نعمة البصر هي من أهم النعم التي أنعم بها ربنا تبارك وتعالى علينا، وهي نعمة لا تقدَّر بثمن، ولا يَعرف حقيقة هذه النعمة إلا من قد حُرمها.
ولم لا تكون من أعظم النعم وقد امتن الله تبارك وتعالى بهذه النعمة على خلقه في آياتٍ كثيرة من كتابه فقال سبحانه: {وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (سورة النحل:78), وقال سبحانه: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ} (سورة المؤمنون:78).
كما أنه لعظم قدرها عوَّض الله جل جلاله من حُرِمَها، وصَبَرَ على ذلك ولم يتضجر بالأجر العظيم كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: ((إن الله قال: إذا ابتليت عبدي بحبيبتيه فصبر عوضته منهما الجنة)) يريد عينيه. صحيح البخاري (5329).
لذا كان شكر هذه النعمة مطلوب، ومن شكرها ألا ينظر بها العبد إلى ما حُرِّم عليه, بل يستعين بهذه النعمة العظيمة على طاعة الله تبارك وتعالى، وقراءة القرآن، والتفكر في ملكوت السموات والأرض.
وفي مجمع الحج يجتمع الحُجاج من مختلف الأجناس، والأصناف، والبلدان قاصدين بيت الله الحرام، فترى الشباب والشيوخ, والذكور والإناث, لذا كان واجباً والحالة هذه التنبيه على مسألة أن يحفظ الإنسان بصره عن إطلاقه إلى الحرام امتثالاً للأمر الإلهي: {قُل لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ * وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ} (سورة النور:30-31)؛ ويزيد الأمر تأكداً عندما يكون المكان مقدساً مثل الحرم المكي، ذلك أن من النساء من تخرج مسفرة عن وجهها, ويديها, وقدميها, بل ربما تستلقي نائمة في ساحات الحرم أمام الأنظار - نسأل الله أن يهدينا جميعاً لما يحبه ويرضاه -.
والذي ينبغي على من كان هذه حالها أن تتقي الله تبارك وتعالى، ولا تتسبب في فتنة المسلمين؛ فإن فتنة النساء على الرجال عظيمة جداً كما جاء في الصحيحين من حديث أسامة بن زيد رضي الله عنهما: عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((ما تركت بعدي فتنة أضرَّ على الرجال من النساء)) رواه البخاري (4808)؛ ومسلم (2740).
كما أن على الرجل المسلم حين يقع بصره على امرأة فجأة أن يصرفه عنها فقد ثبت عن علي رضي الله عنه قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يا علي إن لك كنزاً في الجنة، وإنك ذو قرنيها، فلا تتبعن النظرة نظرة، فإن لك الأولى، وليست لك الآخرة)), وضمن النبي صلى الله عليه وسلم الجنة لمن غضَّ بصره عن الحرام كما في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ((اضمنوا لي ستاً من أنفسكم أضمن لكم الجنة: اصدقوا إذا حدثتم، وأوفوا إذا وعدتم، وأدُّوا إذا ائتمنتم، واحفظوا فروجكم، وغضُّوا أبصاركم، وكفُّوا أيديكم))
.
وليعلم الإنسان أن النظر إلى ما حرَّم الله تبارك وتعالى أصل كل فتنة، ومنجم كل شهوة، فهو رائد الشهوة ودليلها، وحفظه أصل حفظ الفرج.
ثم اعلم: أن النظر يؤثر على القلب، ويورثه الفتن، فإذا ما تعرض العبد للفتن فإن قلبه قد يزيغ ثم لا يهتدي أبداً، ولرب فتنةٌ واحدة كانت سبباً في هلكة الإنسان دهره كله.
ثم إن النظر سهم مسموم من سهام إبليس اللعين, والنظرة بمنزلة شرارة النار تُرمى في الحطب اليابس فتحرقه كله، وصدق القائل:
كـل الحوادث مبدؤها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
كم نظرة فعلت في قلب صاحبها فعل السهام بلا قوس ولا وتـر
والمـــرء ما دام ذا عين يقلبها في أعين الغيد موقوف على خطر
يســــرُّ مقلته ما ضرّ مهجته لا مــرحباً بسرور عاد بالضرر
فمن غضّ بصره عن الحرام عوَّضه الله بخير من ذلك الحرام، إذ يطلق الله نور بصيرته وقلبه ليرى به ما لم يره من أطلق بصره في المحارم، وهذا أمر يشعر به الإنسان من نفسه، فإن القلب مثل المرآة، والذنوب كالصدأ فيها, أو هو كالثوب الأبيض، والذنوب كالأوساخ, فإذا خلصت المرآة من الصدأ ظهرت فيها صور الحقائق كما هي, وإذا صدأت لم تظهر فيها الصور كما ينبغي، فيكون علمه وكلامه من باب الخوض والظنون.
أخي الحاج الكريم: هذه دعوة لنا جميعاً أن نراقب الله تبارك وتعالى حق المراقبة, وأن نعلم أنه مطلع علينا، فهو الذي قال عن نفسه جل وعلا: {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} (سورة غافر:19), وقال: {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ} (سورة البقرة:215)؛ وسُئل الجنيد: بم يستعان على غض البصر؟ قال: بعلمك أن نظر الله إليك أسبق إلى ما تنظره"
، فلتحسن العمل, ولتراقب الله تعالى في السر والعلن: {إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا} (سورة النساء:1), {وَللّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَكَانَ اللّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطًا} (سورة النساء:126)، ولتكن هذه الكلمات أمام ناظريك:
إذا ما خلوت الدهر يوماً فلا تقل خلوت ولكن قل على رقيب
ولا تحسبن الله يغفل ســـاعة ولا أن ما تخفيـه عنه يغيب
ألم تر أن اليـــوم أسرع ذاهباً وأن غدًا للنــاظرين قريب
نسأل الله تبارك وتعالى أن يوفقنا لطاعته ورضاه، وأن يجنبنا وساوس الشيطان، وأن يحفظ علينا ديننا، ويتوب علينا, ويغفر لنا, ونسأله الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الزلل في القول والعمل، والحمد لله رب العالين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين.