بتـــــاريخ : 9/24/2010 8:15:26 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1657 0


    4- هكذا كان محمّد يدعو قومه إلى الإسلام

    الناقل : SunSet | العمر :37 | الكاتب الأصلى : عامر أبو سميّة | المصدر : www.allahway.com

    كلمات مفتاحية  :

     
    قال ابن إسحاق ، نقلاً عن كتابه السّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة : كان عُتبة بن ربيعة سيّدًا في قُريش ، فقال يومًا وهو جالسٌ في إحدى نَواديهم ، ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم في المسجد وَحْدَه : يا معشَر قُرَيش ، ألا أقومُ إلى محمَّد فأُكلّمه وأَعْرِض عليه أمورًا لعلَّه يقبلُ بعضَها فنُعطيه أيّها شاء ويَكُفّ عنَّا ؟
     
    وكان ذلك حينَ أسلَم حمزة بن عبد المطَّلب ، عمُّ النَّبيّ وفارسُ قُريش الذي يَهابُه الكُلُّ ، ورأتْ قُريش أنَّ أصحابَ رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَزيد عددهم كلَّ يوم .
    فقالُوا : بَلَى يا أبا الوليد ، قُمْ إليه فَكَلّمْه .
     
    فقامَ عُتْبة حتَّى جلسَ إلى رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقال : يا ابنَ أخي ، إنَّك مِنَّا حيثُ قد علِمْتَ من السّطَة في العشيرة (أي المنزلة الرَّفيعة) ، والمكان في النَّسَب ، وإنَّكَ قد أتَيْتَ قَومَك بأَمْرٍ عظيم فرَّقْتَ به جماعَتَهم وسَفَّهتَ به أحلامَهُم وعِبْتَ به آلِهَتَهم ودِينَهم وكَفَّرْتَ به مَن مَضَى من آبائهم ، فاسْمَعْ منّي أَعْرِضْ عليْكَ أُمورًا تَنْظُر فيها لعلَّك تقبَلُ منها بعضَها .
     
    فقالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : قُلْ يا أبا الوليد ، أَسْمَعْ .
     
    قال : يا ابنَ أخي ، إن كنتَ إنَّما تُريد بما جِئْتَ به من هذا الأمر مالاً ، جَمَعْنا لكَ من أمْوالنا حتَّى تكونَ أَكْثَرنا مالاً . وإن كنتَ إنَّما تريدُ به شَرَفًا ، سَوَّدْناكَ علينا (أي جعلْناكَ سيّدًا علينا) حتَّى لا نَقْطع أمرًا دُونَك . وإن كنتَ تُريد به مُلْكًا ، مَلَّكناكَ علينا . وإن كان هذا الذي يأتيكَ رَئِيّا تراهُ لا تستطيعُ ردَّهُ عن نفْسك (وكانُوا يُسَمُّون التَّابع من  الجِنّ : رَئِيّا) ، طلَبْنا لك الطّبَّ وبذَلْنا فيه أموَالَنا حتَّى نُبْرئكَ منه ، فإنَّه ربَّما غَلَب التَّابعُ على الرَّجُل حتَّى يُداوَى منه .
     
    فلمَّا فرَغَ عُتبة ، ورسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَستمعُ منه ، قالَ : أوَ قَدْ فَرغْتَ يا أبا الوَليد ؟ قالَ : نَعم ، قالَ : فاسْتَمِعْ منّي ، قالَ : أَفْعَل ، قال : { حم 1 تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ 2 كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ 3 بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ 4 وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ 5 قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ 6 الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ 7 إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ 8 } (41- فصّلت 1-8) .
     
    ومضى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم يَقْرأ ، وعُتبة مُنصِتٌ بانتباه ، حتَّى إذا وصل إلى الآية التي فيها سَجْدة ، سَجَد ، ثمَّ قال : قدْ سمعتَ يا أبا الوَليد ما سمعتَ ، فأنتَ وذاكَ .
     
    فقام عُتبة إلى أصحابه ، فقالَ بعضُهم لِبَعض : نحلِفُ بالله لقد جاءكُم أبو الوليد بغَيْر الوَجه الذي ذهبَ به .
     
    فلمَّا جلَسَ إليهم ، قالُوا : ما وراءكَ يا أبا الوليد ؟ قالَ : وَرائي أنّي سمعتُ قَوْلاً ما سمعتُ مثْلَه قَطّ ، واللهِ ما هو بالشّعْر ولا بالسّحْر ولا بالكَهَانة . يا مَعْشَر قُرَيْش ، أطيعُوني واجْعَلوها بي ، وخَلُّوا بين هذا الرَّجُل وبين ما هو فيه فاعْتَزِلُوه ، فَوَالله لَيَكُونَنَّ لِقَوْلِه الذي سمعتُ منه نَبَأٌ عظيم ، فإنْ تُصِبْهُ العرَبُ فقد كُفِيتُمُوه بغَيْركُم ، وإن يَظْهَرْ عَلَيْهم فَمُلْكُه مُلْكُكُم وعِزُّه عِزُّكُم وكُنتم أَسْعدَ النَّاس به .
     
    قالُوا : سحَرَك واللهِ يا أبا الوليد بلِسَانه ! قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعُوا ما بَدَا لكُم .
     
    وفي حادثة أخرى ، روى ابن إسحاق ، نقلاً عن كتابه السّيرة النَّبويَّة مع تصرّف بسيط في سَرْد القصَّة ، أنَّ أشراف قُريش من كلّ قَبيلة : عُتبة بن ربيعة ، وشَيْبة بن ربيعة ، وأبو سُفيان بن حَرب، والنَّضر بن الحارث ، وأبو البَختريّ بن هشام ، والأسْوَد بن المطَّلب ، وزمعة بن الأسْوَد ، والوَليد بن المغيرة ، وأبو جهْل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أميَّة ، والعاص بن وائل ، ونبيه ومُنبّه ابنَا الحجَّاج ، وأُميَّة بن خَلَف ، اجتمعُوا يومًا بعد غُروب الشَّمس عند ظَهْر الكعبة . فقالَ بعضُهم لِبَعض : ابعثُوا إلى محمَّد ، فكَلّمُوه وخاصِمُوه حتَّى تُعْذِرُوا فيه . فبَعَثُوا إليه أنَّ أشرافَ قَوْمك قد اجتَمعُوا إليك لِيُكلّمُوك ، فأْتِهم .
     
    فجاءهُم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم سريعًا ، وهو يَظُنُّ أن قد بَدَا لهم فيما كلَّمَهُم فيه بَدْء ، وكان عليهم حريصًا ، يُحبُّ رُشْدَهم ويَعِزُّ عليه عَنَتُهم ، حتَّى جلس إليهم ، فقالُوا له : يا محمَّد ، إنَّا قد بعثْنا إليك لِنُكلّمَك ، وإنَّا واللهِ ما نعلَمُ رجلاً من العرب أَدخَلَ على قَومه مثلَ ما أدخلْتَ على قَومِك . لقد شتَمْتَ الآباء وعِبْتَ الآلهة وسَفَّهتَ الأحلامَ وفرَّقتَ الجماعة ، فَمَا بَقيَ أمرٌ قبيح إلاَّ قد جِئْتَه فيما بيننا وبينك .
     
    فإن كنتَ إنَّما جئْتَ بهذا الحديث تطلُبُ به مالاً ، جمعْنَا لكَ من أموالنا حتَّى تكون أكْثَرنا  مالاً ، وإن كنتَ إنَّما تطلُبُ به الشَّرفَ فينا سَوَّدْناك علينا ، وإن كنتَ تريدُ به مُلْكًا مَلَّكْناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيكَ رَئِيّا تَراه قد غَلَبَ عليك ، بذَلْنا لك أموالَنا في طَلَب الطّبّ لك حتَّى نُبرئك منه أو نُعذِر فيك .
     
    فقالَ رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم : ما بي ما تقولُون ، ما جئتُ بما جئتكُم به أطلُبُ أموالَكُم ولا الشَّرفَ فيكم ولا الملْكَ عليكم ، ولكنَّ اللهَ بَعَثني إليكم رسولاً ، وأَنزلَ عَلَيَّ كتابًا، وأمَرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا ، فبَلَّغتُكم رسالات ربّي ونصحْتُ لكم ، فإن تَقْبَلُوا منّي ما جِئْتُكم به فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة ، وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر الله حتَّى يحكُم الله بيني وبينكم .
     
    قالُوا : يا محمَّد ، فإن كنتَ غير قابل منَّا شيئًا مِمَّا عَرَضناه عليك ، فإنَّكَ قد علمْتَ أنَّه ليس من النَّاس أحدٌ أضْيَق بَلدًا ولا أقلّ ماءً ولا أشَدّ عيْشًا منَّا ، فسَلْ لنا ربَّكَ الذي بعثَك بما بعثَك به فلْيُسَيّرْ عنَّا هذه الجبالَ التي قد ضَيَّقتْ علينا ، وليَبْسُط لنا بلادَنا ، ولْيُفجّر لنا فيها أنهارًا كأنهار الشَّام والعراق ، ولْيَبعثْ لنا مَن مَضى من آبائنا ، ولْيَكُن فيمَن يَبعثُ لنا منهم قُصَيّ بن كلاب فإنَّه كان شَيْخ صِدْق ، فنَسْألهم عمَّا تقولُ أحَقٌّ هو أم باطِل ، فإن صَدَّقوك وصنعتَ ما سألناك ، صدَّقْناكَ وعرفْنا به مَنزلَتك من الله وأنَّه بَعثَك رسولاً كما تقول .
     
    فقال النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : ما بهذا بُعِثْتُ إليكم ، إنَّما جِئْتُكم من الله بما بَعَثني به ، وقد بلَّغْتُكم ما أُرسِلْتُ به إليكم ، فإن تَقْبلُوه فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة ، وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر الله حتَّى يحكُم الله بيني وبينكم .
     
    قالُوا : فإذا لم تَفعلْ هذا لنا ، فخُذْ لِنَفْسِك . سَلْ ربَّكَ أن يَبعثَ معكَ ملَكًا يُصدّقُك بما تقولُ ويُراجِعُنا عنْك ، وسَلْهُ فلْيَجْعَلْ لكَ جِنانًا وقُصورًا وكُنوزًا من ذَهب وفِضَّة يُغْنيكَ بها عمَّا نراكَ تَبتَغي ، فإنَّك تقومُ بالأسواق كما نَقُوم ، وتلْتمسُ المعاشَ كما نَلْتمِسُه ، حتَّى نعرف فضْلَك ومَنْزلَتك من ربّك إن كنتَ رسولاً كما تزعم .
     
    فقالَ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم : ما أنا بِفَاعِل وما أنا بالذي يَسْألُ ربَّه هذا ، وما بُعِثْتُ إليكم بهذا ، ولكنَّ الله بَعَثني بشيرًا ونذيرًا ، فإن تَقْبَلُوا منّي ما جِئْتُكم به فهو حَظّكم في الدُّنيا والآخرة ، وإن تَرُدُّوه عَلَيَّ أصْبِر لأمْر الله حتَّى يحكُم الله بيني وبينكم .
     
    قالُوا : فأَسْقِط السَّماءَ علينا كِسَفًا كما زعمْتَ أنَّ ربَّك لو شاء فَعل ، فإنَّا لا نُؤمنُ لكَ إلاَّ أن تفعَل .
    قالَ : ذلك إلى الله ، إن شاء أن يفعلهُ بكم ، فَعَل .
     
    قالُوا : يا محمَّد ، أفَمَا علِمَ ربُّكَ أنَّا سنجلِسُ معك ونسألكَ عمَّا سألْناك عنه ونطلُب منك ما نَطلب ، فيَتقدَّم إليك فيُعلّمك ما تُراجعنا به ويُخبرك ما هو صانعٌ في ذلك بنا إذا لم نَقْبلْ منكَ ما جِئْتَنا به ؟! إنَّه قد بلَغَنا أنَّك إنَّما يُعلّمُك هذا رجلٌ باليَمامة يُقالُ له الرَّحمن ، وإنَّا واللهِ لا نؤمنُ بالرَّحمن أبدًا . فقد أعذَرْنا إليك يا محمَّد ، وإنَّا واللهِ لا نَتْرُكك وما بلَغْتَ منَّا حتَّى نُهلِكك أو تُهلكنا .
     
    فلمَّا قالُوا ذلك قام عنهم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وقام معه عبدُ الله بن أبي أميَّة ، وهو ابن عمَّته عاتكة بنت عبد المطَّلب ، فقال : يا محمَّد ، عرضَ عليك قومُك ما عرضُوا فلم تقْبَله منهم ، ثمَّ سألُوك لأنفُسهم أمورًا لِيَعرفُوا بها منزلَتَك عند الله كما تقُول ويُصدّقوك ويَتَّبعوك فلم تَفعلْ ، ثمَّ سَألوك أن تأخُذ لنَفسك ما يَعرفون به فَضْلك عليْهم ومَنزلَتك عند الله فلم تَفعلْ ، ثمَّ سألوك أن تُعجّل لهم بعضَ ما تُخَوّفُهم به من العذاب فلم تفْعل ، فوَالله لا أومنُ بكَ أبدًا حتَّى تتَّخِذَ إلى السَّماء سُلَّمًا ثمَّ تَرْقَى فيه وأنا أنظرُ إليك حتَّى تأتيها ، ثمَّ تأتي معك بأربعة من الملائكة يشهدون لكَ أنَّك كما تقول ، وأيْمُ الله أن لو فعلْتَ ذلك ما ظننتُ أنّي أصدّقُك !
     
    ثمَّ انصرف ، فرجع رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم إلى أهله حزينًا ، لِمَا كان يطمعُ من قومه حين دَعَوْه ، ولِمَا رأى من مُباعدتهم إيَّاه .
     
    هذا إذًا بعض ما كان يُلاقي محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم من قومه . وقد كان بإمكانه أن يَدعُو اللهَ أن يُنزلَ بهم عذابه ، ولكنَّه لم يفعل .
     
    وقد روى الإمام أحمد في مُسنده عن ابن عبَّاس رضي الله عنه ، قال : قالتْ قريش للنَّبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم : ادْعُ لنا ربَّك يَجْعَل لنا الصَّفَا ذهَبًا ونُؤمن بك . قال : وتَفعَلُون ؟ قالُوا : نعم .
    فدَعَا ، فأتاهُ جبريلُ فقال : إن ربَّكَ عَزَّ وجَلَّ يقرأ عليك (أو يُقْرئك) السَّلامَ ويقولُ (لك) : إن شئتَ أصبحَ الصَّفَا لهم ذهَبًا ، فمَنْ كفرَ بعد ذلك منهم عذَّبْتُه عذابًا لا أعذّبه أحدًا من العالَمين ، وإن شئتَ فتحْتُ لهم بابَ التَّوبة والرَّحمة .
    قال : بل باب التَّوبة والرَّحمة . (مسند الإمام أحمد بن حنبل - الجزء 1 - ص 242 - رقم الحديث 2166) .
     
    نعم ، اختار النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم لِقَومه الرَّحمة على العذاب . فهو نبيُّ الرَّحمة ، كما يقول الله تعالى فيه : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ 107 } (21- الأنبياء 107) .
     
    وقد روى الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هُرَيْرة رضي الله عنه ، قال : قيلَ : يا رسولَ الله ، ادْعُ على المشركين . قال : إنّي لَم أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وإنَّما بُعِثْتُ رَحْمَة . (صحيح مسلم - الجزء 4 - ص 2006 - رقم الحديث 2599) .
     
    لكنَّ قومَه قابلُوا الإحسان بالإساءة ، فسعَوْا في إيذائه ، وعذَّبُوا أصحابه تعذيبًا شديدًا ، ثمَّ أجبروه على الخروج من مكَّة بعد أن حاولُوا قتْلَه فلم يُفلِحوا في ذلك ، ووقعتْ بينهم وبينه بعد ذلك حروبٌ عديدة .
     
    وبعد ثماني سنوات من خروجه من مكَّة، عاد إليها النَّبيُّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم فاتحًا مُنتصِرًا، ودخلَها في جيش كبير من أصحابه ، وإنَّ لِحْيَتَه تكاد تَمَسّ وسط راحلَته من شدَّة تواضعه للَّه !
     
    ثمَّ وقفَ على باب الكعبة ، ووقف أمامه المشركون من قومه خائفين ، فقال لهم : يا معشر قُريش ، ما تَرَوْن أنّي فاعلٌ فيكم ؟ قالُوا : خيرًا ، أخٌ كريمٌ وابنُ أخ كريم ، قال : اذْهبُوا ، فأنتم الطُّلقاء !
     
    نعم ، لم يأخذ النَّبيُّ صلَّى الله عليه وسلَّم بثأره ولا بثأر أصحابه ، وعفا عن قومه وقد كان قادرًا على قتلهم جميعا ، ولم يُجبرهم على الدُّخول في الإسلام . فلمَّا رأَوْا منه ذلك ، أسلم منهم عدد كبير .
     
    ونزل قولُ الله تعالى : { إِذَا جَاءَ نَصْرُ الله وَالْفَتْحُ 1 وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجًا 2 فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا 3 } (110- النّصر 1-3) .
     
    ولم يكن هذا الحِلْمُ من النَّبيّ محمَّد صلَّى الله عليه وسلَّم حالة عارضَة ، وإنَّما كان صِفَة ملازمة له . فقد روى ابنُ حِبَّان في صحيحه عن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنه ، قال : لَمَّا تُوُفّيَ عبدُ الله بن أُبَيّ (وهو ابن سَلُول ، وكان رأس المنافقين ، يُظهر الإسلام ويُخفي الكُفر ويَكيد للمُسلمين) ، أتَى ابنُه عبدُ الله بن عبد الله بن أُبَيّ بن سَلُول (وكان مُسْلِمًا) رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقال : يا رسولَ الله ، هذا عبدُ الله بن أُبَيّ قد وضَعْناه ، فَصَلّ عليه .
    (وفي رواية لِمُسلم عن ابن عُمَر ، قال : فسألَ (أي عبدُ الله ، الابنُ) رسولَ الله أن يُعطيه قميصَه يُكفّن فيه أباه ، فأعطاه ، ثمَّ سألَه أن يُصَلّي عليه) .
     
    قال عُمر : فقام رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فلمَّا قام يُصلّي عليه (أي صلاة الجنازة) ، قمتُ في صدر رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، فقلتُ : يا نبيَّ الله ، أتُصَلّي على عدُوّ الله القائل يوم كَذَا : كَذَا وكذَا ، والقائل يوم كَذَا : كَذَا وكذَا ، أُعَدّدُ أيَّامَه الخبيثة ؟!
     
    فتَبسَّم رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، وقال : عَنّي (أي خَلّ عَنّي) يا عُمَر !
     
    حتَّى إذا أكثرتُ ، قال : عَنّي يا عُمَر ، فإنّي قد خُيّرتُ فاختَرْتُ ، إنَّ الله يقولُ : { اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ الله لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَالله لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ 80 } (9- التّوبة 80) .
    يقولُ النّبيُّ : ولو أعلم أنّي إن زدتُ على السَّبعين ، غُفِر له ، لَزِدتُ !
     
    قال عمر : فعَجبًا لِجُرأتي على رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم ، والله ورسولُه أعلَم ! فلمَّا قالَ لي ذلكَ انصَرفتُ    عنه . فصَلَّى عليه ، ثمَّ مَشَى معه ، فقام على حُفْرته حتَّى دُفِن ، ثمَّ انصَرَف . فَوَاللهِ ما لَبِثَ إلاَّ يَسيرًا حتَّى أنزلَ الله جلَّ وعَلاَ : { وَلا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِالله وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ 84 } (9- التّوبة 84) .
     
    قال عمر : فَمَا صَلَّى رسولُ الله صلَّى الله عليه وسلَّم على مُنافِق بعد ذلك ، ولا قامَ على قَبْره . (صحيح ابن حبّان - الجزء 7 - ص 449 - رقم الحديث 3176) .
     
    أخوكم عامر أبو سميّة
     
    موقع الطريق إلى الله

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()