مما لا شك فيه أن الحج إلى بيت الله الحرام يعتبر من أفضل القربات، وأعظم الطاعات التي يؤديها العبد، فهي الركن الخامس من أركان هذا الدين العظيم، وهذا الركن بالذات له من الثمار والفوائد الشيء الكثير، فليست هذه الشعيرة هي عبادة شكلية تؤدى، بل عبادة شكل ومضمون وجوهر، ففيها يجتمع الحجاج من جميع أصقاع الأرض، وعلى اختلاف الألوان والأشكال، والمذاهب والانتماءات؛ هدفهم واحد، ولباسهم واحد، وشعارهم واحد، وأداؤهم واحد، ومقصدهم واحد هو تحقيق الإيمان بالله عز وجل، والبعد والاجتناب عن نواهيه، وتحقيق الفطرة التي فطرها الله عز وجل في خلقه حيث العدالة، متذكرين جميعاً قول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين أزال كل الفوارق الجاهلية في خطبته وسط أيام التشريق: ((يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، وإن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على أعجمي، ولا لعجمي على عربي، ولا لأحمر على أسود، ولا أسود على أحمر؛ إلا بالتقوى، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم قال: أي يوم هذا؟ قالوا: يوم حرام، ثم قال: أي شهر هذا؟ قالوا: شهر حرام، قال: ثم قال: أي بلد هذا؟ قالوا: بلد حرام، قال: فإن الله قد حرم بينكم دماءكم وأموالكم قال: ولا أدري قال: أو أعراضكم أم لا كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا، أبلغت؟ قالوا: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ليبلغ الشاهد الغائب)).
وهذا مشهد الحجيج يبعث في النفس الراحة حين يشعر المسلم أنه يحقق معنى قول الله تعالى: {إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ} (سورة المؤمنون:52)، فمهما ابتعدت المسافات، وحُكِمَ بتفريق الأمة؛ إلا أن الله عز وجل يأبى ذلك، ليأتي بموسم الحج مبطلاً كل تلك الدعوات الزائفة حين تذوب فوارق الأجناس والألوان، واللغات والأوطان والطبقات، وتبرز حقيقة الأخوة واللُّحمة، ويعرف به المسلمون أحوال بعضهم البعض، وما هم عليه من علم أو جهل، أو غنى أو فقر، أو استقامة أو انحراف.
الحج مدرسة يتعلم فيها الناس معاني الأخوة الإيمانية الحقة ، حيث لم تجمعهم في هذه الرحلة المباركة مصالح دنيوية ، ولا حاجات شخصية ، وإنما اجتمعوا على طاعة الرحمن . فيعرف الحاج لإخوانه حقهم ، فيكرمهم ، ويحسن إليهم ، ويحلم عليهم ، ويتجاوز عنهم ، ويعين ضعيفهم ، ويوقر كبيرهم ، ويحرص على راحة إخوانه ، ويحذر من أذيتهم أو مزاحمتهم ، أو التضييق عليهم ، ويحب لهم ما يحب لنفسه، ويكره لهم ما يكرهه لنفسه، ويتحمل أذاهم ، ويصبر على بعض ما يصدر منهم من زحام ، أو تصرفات مقصودة أو غير مقصودة. ويتعلم السخاء، والإنفاق، والبذل، وإطعام الجائع، ومساعدة الملهوف، وإعانة المحتاج.
كما يزيل الحج كل ما في النفس من عجب وخيلاء؛ لأن العبد هنا ينكر ذاته، ويتجرد عن كل ما يستطيع أن يخص به نفسه؛ ليندمج مع إخوانه الحجاج في كل شيء ابتداء بالملبس إلى الهتاف والعمل ... إلخ.
ويرى الرائي من خلال مشهد الحجيج حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم واقعاً ملموساً، ومشاهداً، حيث يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وإن الله أوحى إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد، ولا يبغى أحد على أحد)) رواه مسلم ( 2865 ) ، وكذا قوله صلى الله عليه وسلم: ((أيها الناس اسمعوا قولي واعقلوه، تعلمن أن كل مسلم أخ للمسلم، وأن المسلمين إخوة، فلا يحل لامرئ من أخيه إلا ما أعطاه عن طيب نفس منه، فلا تظلمن أنفسكم، اللهم هل بلغت؟ فذُكِرَ لي أن الناس قالوا: اللهم نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم اشهد، ثلاثاً))
.
والحج ينمِّي الأخوة الإسلامية من خلال الانتفاع المادي الذي قد يحققه الحاج خلال فترة حجه كما قال عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُم مِّن بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} (سورة الحج:27-28)، ومن خلال التعامل المادي تتداخل النفوس والثقافات، ويتعارف المسلمون على بعضهم.
ويلمس المسلم تعاظم مشاعر الأخوة بين الحجاج حتى إنها لتفيض على تعاملهم مع بعضهم بالرحمة، ولين الجانب، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والبذل والتعاون، وغيرها من الأخلاقيات التي تُنْبـِتُ أواصر المحبة، وتحقق قول المولى تبارك وتعالى: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (سورة الحجرات:10).
نسأل الله عز وجل أن يجمع شمل المسلمين، وأن يردَّهم إلى دينه مرداً جميلاً، إنه ولي ذلك والقادر عليه، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه، والحمد لله ب العالمين.