الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا.
من يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)).
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً)).
((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً. يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً)).
أما بعد:
فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد - صلى الله عليه وسلم - وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار.
ثم أما بعد:
يقول الكاتب الأديب: مصطفى المنفلوطي " كتب حينما بلغ عمره الأربعين عام يقول: لقد بلغت قمة الهرم ثم إني بدأت الآن في النزول ولا أدري هل سأنزل بهدوء أم تتعثر بي الطريق فأسقط إلى السبح إلى مأواي الأخير إلى القبر، ثم ذكر طرفاً مما كان يتمناه في صباه وأمنياته التي كان يحلم بها في صباه، ثم يقول: وليس لي الآن ما أتمنى من تلك الأماني إلا أني علمت أني أعد العدة وأستقر لهذا السن القابل وأستقر لمقري الأخير ومقري الأخير ألا وهو القبر.
وهذا الذي قاله الأديب وكان متأثراً بتربيته الدينية الأزهرية هو الذي دلت عليه دلائل الكتاب والسنة وأن هذا السن هو الذي ينبغي على الإنسان بعده أن يعزم التوبة الصادقة وإن كانت مطلوبة في كل وقت ولكن هذا السن آكد.
فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ((أعمار أمتي بين الستين والسبعين وقل من يجوز ذلك)).
فبإجراء عملية حسابية يسيرة يتبين لنا أن من جاوز الأربعين فقد بدأت النهاية عنده فهو إعلان بدء النهاية فإن أعمار الأمة بين الستين والسبعين إن أطاله الله - عز وجل - وقل من يجوز ذلك.
والله - عز وجل - يقول في محكم كتابه (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ. )
إن هذا السن هو مفرق طريق ومنحنىً أخير فالكيّس العاقل من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
فإذا وصل المرء إلى هذا السن فيجب أن يعزم عزمه الأكيد للإقبال على الله - عز وجل - والندم على ما فات والتوبة منه ورد الحقوق إلى أهلها وطلب السماح من حقوق الله - جل وعلا - والعفو منه - سبحانه وتعالى - فإن أصحاب سن الأربعين فما فوق هم زرع دنا حصاده ينتظرون ما بين وقت وآخر.
والأطباء يقولون: إذا بلغت الأربعين فانتبه من أمور لأن أجزاء الجسم تضعف فانتبه من السكر، وانتبه من المواد الغنية بالكلسترول وانتبه من الانفعالات التي قد ترفع لك ضغط الدم.
وأهل الشرع يقولون: إذا بلغت الأربعين فاستعد لما أمامك، فإنك إلى ضعف بعد قوة، وإلى القرب من دار الآخرة والرحيل من هذه الدار، والمرء إذا كان في شبابه يمكن أن يتعاطى العادات السيئة وهو مذموم بذلك وجسمه يتحمل ذلك كالتدخين و الإفراط في الطعام والسهر الكثير لكنه إذا بلغ هذا السن سن الأربعين فإن جسمه لا يتحمل هذه التجاوزات.
وكذلك أنت أيها المسلم فإن الذنب منك والمعصية والتفريط بعد هذا السن عيب في حقك وقد دنا الرحيل وقد دنا لقاء الله - عز وجل - وهكذا حال الدنيا:
لكل شيء إذا ما تم نقصان ***** فلا يغر بطيب العيش إنسان
هي الأمور كما شادتها دولاً ***** من سره زمن ساءته أزمـان
ومن بلغ هذا السن فينبغي أن يقول وأن يشكر الله بالتوبة والندم والاستعداد ليوم لقاءه:
اعتزل ذكر الأغاني والغزل *** وقل الفصل وجادل من هزل
ودع اللهو لأيام الصـبـا *** فلأيام الصـبا نجم أفل
إن أهنأ عيشةٍ قضيتــهـا *** ذهبت لذتها والإثم حل
واترك الفادة لا تحفل بهـا *** تمشي في عز عظيم وتجل
وأله عن آلة لهو أطريـن *** وعن الأمرد مرتد الكفـل
إن تبدى تنكسف شمس الفجر *** وإذا ما مسي يزري بالأسل
زاد إن قسناه بالبدر سنا *** أو عدلناه بغصـن فاعتدل
وابتكر في منتهى حسن الذي *** أنت تهواه تجد أمراً جلل
واتقى الله فتقوى الله ما جاورت *** قلب امرئ إلا وصـل
ليس من يقطع طرقاً بطلا *** إنما من يتقى الله البطـل
الموت الذي يدخل علينا بلا استئذان، فيأخذ الأمير والحقير، ويأخذ الصغير والكبير، الموت الذي يزورنا ما بين وقت وآخر في الوديان وفي السواحل وفي الجبال وفي البحر وفي الجو وفي حصوننا يدخل علينا فينهش نهشته بتقدير الله - عز وجل - بلا استئذان إنه آية من آيات الله يتحدى بها عباده.
(وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ)
فهل نحن مستعدون لهذا اليوم، وهل نحن مستعدون للقاء الله خصوصاً أنتم أبناء الأربعين فما فوق.
قال مسروق ـ من أئمة التابعين: متى يؤخذ الإنسان بذنبه. قال: إذا بلغ الأربعين فليحذر وليتوقى.
والمعنى: أن الإنسان قد يكون في شبابه معافىً ولكنه سيدفع فواتير هذه العافية وتلك المعاصي، سيدفع فواتيرها بعد الأربعين أمراضاً ومصائب وكوارث ثم يلقى الله - عز وجل - فإن طهر في الدنيا وإلا فسوف يطهر في الآخرة بالنار ـ أجارنا الله وإياكم من عذاب النار ـ.
وأنت يا ابن الثلاثين وأنت يا ابن العشرين لا تظن أنك في عافية من ذلك فالموت يأتي بغتة والقبر صندوق العمل:
تزود من التقوى فإنك لا تدري *** إذا جن الليل هل تعيش إلى الفجر
فكم من فتىً أمسى وأصبح ضاحكاً *** وقد نسجت أكفانه وهو لا يدري
وكم من عروسٍ زينوها لزوجها ***وقد قبضت أرواحهم ليلة القبر
وكم من صغار يرجى طول عمرهم *** وقد أخلت أجسادهم ظلمة القبر
وكم من صحيح مات من غير علةٍ *** وكم من سقيم عاش حيناً من الدهر
فمن ـ يدري أيها الأخوة ـ متى يأتيه الأجل جاء في تفسير قوله - جل وعلا -: (أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ) و جاء في تفسير قوله - تعالى -( وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ)
عن ابن عباس وجماعة من السلف: أنه الشيب إذا بدأ في رأس المرء إنه بمثابة إعلان للرحيل ومغادرة هذه الدنيا فهل نحن مستعدون للقاء الله.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ () وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ () وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ()
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم.
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم ولسائر المؤمنين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملاً.
وأشهد أن لا إله إلا الله المبدء والمعيد وأشهد أن محمداً عبده ورسوله إمام الذاكرين الخائفين المنيبين، فصل الله عليه وعلى أله وأصحابه أجمعين.
أما بعد: ـ
أيها المسلمون:
إن أحداً لن يخلد في هذه الأرض ولو كان أحداً سيخلد لكان أولى بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ومع ذلك قال له ربه (إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ)
وقال - جل وعلا - (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
هؤلاء الأنبياء وفي مقدمتهم محمد - صلى الله عليه وسلم - قبض من بين أصحابة من بين أهله وعشيرته وزوجاته وأبنائه.
قبض - صلى الله عليه وسلم - ولم يجامله الموت لأن الله قضى بذلك (وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ).
ولكن السعيد الذي لا يحزن عليه هو الذي قدم خيراً، هو الذي عمل صالحاً، فهذا ما عند الله، خير وأبقى، خير له مما في هذه الدنيا من فتن ومحن ومصائب.
ولكن التعيس كل التعاسة ذاك الذي يحزن عليه وهذا الذي يتأسف عليه وهذا الذي خسر الخسران المبين لأنه ليس ثمة إعادة وليس ثمة محاولة أخرى.
فهذه هي داركم وهذه هي دار امتحانات فالكيس العاقل من دان نفسه وحاسبها وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني.
يا ابن أدم أحبب ما شئت فإنك مفارقه، وأعمل ما شئت فإنك ملاقيه وكن كما شئت فكما تدين تدان.
ألا وصلوا على سيد الأولين والآخرين محمد الصادق الأمين فقد أمركم بذلك رب العالمين بقوله: ((إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً)).
اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد، وارض اللهم عن الأئمة الخلفاء الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، أبي بكر الصديق، وعمر الفاروق، وذي النورين عثمان، وأبي السبطين علي وعن سائر الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين وعنا معهم بعفوك وكرمك يا أكرم الأكرمين
اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أعز الإسلام وانصر المسلمين واحفظ حوزة الدين وأذل الشرك والمشركين اللهم أبرم لهذه الأمة أمرا رشدا، يعز فيه أهل طاعتك ويذل فيه أهل معصيتك ويؤمر فيه بالمعروف وينهى فيه عن المنكر يا سميع الدعاء.
اللهم ارفع عنا الغلا والوبا والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ماظهر منها وما بطن عم بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة برحمتك يا أرحم الراحمين ربنا انصر المجاهدين في فلسطين وانصرهم في العراق وفي أفغانستان وفي الصومال وفي كل مكان أللهم أيدهم بتأييدك وانصرهم بنصرك، اللهم عليك بأعداء الإسلام فرق جمعهم وشتت شملهم اجعل الدائرة عليهم يا قوي يا عزيز.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
عباد الله: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون فاذكروا الله العلي الجليل يذكركم واسألوه من فضله يعطكم واشكروه على آلائه يزدكم وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء المنكر ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون.