأجيال؛ لئلا يقع الانقطاع بين الشيوخ والشباب.
وكم هو عجيب أن يقع هذا وذاك من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم محرمون، ولم يروا به بأساً، وكانوا كما وصفهم ابن مسعود أقل هذه الأمة تكلفاً, وقد فتحوا الدنيا، ونشروا العدل، وأقام الله لهم الملة. وهم هكذا بكل عفوية وفطرية يفتقدها اليوم الكثير من المربين فضلاً عن غيرهم، وربما تدينوا بتركها, أو رأوا فيها ما يدل على خفة فاعلها أو نقص رزانته!
بل قد روى البخاري ومسلم عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَالْمِسْوَرِ بْنِ مَخْرَمَةَ أَنَّهُمَا اخْتَلَفَا بِالأَبْوَاءِ. فَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ: يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. وَقَالَ الْمِسْوَرُ: لاَ يَغْسِلُ الْمُحْرِمُ رَأْسَهُ. فَأَرْسَلَنِي ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي أَيُّوبَ الأَنْصَارِي أَسْأَلُهُ عَنْ ذَلِكَ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ بَيْنَ الْقَرْنَيْنِ وَهُوَ يَسْتَتِرُ بِثَوْبٍ. قَالَ : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ. فَقَالَ: مَنْ هَذَا؟ فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ حُنَيْنٍ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسٍ أَسْأَلُكَ كَيْفَ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- يَغْسِلُ رَأْسَهُ وَهُوَ مُحْرِمٌ؟ فَوَضَعَ أَبُو أَيُّوبَ - رضي الله عنه - يَدَهُ عَلَى الثَّوْبِ فَطَأْطَأَهُ حَتَّى بَدَا لِي رَأْسُهُ ثُمَّ قَالَ لإِنْسَانٍ يَصُبُّ: اصْبُبْ. فَصَبَّ عَلَى رَأْسِهِ ثُمَّ حَرَّكَ رَأْسَهُ بِيَدَيْهِ فَأَقْبَلَ بِهِمَا وَأَدْبَرَ ثُمَّ قَالَ: هَكَذَا رَأَيْتُهُ -صلى الله عليه وسلم- يَفْعَلُ. فهذا كله من التوسعة.
ومن ذلك اللَّبس الذي يقع عند بعض الناس من الخلط بين المنع من التطيب بعد الإحرام، وهو من محظورات الإحرام والتطيب عند الإحرام، وهو من السنن النبوية الكريمة، وقد تطيب النبي - صلى الله عليه وسلم - عند إحرامه بأطيب الطيب حتى روى مفارق شعره بالطيب، فكان وبيص الطيب يرى في مفارقه بعد ذلك وهو محرم، وذلك ليبقى الحاج أثناء إحرامه على حال حسنة، ورائحة زكية، واستدامة الطيب بعد الإحرام أمر محمود، وإنما المحظور التطيب بعد عقد نية الإحرام.
ومثل ذلك: شم الريحان، كما قال ابْنُ عَبَّاسٍ - رضي الله عنهما - يَشَمُّ الْمُحْرِمُ الرَّيْحَانَ وَيَنْظُرُ فِي الْمِرْآةِ ، وَيَتَدَاوَى بِمَا يَأْكُلُ الزَّيْتَ وَالسَّمْنَ.
وَقَالَ عَطَاءٌ يَتَخَتَّمُ وَيَلْبَسُ الْهِمْيَانَ.والهِميان: بكسر الهاء معرب يشبه تكة السراويل يجعل فيها النفقة ويشد في الوسط.
وَطَافَ ابْنُ عُمَرَ - رضي الله عنهما - وَهُوَ مُحْرِمٌ، وَقَدْ حَزَمَ عَلَى بَطْنِهِ بِثَوْبٍ.
ولم تر عائشة - رضي الله عنها - بالتبان بأساً للذين يرحلون هودجها. رواه البخاري معلقاً في باب الطيب عند الإحرام وما يلبس إذا أراد أن يحرم ويترجل ويدهن. ورواه والبيهقي في السنن الكبرى وابن أبي شيبة في مصنفه.
والتبان: هو اللباس الداخلي الذي ليس له أكمام فهو يستر العورة المغلظة فحسب، وفيه اختلاف.
قال ابن حجر في فتح الباري ج3/ص397: وكأن هذا رأي رأته عائشة ( أي: جواز لبسه) وإلا فالأكثر على أنه لا فرق بين التبان والسراويل في منعه للمحرم.
وسُئل عثمان - رضي الله عنه -: أيدخل المحرم البستان ؟
قال: نعم ويشم الريحان!
ودخل ابن عباس –رضي الله عنهما- حمام الجحفة وهو محرم، فقال: إن الله لا يصنع بأوساخكم شيئاً.رواه ابن أبي شيبة في مصنفه.
وقال أيضاً: المحرم يشم الريحان، ويدخل الحمام. رواه البيهقي في السنن الكبرى
والحمام هنا: ليس مكان قضاء الحاجة؛ بل هو المكان الحار الذي يزيل الوسخ عن البدن بواسطة حرارة البخار كما يعرف اليوم بـ(الساونا والجاكوزا) وغيرها، فالنظافة والجمال وطيب البدن مطالب فاضلة للحاج وغيره، إلا ما ورد النص على النهي عنه.
ومثله التبرد بالماء البارد أو المكيف أو المروحة، أو الاستظلال بشجرة أو سيارة أو سقف أو شمسية فهو حسن، ولا يشرع تجنبه، ولو حمل على رأسه شيئاً لم يضره؛ لأنه لم يقصد التغطية.
ومن الطريف أن رجلاً سأل الشعبي أيحك المحرم جلده؟ قال: نعم. قال: مقدار كم؟ قال: إلى أن يبدو العظم!
من التيسير جواز الأنساك الثلاثة ( التمتع، والإفراد، والقران ) وهذا إجماع أو شبهه عند أهل العلم.
وقد ذهب الشيخ الألباني إلى وجوب التمتع، ونسبه لابن عباس وغيره، ولا أراه يصح عن ابن عباس أن يقول بالتحريم على وجه الإطلاق، وهو لا يرى العمرة للمكي، ومعناه أن المكي لا يتمتع.
وقال قوم إن الأنساك الثلاثة سواء في الفضيلة، والأجود: إن القران أفضل لمن ساق الهدي، وإن من أدى العمرة في أشهر الحج ثم رجع إلى أهله فالأفضل في حقه الإفراد، وهذا خلاصة ما قرره جمع من أهل العلم.
والمقصود: أن في الأمر سعة, ولا تثريب في ذلك, وعلى المفتي أو طالب العلم أن يراعي أحوال الحجاج, وأن يجعل شعاره كما سبق (افعل ولا حرج) طالما أن في الأمر سعة ورخصة.
كما على المفتي أن يدرك اختلاف الناس وتنوع مشاربهم ومذاهبهم وأقوال المفتين لديهم, وحملهم على قول واحد أو مذهب واحد مُتعسّر بل متعذر, وسعة الشريعة لا تحكم بضيق هذا المذهب أو ذاك في بعض الفروع والمسائل.
من التيسير أن الحج له ركنان :
1- الوقوف بعرفة, وهو ركن بالإجماع، كما نقله ابن المنذر وابن قدامة وابن تيمية والنووي والدبوسي والكاساني وابن العربي، وغيرهم.
وهذا الركن يحصل أداؤه بلحظة، حتى إن من العلماء من قال: لو مر بأجواء عرفة بالطائرة أجزأه.
ولو دفع قبل الغروب أجزأه عند الأئمة, خلافاً لمالك.
قال ابن عبد البر : لا نعلم أحداً من أهل العلم وافق مالكاً على هذا.
وبعضهم يقول: عليه دم، والأقرب أن لا شيء عليه.
والدليل حديث عروة بن مضرس الطائي قال أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بِالْمَوْقِفِ - يَعْنِى بِجَمْعٍ قُلْتُ: جِئْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِنْ جَبَلِ طَيِّئٍ أَكْلَلْتُ مَطِيَّتِي وَأَتْعَبْتُ نَفْسي، وَاللَّهِ مَا تَرَكْتُ مِنْ جَبَلٍ إِلاَّ وَقَفْتُ عَلَيْهِ فَهَلْ لِي مِنْ حَجٍّ؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: ( مَنْ أَدْرَكَ مَعَنَا هَذِهِ الصَّلاَةَ وَأَتَى عَرَفَاتٍ قَبْلَ ذَلِكَ لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ وَقَضَى تَفَثَهُ ). رواه الخمسة.
فهذا دليل على أن الحاج لو دفع قبل الغروب فلا شيء عليه، وإن كنا نوجب عليه أن يقف بعرفة ولو جزءاً من الليل.
وإن أخطأ الناس العدد فوقفوا في غير يوم عرفة أي: وقفوا في اليوم الثامن مثلاً وهو يوم التروية, أو وقفوا في اليوم العاشر وهو يوم العيد على سبيل الخطأ والغلط ظنوه يوم عرفة أجزأهم ذلك إذا اتفقوا عليه وأطبقوا عليه.
قال ابن تيمية –رحمه الله-: إنه يكون عرفة ظاهراً وباطناً اليوم الذي وقفوا فيه.
والنَّبي -صلى الله عليه وسلم- يقول: ( وَفِطْرُكُمْ يَوْمَ تُفْطِرُونَ وَأَضْحَاكُمْ يَوْمَ تُضَحُّونَ، وَكُلُّ عَرَفَةَ مَوْقِفٌ، وَكُلُّ مِنًى مَنْحَرٌ، وَكُلُّ فِجَاجِ مَكَّةَ مَنْحَرٌ، وَكُلُّ جَمْعٍ مَوْقِفٌ ). رواه أبو داود والترمذي وابن ماجة من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-.
وهكذا نقول: إن ما أطبق الناس وأجمعوا عليه واتفقوا فهو مقصود الشارع ومراده، وإن كان في نظر قوم غير مطابق أو موافق للحقيقة.
2- والركن الثاني هو طواف الإفاضة، ويسمى طواف الحج والزيارة، وهو لا يكون إلا بعد الوقوف بعرفة والمبيت بمزدلفة، وهذا فيما أحسب إجماع، وهو ظاهر القرآن الكريم لقوله سبحانه: "ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ"[الحج:29].فجعل الطواف آخرها...
وقد وهم الشيخ صديق حسن خان في (الروضة الندية) حين ظن أن الطواف طواف الحج الذي هو الركن قد يكون قبل الوقوف بعرفة, واعتمد على رواية موهمة في صحيح البخاري، وإنما تردّ ألفاظ الحديث بعضها إلى بعض لمعرفة أصله, وقد يروى الحديث بالمعنى، أو يروى مختصراً.
وإنما يبدأ وقت الطواف بعد نصف الليل ( ليلة المزدلفة) باعتبار المعذورين للدفع منها من الضعفة والنساء ومن معهم أو في حكمهم.
• وهل يبدأ بعد الفجر, أو بعد نصف الليل؟ قولان للعلماء، والأمر فيها واسع لعدم توفر نص في هذه الجزئية.
• ويمكن تأخير الطواف ليكون هو وطواف الوداع شيئاً واحداً؛ ليخفف المشقة عليه، والزحام على إخوانه، ويمكن تأخيره إلى نهاية ذي الحجة، ولو فعله بعد الشهر أجزأه.
• وقد نص النووي وجماعة أنه لو نسى الإفاضة, وطاف للوداع من غير نية الإفاضة, أو بجهل بوجوب الطواف أجزأه طوافه عنهما معا. وهذا حسن وهو من التيسير والرخصة.
• ويسقط طواف الوداع عن الحائض، وهي رخصة ثابتة في السنة. وهل تشترط الطهارة للطواف؟ الجمهور يوجبونها من الحدث الأصغر والأكبر، وأجاز أبو حنيفة الطواف على غير طهارة، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختار ابن تيمية وابن القيم, عدم شرطية الطهارة، وهذا يخفف على الناس في الزحام، وصعوبة الوصول إلى أماكن الوضوء. والحديث المحتج به في الطهارة هو حديث عائشة قالت: خرجنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - لاَ نَذْكُرُ إِلاَّ الْحَجَّ، فَلَمَّا جِئْنَا سَرِفَ طَمِثْتُ، فَدَخَلَ عَلَىَّ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - وَأَنَا أَبْكِي فَقَالَ: ( مَا يُبْكِيكِ؟) قُلْتُ: لَوَدِدْتُ وَاللَّهِ أَنِّي لَمْ أَحُجَّ الْعَامَ. قَالَ: (لَعَلَّكِ نُفِسْتِ؟) قُلْتُ: نَعَمْ. قَالَ : ( فَإِنَّ ذَلِكَ شَيْءٌ كَتَبَهُ اللَّهُ عَلَى بَنَاتِ آدَمَ، فَافْعَلي مَا يَفْعَلُ الْحَاجُّ، غَيْرَ أَنْ لاَ تَطُوفِي بِالْبَيْتِ حَتَّى تَطْهُرِي) رواه البخاري.وهذا الحديث ليس نصاً في اشتراط الطهارة، وإن كنا نقول: ينبغي له أن يتطهر، لكن لو لم يتطهر وطاف، أو أحدث خلال الطواف ولم يجدد وضوءه, فلا شيء عليه.
• وما الشأن في المرأة الحائض التي لا تطهر إلا بعد وقت طويل، وقد تذهب رفقتها ويلحقها الحرج؟ فهذه أفتى فيها ابن تيمية ( الفتاوى الكبرى ج: 3 ص: 95, ومجموع الفتاوى ج: 26 ص: 176) وابن القيم, وأطال النفس في ( إعلام الموقعين ج3: ص 20) في تسويغ أن لها أن تتحفظ وتطوف للضرورة. وهو متفق مع قول الحنفية, ورواية مشهورة عند الإمام أحمد.
• ومن التيسير ما يتعلق برمي الجمار، وهو واجب عند الجمهور، لفعل النبي صلى الله عليه وسلم وقوله: (خُذُوا عَنِّي مَنَاسِكَكُمْ ). رواه مسلم واللفظ للنسائي، وقوله صلى الله عليه وسلم : ( أَمْثَالَ هَؤُلاَءِ فَارْمُوا ). رواه النسائي وابن ماجه وابن حبان والحاكم من حديث ابن عباس ومعناه في مسلم، وهو سنة في إحدى الروايات عن مالك، وقول لعائشة رضي الله عنها، والراجح الأول، أعني: الوجوب.
• لكن ما هو موضع الرمي؟ هو مجتمع الحصى الذي تتكوم فيه الجمار، سواء الحوض أو ما يحيط به مما تكون فيه الأحجار، والحوض لم يكن في عهد النبوة, ولا الخلفاء الراشدين، وقد اختلف في وقت بنائه، هل كان في عهد بني أمية، أو بعد هذا، وقد كتب فيه المتخصصون... وهنا يقول الإمام السرخسي الحنفي في ( المبسوط ج4/ص67): فإن رماها من بعيد فلم تقع الحصاة عند الجمرة فإن وقعت قريباً منها أجزأه; لأن هذا القدر مما لا يتأتّى التّحرز عنه خصوصاً عند كثرة الزحام, وإن وقعت بعيداً منها لم يجزه. وهذا كلام نفيس؛ خصوصاً في هذه الأيام التي تحول رمي الجمار فيها إلى مشكلة عويصة، وقلّ عام إلا ويسقط العشرات، بل المئات تحت الأقدام صرعى، وينقلون جثثاً هامدة! وهذا عار يلحقنا جميعاً نحن المسلمين, ويجب علينا حكاماً وعلماء وعامة أن نجاهد في سبيل تلافيه وتداركه...
ولست أدري كم يلزم أن يموت من المسلمين حتى نستيقظ ونتفطن ونغار على أرواحهم ونضع الأمر في نصابه؟! فما بال أقوام يغارون على فرعيات جرى الخلف فيها...ويغمضون عن كليات جرى الجور عليها.
إن موت المسلم عند الله عظيم، فكيف في مثل هذه المواضع المباركة التي يأمن فيها الطير!
وعبد الله بن عمر يقول رأيت رسول اللّه -صلى الله عليه وسلم- يطوف بالكعبة ويقول: ( مَا أَطْيَبَكِ وَأَطْيَبَ رِيحَكِ! مَا أَعْظَمَكِ وَأَعْظَمَ حُرْمَتَكِ! وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ لَحُرْمَةُ الْمُؤْمِنِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللَّهِ حُرْمَةً مِنْكِ مَالِهِ وَدَمِهِ وَأَنْ نَظُنَّ بِهِ إِلاَّ خَيْرًا ). رواه ابن ماجه، وقَالَ: ( لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ ). رواه النسائي والترمذي عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو.
أفلا ترى – أخي المفتي – أن الحفاظ على الدماء وعلى حياة الناس أولى بالرعاية وأحق بالتذمم؟!
ولم يتفاخر قوم أن قد رمينا وأيدينا على الحوض!
أفرمى النبي صلى الله عليه وسلم ويده على الحوض؟
في أي كتاب هذا ؟!! ولم يكن يومئذ حوض كما ذكرنا.
ومقصد الرمي ظاهر كما في قول عائشة : إِنَّمَا جُعِلَ الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ وَرَمْىُ الْجِمَارِ لإِقَامَةِ ذِكْرِ اللَّهِ.
فأين مِن ذكر الله مَن هو مشغول بنفسه, وطالب لنجاته في وسط طوفان من الناس, ماجوا وهاجوا واختلطوا, حتى لا يملك الواحد منهم من أمر نفسه شيئاً، وتحتهم أكوام من الحذاء والملابس والحجارة... والجثث أحياناً, ولا حول ولا قوة إلى بالله؟!
إنني أعلم يقينا – والله أعلم- أنه لو رأى النبي صلى الله عليه وسلم كثرة الحجيج وإهلالهم من كل فج لسره ذلك...
ولكن لو رأى هذه الفوضى – خاصة عند الجمرات – واضطراب أمر الناس والاقتتال لساءه ذلك؛ لأنه خلاف هدية وسنته، والله المستعان.
والتأكيد في بعض هذه الفروع قد يسبب الوسواس؛ فيشك الحاج هل رمي ستاً أو سبعاً، هل سقطت في الحوض أم لا ؟
حتى إن من المصنفين في الفقه من قال: لو خطفها طائر... فما هذا الطائر الحاذق يخطف حصاة في الهواء؟!
ومنهم من يقرر لو وقعت الحصاة على الأرض فضربت حصاة أخرى فطارت الأخرى ووقعت في المرمى!!
إلى غير ذلك من الافتراضات والتشقيقات التي لم ترد في كتاب ولا سنة ولا هدي صاحب.
• وللحاج أن يرمي ليلاً، وهو مذهب عبد الله بن عمر، وجمع من الصحابة رضي الله عنهم، والإمام مالك والشافعي وأبي حنيفة، والدليل على ذلك ما رواه البخاري في صحيحه عن ابن عباسٍ - رضي الله عنهما - قال سُئل النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: رَمَيْتُ بَعْدَ مَا أَمْسَيْتُ؟ فقال: (لاَ حَرَجَ). قال: حَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَنْحَرَ؟ قال: (لاَ حَرَجَ).
• وله أن يرمي قبل الزوال في سائر الأيام، وهو منقول عن ابن عباس عند ابن أبي شيبة, وعن ابن الزبير عند الفاكهي، وقول طاووس وعطاء في إحدى الروايتين عنه، ومحمد الباقر، وهو رواية غير مشهورة عن أبي حنيفة، وإليه ذهب ابن عقيل، وابن الجوزي من الحنابلة، والرافعي من الشافعية، ومن المعاصرين: الشيخ عبدالله آل محمود، والشيخ مصطفى الزرقاء، وشيخنا الشيخ صالح البليهي وطائفة من أهل العلم، وقواه الشيخ عبد الرحمن السعدي -رحمهم الله-، واستدلوا بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن الرسول – صلى الله عليه وسلم - أرخص للرعاة أن يرموا جمارهم بالليل، أو أية ساعة من النهار. أخرجه الدارقطني وفي إسناده ضعف، وله شواهد عن ابن عباس وابن عمر لا تخلو من ضعف.
قال ابن قدامة (الكافي ج1/ص453): وكل ذي عذر من مرضٍ أو خوفٍ على نفسه أو ماله كالرعاة في هذا؛ لأنهم في معناهم. اهـ.
وبما رواه البخاري ومسلم من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وَقَفَ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ بِمِنًى لِلنَّاسِ يَسْأَلُونَهُ فَجَاءَهُ رَجُلٌ فقال: لَمْ أَشْعُرْ فَحَلَقْتُ قَبْلَ أَنْ أَذْبَحَ؟ فَقَالَ: (اذْبَحْ وَلاَ حَرَجَ). فَجَاءَ آخَرُ فقال: لَمْ أَشْعُرْ، فَنَحَرْتُ قَبْلَ أَنْ أَرْمِي؟ قال: (ارْمِ وَلاَ حَرَجَ) فما سُئل النَّبي- صلى الله عليه وسلم - عن شيء قُدّم ولا أُخّر إلا قال: افعل ولا حرج.
ومن أدلتهم عدم وجود دليل صريح في النهي عن الرمي قبل الزوال، لا من الكتاب ولا من السنة ولا من الإجماع ولا من القياس.
وأما رمي الرسول – صلى الله عليه وسلم - بعد الزوال فهو بمثابة وقوفه بعرفه بعد الزوال إلى الغروب، ومن المعلوم أن الوقوف لا ينتهي بذلك الحد، بل الليل كله وقت وقوف أيضاً، ولو كان الرمي قبل الزوال منهياً عنه لبيَّنه النبي – صلى الله عليه وسلم - بياناً شافياً صريحاً حينما أجاب السائل الذي سأله عن رميه بعدما أمسى، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز.
ومن الأدلة : قول الله –تعالى-: "وَاذْكُرُواْ اللّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ"[البقرة:203]، والرمي من الذكر كما صح عن عائشة عند الدارمي وغيره، فجعل اليوم كله محلاً للذكر ومنه الرمي.
وهذا يشبه أن يكون كالنص في المسألة عند التأمل, وبه استدل الشيخ عبد الرحمن السعدي وغيره، وكذلك قول ابن عمر رضي الله عنه في رواية البخاري:"إِذَا رَمَى إِمَامُكَ فَارْمِ" لمن سأله عن وقت الرمي، ولو كان المتعين عنده الرمي بعد الزوال لبيّنه للسائل.
• وله أن يؤخر رمي الجمرات عدا يوم العيد لليوم الأخير؛ لحديث أبي البداح بن عاصم بن عدي عن أبيه أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أَرْخَصَ لِرِعَاءِ الإِبِلِ فِي الْبَيْتُوتَةِ خَارِجِينَ عَنْ مِنًى يَرْمُونَ يَوْمَ النَّحْرِ ثُمَّ يَرْمُونَ الْغَدَ وَمِنْ بَعْدِ الْغَدِ لِيَوْمَيْنِ ثُمَّ يَرْمُونَ يَوْمَ النَّفْرِ. أخرجه مالك واللفظ له، وأحمد وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي.
فيجوز لمن كان في معنى الرعاة ممن هو مشغول أيام الرمي بعمل لا يفرغ معه للرمي، أو كان منزله بعيداً عن الجمرات، ويشق عليه التردد عليها أن يؤخر رمي الجمرات إلى آخر يوم من أيام التشريق، ولا يجوز له أن يؤخره إلى ما بعد يوم الثالث عشر (آخر أيام التشريق). والرمي في هذه الحالة أداء لا قضاء وأيام التشريق كاليوم الواحد، وهذا قول الشافعية والحنابلة وأبو يوسف ومحمد بن الحسن من الحنفية وهو المعتمد عندهم، واختاره الشنقيطي –رحمهم الله-.
• وهكذا التأخير لتجنب الزحام والمشقة والاقتتال، فهو من أعظم المقاصد الفاضلة المعتبرة، وحياة الناس أولى بالرعاية من حياة الحيوان كما في حال الرعاة...
وحفظ الأرواح من المقاصد الخمسة المجمع على اعتبارها في الشريعة.
• وللضعفة والنساء أن يوكلوا غيرهم في الرمي، ولا حرج، ففي الحديث عن جابر قال: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم حُجَّاجًا, وَمَعَنَا النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ , فَأَحْرَمْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ. رَوَاهُ سَعِيدٌ, فِي سُنَنِهِ، ورواه ابن ماجه, فقال: فَلَبَّيْنَا عَنْ الصِّبْيَانِ, وَرَمَيْنَا عَنْهُمْ. ورواه الترمذي, قَالَ: فَكُنَّا نُلَبِّي عَنْ النِّسَاءِ, وَنَرْمِي عَنْ الصِّبْيَانِ.
قال ابن المنذر: كل من حفظت عنه من أهل العلم يرى الرّمي عن الصّبيّ الذي لا يقدر على الرّمي, كان ابن عمر يفعل ذلك. وبه قال عطاء, والزهري, ومالك, والشّافعي, وإسحاق.
وأعجب من إخوة غيورين لا يسمحون لنسائهم بالخروج إلى السوق لحاجة، أو الخروج لزيارة، ثم يصرّون على ذهاب النساء إلى المرمى, حيث تلتصق الأجساد, وتطير الأغطية, وتتخطف العباءات, وتتهاوى الأجساد تحت الأقدام, ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وبعض الفضلاء يُنحي باللائمة على الضحايا؛ لأنهم سذج ولا يعرفون الطرقات ولا يحسنون اختيار الوقت الملائم للرمي أي: وقت غفلة الناس وكأن من شروط الحاج أن يكون خِرّيتاً دليلاً عارفاً بالطريق مجرباً مدركاً مخطط الآخرين متى يزمعون الرمي, ومتى يكثرون, ومتى يقلون!!
• ومن ذلك أن التحلل الأول يقع برمي جمرة العقبة، فإذا رماها يوم العيد حل له كل شيء إلا النساء، وهذا مذهب مالك وأبي ثور وأبي يوسف, ورواية عن أحمد, والشافعي, وبه قال علقمة, وخارجة بن زيد بن ثابت, وعطاء.
قال ابن قدامة في المغني (ج3/ص225) : وهو الصحيح إن شاء الله تعالى.
بل عند ابن حزم: أنه يحل له ذلك بمجرد دخول وقت الرمي ولو لم يرم. وهو آخر القولين لشيخنا, الشيخ عبد العزيز بن باز, رحمه الله.
واستدلوا بما روي عن ابن عباس أنه قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- : ( إِذَا رَمَيْتُمُ الْجَمْرَةَ فَقَدْ حَلَّ لَكُمْ كُلُّ شَيْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ ). رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة وأحمد والطحاوي في معاني الآثار، وبما روي عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت: قال رسول اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-: (إِذَا رَمَى أَحَدُكُمْ جَمْرَةَ الْعَقَبَةِ فَقَدْ حَلَّ لَهُ كُلُّ شَىْءٍ إِلاَّ النِّسَاءَ). رواه أبو داود، وحديث ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما -وإن كان فيهما ضعف- إلا أنه قد صححهما بعض المعاصرين كالشيخ الألباني وغيره, و يشهد لهما فتاوى الصحابة، وحديث أم سلمة في معناهما.
• ومن الرخصة ما يتعلق بالمبيت بمنى، وقد فعله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهما، وكان جماعة من فقهاء الصحابة يرون وجوب المبيت بمنى ليالي التشريق على مَن قدر على ذلك، ووجد مكانا يليق بمثله، وهو قول الجمهور.
لكن دلت الأدلة على سقوط المبيت عمن لم يجد مكاناً يليق به، وليس عليه شيء, وله أن يبيت حيث شاء في مكة أو المزدلفة أو العزيزية أو غيرها، ولا يلزمه المبيت حيث انتهت الخيام بمنى.
وليست الطرقات والممرات بين الخيام وأمام دورات المياه والأرصفة وشعف الجبال مكاناً صالحاً لمبيت الآدميين مبيتاً يتناسب مع روح هذه العبادة العظيمة .
ومما يدل عل ذلك حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: استأذن العباس رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أن يبيت بمكة ليالي منى من أجل السقاية فأذن له. رواه البخاري ومسلم.
وإذا ثبتت الرخصة في ترك المبيت بمنى لأهل السقاية وهم يجدون مكاناً للمبيت بمنى، فمن باب أولى أنْ تثبت لمن لم يجد بمنى مكاناً يليق به، ومن ذلك أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم - أرخص لرعاء الإبل في البيتوتة خارجين عن منى، يرمون يوم النحر، ثم يرمون الغد ومن بعد الغد ليومين، ثم يرمون يوم النفر. أخرجه مالك وأحمد وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.
والذي لا يجد مكاناً يصلح للمبيت بمنى أولى بالرخصة من رعاة الإبل، وهذا ظاهر.
وهذا ابن عباس– رضي الله عنهما - يفتي الحجيج بأنه إذا كان للرجل متاعٌ بمكة يخشى عليه الضيعة إنْ بات بمنى، فلا بأس أن يـبيت عنده بمكة. أخرجه سعيد بن منصور في سننه، وغيره.
• وألحق أهل العلم بمن تقدم كلَّ من له مال يخاف ضياعه، أو أمر يخاف فوته، أو مريض يحتاج أن يتعهده، أو يلحقه ضرر أو مشقة ظاهرة.
• وفي معنى هؤلاء في جواز الترخص بترك المبيت بمنى، بل أولى به منهم من لا يجد مكاناً يليق به يبيت فيه، وكذلك من خرج ليطوف بالبيت الحرام فحبسه الزحام حتى فاته المبيت بمنى؛ فإن تخلفهما عن المبيت بمنى سببه أمر خارجي، ليس من فعلهما، ولا يستطيعان رفعه.
• ومن التيسير عدم إرهاق الحجيج بكثرة الدماء؛ فإن الفتوى أحياناً تُلزم الحاج بدم كلما ترك واجباً, بناء على أثر ابن عباس " مَنْ نَسِيَ مِنْ نُسُكِهِ شَيْئًا أَوْ تَرَكَهُ , فَلْيُهْرِقْ دَمًا " رواه مالك والبيهقي، وهو أثر صحيح، ولكنه فتوى واجتهاد, وقد كان كثير من السلف لا يُلزمون به, ولكنهم يراعون حال السائل من الغنى والفقر وغير ذلك، وقد أسقط الشارع بعض الواجبات, كطواف الوداع عن الحائض, والمبيت بمنى عن الرعاة ومن في حكمهم إلى غير بدل, ولم يلزمهم بشيء, وهذا ثابت معروف في السنة، بينما في فعل المحظور ورد حديث كعب بن عجرة في الإذن بحلق الرأس مع الفدية، ولم يثبت في السنة المرفوعة خبر في إيجاب الدم لترك الواجب, ويمكن أن يراعى في هذا أحوال الناس.
والله تعالى أعلم وأحكم.