الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين:
يا عشرَ حِجة بالتغيير ائتينا *** فموسمُ الخير أَصْلٌ في تداوينا
نعيش في هذه الأيام موسم عظيم وأيام جليلة أقسم الله بها في قوله عز وجل: {وَلَيَالٍ عَشْرٍ} [الفجر: 2] وورد فيها الحديث الصحيح: «ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام» يعني عشر ذي الحجة، قالوا: ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال صلى الله عليه وسلم: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلا خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء».
ألا وإن من أحب ما يحبه الله تعالى في كل حياتنا وفي مواسم الخير التوبة من الذنوب والعزم على البعد عن المعاصي والمنكرات وكل ما يغضبه سبحانه، وعلى الرغم من أهمية وفضيلة وأجر الأعمال الصالحة الأخرى مثل التكبير والاستغفار والذكر والدعاء وقراءة القرآن وقيام الليل والصيام والصدقة إلا أن الأهم هو عدم التقصير في أداء الفرائض والواجبات والبعد عما لا يرضاه من الذنوب والمعاصي؛ فكما ورد في الحديث القدسي الصحيح: «وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه»، وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الحسن: «اتق المحارم تكن أعبد الناس»، وفي الأثر عن ابن عمر رضي الله عنه: "لَرَدُّ دَانِقٍ من حرام أحب إلى الله من إنفاق مائة ألف في سبيل الله"، ومع أنه جل جلاله غنيٌ عنا إلا أنه يغضب من أن نقصر في ما أمر أو أن نقع فيما لا يرضاه، ففي الحديث المتفق عليه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله يغار وغيرة الله أن يأتي المرءُ ما حرم الله عليه».
ولا يعني هذا بالطبع أن نُفَتِّرَ من عزائمنا وأن نضعف في فضائل الأعمال والخيرات ولكن المقصود ألا يُنسى هذا الجانب الأهم، بل هذا الجانب يشجعنا على أن نزيد من هذه الأعمال الصالحة في هذه الأيام لنقترب أكثر من الله فيعيننا على تحقيق التغيير الذي يجعلنا نرقى ونعلو علوا كبيرا في درجات العبودية ومدارج السالكين لله رب العالمين.
ولو تأملنا من جانب آخر حِكَمَ ذكرِ الله وقراءة القرآن وكثير من أعمال الفضائل سواء في عشر ذي الحجة أو في غيرها لوجدنا أن من أهم حكمها وفوائدها أن يتحقق في نفوسنا تعظيم الله وخشيته ورجاؤه ومحبته فلا نقع فيما لا يحب أن يرانا عليه ولا نقصر فيما أوجبه علينا.
والتكبير المستحب أن نكثر منه ونكرره وبصوت عالٍ في هذه الأيام في المنازل والطرقات والأسواق وفي شتى الأماكن من معانيه المهمة أن ندرك ونطبق أن الله أعلى وأجَلّ وأن أمره وما يريده أعظم ومقدمٌ على كل شيء.
والأضحية هذه الشعيرة العظيمة ذات الدلائل الكبيرة جدا من حكمها أن نتفانى في الالتزام بأوامر الدين والحرص على تطبيقها إقتداءً بالخليل وإسماعيل عليهما السلام عندما لم يترددا في تنفيذ ما أمر الله به على الرغم من عظم الطلب.. أبٌ يذبح إبنه وابنٌ يستجيب، {قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافات: ١٠٢].
وحتى أن الحج ركن الإسلام الخامس والفريضة العظيمة والذي هو من أحب الأعمال الصالحة إلى الله في هذا الموسم من أهم حِكَمِهِ التوبة والأوبة وتحقيق التقوى؛ قال تعالى: {لَن يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلا دِمَاؤُهَا وَلَٰكِن يَنَالُهُ التَّقْوَىٰ مِنكُمْ ۚ } [الحج: ٣٧] بل إن دلالة الحج المبرور هي كما قال الحسن البصري رحمه الله عندما سئل عن الحج المبرور فقال: "آية ذلك ان يدع سيئ ما كان عليه من عمل".
مواسمُ الخيرِ تأتي كي تُنَبِّهَنَا***من المَنَامِ ونَرْقَََى في رضى اللهِ
فليتنا جميعا نتذكر هذا الجانب حتى تكون مواسم الخير حافزاً لنا وفرصة للتوبة والتغيير وإصلاح المسار وترك تقصيرنا في أي جانب من جوانب أوامر الشرع سواء في سلوكياتنا مع أنفسنا وأمورنا الشخصية أو سلوكياتنا مع الغير في تعاملاتنا وأخلاقنا وأعمالنا خاصة ونحن في عصرنا هذا الذي حدثت فيه غفلة وتقصير من الكثير من المسلمين في العلاقة مع الله وصدق الالتزام الكامل بأوامره في كل الأمور، وهذه الغفلة هي السبب الأساسي فيما تعيشه الأمة الآن من ذل وهوان وضعف، قال تعالى: {إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد: ٧] ونصر الله يكون بالتزام نهجه والاستقامة على هداه.
ومن أوامر الدين وواجباته التي ننساها كثيرا واجب الدعوة إلى الله ونشر الخير والتذكير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، حتى أن بعض السلف عدَّها وكأنها الركن السادس في الإسلام، وكم من الخير سيحصل للأمة لو أن أفرادها انطلقوا بعزم للدعوة في كل أوقات حياتهم، ولِمَنْ نَسِيَ فَغَفِلْ فهذه المواسم المباركة مثل عشر ذي الحجة فرصة للانطلاقة نحو كل ما أوجبه الله ومنها هذا الواجب العظيم.
أيضا يحسن بنا جميعا أن ننتبه لمسألة جعلت كثيرا منا يقصر في ذنوب ويستمرئها بدون أن يخشى منها حق الخشية؛ وهي المسألة الهامة التي بينها علماء الأمة وسلفها الصالح أنه لا صغيرة مع الإصرار، فكم أغرق الشيطان المسلمين في ذنوب وجعلهم يصرون عليها بحجة أنها صغائر، وأنسانا أنها تكبر وتعظم بالإصرار عليها وعدم المبالاة بها.
فنسأل الله أن يجعلنا ممن يستفيدون الاستفادة العظمى ويفوزون الفوز الكبير في هذا الموسم المبارك موسم أيام عشر ذي الحجة لنرضي الله خالقنا ونكسب عظيم الأجر بأن نجعل هذا الموسم وغيره من مواسم الخير مواسم عمل وجد ومحطات زاد وتزود ومراجعة للنفس وعزم على التصحيح والتغيير لننطلق منها لصفحات ناصعة في مسيرتنا في حياتنا القصيرة ورحلتنا إلى دار الخلود.