هو محمد بن الحسين بن محمد بن خلف بن أحمد بن الفراء، يكنى بأبي يعلى، كان عالم زمانه وفريد عصره وقريع دهره، وكان له في الأصول والفروع القدم العالي. وأصحاب الإمام أحمد له يتبعون ولتصانيفه يدرسون ويدرِّسون، وبقوله يفتون، وعليه يعولون، والفقهاء على اختلاف مذاهبهم وأصولهم كانوا عنده يجتمعون ولمقاله يسمعون ويطيعون، به ينتفعون، وبالائتمام به يقتدون.
وقد شوهد له من الحال ما يغني عن المقال، لاسيما في مذهب الإمام أحمد واختلاف الروايات عنه، مع معرفته بالقرآن وعلومه، والحديث، والفتاوى والجدل، وغير ذلك من العلوم مع الزهد والورع والعفة والقناعة، وانقطاعه عن الدنيا وأهلها واشتغاله بسطر العلم وبثه وإذاعته ونشره.
- وهو شيخ الحنابلة، وممهد مذهبهم في الفروع.
إذا قالوا "القاضي" يعنون به أبو يعلى، ومن ألقابه عندهم أبو يعلى الكبير، وأبو يعلى الصغير هو ابنه.
قال ابن الجوزي: "كان من سادات العلماء الثقات".
قال عنه ابن كثير: "كان إماماً في الفقه له التصانيف الحسان الكثيرة في مذهب أحمد، ودرَّس وأفتى سنين، وانتهت إليه رياسة المذهب وانتشرت تصانيفه وأصحابه، وجمع الإمامة والفقه والصدق وحسن الخلق والتعبد والتقشف والخشوع وحسن السمت والصمت عما لا يعنيه". أ.هـ من البداية والنهاية.
- ولد لتسع وعشرين أو ثمان وعشرين ليلة خلت من المحرم سنة ثمانين وثلاثمائة، وكان أول سماعه للحديث سنة خمس وثمانين وثلاثمائة "وهو في الخامسة من عمره". له شيوخ كثر، أما تلاميذه وأصحابه الذين سمعوا منه الحديث فعدد كثير وجم غفير.
حفظ القرآن وقرأ بالعشر وحج سنة أربع عشرة وأربعمائة.
- قال عنه ابنه أبو يعلى الصغير: "ومن بحث عن أخلاقه وطرائقه وأخباره لم يخف عليه موضعه ومحله، ولو بالغنا لكنا إلى التقصير فيما نذكره من ذلك أقرب إذ انتشر على لسان الخطير والحقير ذكر فضله، سوى ما يضاف إلى ذلك من الجلالة والصبر على المكاره واحتماله لكل جريرة إن لحقته من عدو، وزلل إن جرى من صديق، وتعطفه بالإحسان على الكبير والصغير، واصطناع المعروف إلى الداني والقاصي، ومداراته للنظير والتابع. ولم يزل على طول الزمان يزداد جلالة ونبلاً وعلماً وفضلاً".
وقال أيضاً: "رزقه الله من شرف الأخلاق وكرم الأعراق والمجد المؤثل والرأي المحصل والفضل والفهم والإصابة والعزيمة الصافية والمعرفة الثاقبة والتفرد بكل فضيلة والسمو إلى كل درجة رفيعة من محمود الخصال والزهد والكمال ما يطول شرحه، حتى لم يكن له شبيه في وقته ولا نظير في فهمه ولم تقع أبصار أهل زمانه على مثله، وكانت أفعاله كأخلاقه وأخلاقه كأعراقه".
- وكانت له مواقف جليلة منها ما جرى أيام القائم بأمر الله حين انتشرت بعض التأويلات الفاسدة فكان دحرها على يد القاضي أبو يعلى، والشيخ الزاهد أبو الحسن القزويني.
- وقد تقدم على فقهاء زمانه بقراءته للقرآن بالقراءات العشر، وكثرة سماعه للحديث وعلو إسناده في المرويات، وقد حدث جماعة من الفقهاء ممن كانوا يحضرون مجلس إملائه وهو يملي حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنهم سجدوا على ظهور الناس في حلق الإملاء لكثرة الزحام.
قال ابنه أبو يعلى الصغير: "ما رأى الناس في زمانهم مجلساً للحديث اجتمع فيه ذلك الجمع الغفير والعدد الكثير، وسمعت من يذكر أنه حرز العدد بالألوف".
- قال فيه تلميذه على بن نصر العكبري لما ولي القضاء:
رفـــع الـــلـــه رايــة الإســـلام حـــيــن ردت إلـى الأجـــل الإمـــام
الــتقـــي النــقــي ذي الـمـنطق الصائب فــي كـل حــجــة وكــــلام
بك يا ابن الحسين شدت عـرى الــديــن وقــامــت دعـائــم الإسلام
وقد امتدحه بعض أهل العلم فقال:
إن الإمام أبا يعلى فقيههم حبر عروف بما يأتي وما يذر
- توفي في العشرين من رمضان سنة ثمان وخمسين وأربعمائة، عن ثمان وسبعين سنة وقد رثى بمراثي كثيرة تدل على منزلته ومكانته وعلمه منها:
لهف نفسي على إمام حـوى الـ فضل بصير بالمـشكلات عــليــم
خـلــق طــاهــر ووجـــه منــيــر وطــريــق إلى الهـدى مـستقـيـم
كـان للـدين عــدة ولأهـل الديــن فـــي النـائبــات خـــل حــمــيــم
مـــن يــكـن للـدروس بـعــدك أم مـن بـجـدال المـخالـفـيـن يقوم؟
من لفهم الحديث ولطرقه يـستـو ضح مــنـه صـحيـحه والسـقــيم
من لفصل القضاء إن أشكل الحـ ـكم وضجت بالنازلات الخصوم؟