التكــافل.. فضله ووسائل تحقيقه
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه، أما بعد:-
فإن من أعظم محاسن شريعة الإسلام ما امتاز به عن سائر الأديان من الرحمة والشفقة بالناس جميعاً، قال تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } الأنبياء :107 وقال صلى الله عليه وسلم : " إنما بعثني رحمة للعالمين " رواه أبو داود وصححه الألباني . وقال - عليه الصلاة والسلام-: (إني لم أبعث باليهودية ولا بالنصرانية ، ولكني بعثت بالحنيفية السمحة ) رواه الإمام أحمد، وحسنه الألباني.
ومن عظم هذه الشريعة أيضاً ، أنها تميزت بميزات لا توجد في غيرها من الملل والنحل سواء كانت نحلاً ودياناتٍ سماوية أو أرضية ، وهي تجعل من أفراد هذه الشريعة كتلة واحدة كالبنيان أو كالبنان يشد بعضه بعضاً ، ومن هذه الخصائص قضية التكافل والتكامل بين أفراد المجتمع المسلم ، وهي قضية تنبع من جوهر الإسلام ، وتنطلق من الأساس الذي أرسل من أجله الرسل ، وهو أن يكون الناس أمة واحدة ، في كل جانب وفي كل منحى ، يكونون أمة واحدة في معتقداتهم وعباداتهم ، أمة واحدة في توادهم ، أمة واحدة في تراحمهم ، أمة واحدة في تعاطفهم ، وأمة واحدة كذلك في تداعيهم وتناصرهم .
ولنقف مع هذه القضية مبيّنين فضلها ووسائلها ومدعمين ذلك بالأدلة من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ...
الحث على التعاون والتكافل من الكتاب والسنة :
قال الله –تعالى-: {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة.
وقال –تعالى-: {لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتَغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا} (114) سورة النساء.
فهاتان الآيتان فيهما دلالة واضحة على ضرورة التعاون والتكافل، ففي الآية الأولى الأمر بالتعاون، وفي الآية الثانية نفى الله الخير عن كثير من نجوى الناس وكلامهم، والمحادثات بينهم إلا ما يتعلق بثلاثة أمور تعود بالنفع على الجميع، على الكافل المتعاون وعلى المكفول المعان وهي: الأمر بالصدقة والحث عليها، والأمر بالمعروف، والإصلاح بين الناس، وكلها من أعظم مقاصد الدين.
وقال – تعالى-: {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} (177) سورة البقرة.
وقال –تعالى-: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ} (10) سورة الحجرات. وهذه الأخوة تستلزم التكافل، والتكامل ، كما قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: (مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتعاطفهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضوٌ تداعى له سائر الأعضاء بالسهر والحمى) رواه مسلم وأحمد.
وقال -صلى الله عليه وسلم-: (لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحبه لنفسه) رواه البخاري.
وفي الحديث الآخر: عن عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (( المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يسلمه، ومن كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كربات يوم القيامة، ومن ستر مسلماً ستره الله يوم القيامة)) رواه البخاري وأحمد وغيرهما واللفظ للبخاري.
وعن جرير بن عبد الله البجلي -رضي الله عنه- قال: كنا في صدر النهار عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجاءه قوم عراة مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف، عامتهم من مضر بل كلهم من مضر، فتمعر وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- لما رأى بهم من الفاقة ، فدخل ثم خرج، فأمر بلالاً فأذن وأقام فصلى ثم خطب فقال : {
يَ
ا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} والآية التي في الحشر : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } " تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من ثوبه، من صاع بره; " حتى قال : " ولو بشق تمرة " قال: فجاء رجل من الأنصار بصُرَّة كادت كفه تعجز عنها، بل قد عجزت، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب، حتى رأيت وجه رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تهلل كأنه مذهبة، فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ( من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيء) أخرجه مسلم في صحيحه .
والأدلة التي تبين فضل ودعوة الإسلام للتكافل والتكامل ، والتعاون ،كثيرة جداً ، وفيما ذكر غنية وكفاية ....
ولكن إذا كان التكافل يعد هدفاً ومطلباً من مطالب الشريعة التي دعت إليها وحثت عليها ، فكيف يمكن لنا الوصول إليه ؟ أو ما هي السبل التي نستطيع من خلالها تحقيقه ؟
من وسائل تحقيق التكافل:
إن المجتمع بكل فئاته وتخصصاته المختلفة مسؤول عن تحقيق التكافل الذي أراده الإسلام، حتى وإن كان أكثر الدول اليوم قد تخلت عن هذه المهمة العظيمة ، وأضاع الراعي الرعية ، وضيعت الأمانة ، وانتشر الفقر والجهل والبطالة ، ولم تبق من واجبات الولاية سوى شعارات جوفاء لا حقيقة لها ، تظل هذه المسؤولية قائمة وباء المضيع لها بالإثم... ويمكن أن نقسم مسؤولية المجتمع في تحقيق التكافل إلى قسمين:
أ- قسم يطالب به الأفراد إلزاماً.
ب- قسم يطالب به الأفراد تطوعاً واستحباباً.
أما ما طولبوا به على وجه الإلزام والإيجاب في تحقيق التكافل الاجتماعي فهو يدخل في الأمور الآتية:
الزكاة;: فرض الله الزكاة كما فرض الصلاة تماماً، وجعلها ركناً من أركان الإسلام، فقال –تعالى-:{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ} (24-25) سورة المعارج . وقال –تعالى-:{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} ، وقال –تعالى-:{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاء وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ} (5) سورة البينة . وتوعد الله الذي يكنزون الأموال ولا يخرجون زكاتها بالعذاب الشديد حيث قال –تعالى-: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} (34) سورة التوبة. وجعل إيتاء الزكاة شرطاً للإسلام فقال: {فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} (11) سورة التوبة. وفي السُّنَّة: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً) رواه البخاري ومسلم، وقال عليه السلام: ( أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام، وحسابهم على الله تعالى) رواه البخاري ومسلم.
وقد شرعت الزكاة حكم عظيمة منها دفع حاجة الفقراء الذين هم السواد الأعظم في غالب البلاد. وفيها توسعة وبسطاً للأموال فإن الأموال إذا صرف منها شيء اتسعت دائرتها وانتفع بها كثير من الناس ، بخلاف إذا كانت دولة بين الأغنياء لا يحصل الفقراء على شيء منها .
إضافة أن في الزكاة تقوية للمسلمين ورفعاً من شأنهم ، ولذلك كان أحد جهات الزكاة الجهادُ في سبيل الله ، وإزالة للأحقاد والضغائن التي تكون في صدور الفقراء والمعوزين ، فإن الفقراء إذا رأوا تمتع الأغنياء بالأموال وعدم انتفاعهم بشيء منها ، لا بقليل ولا بكثير ، فربما يحملون عداوة وحقداً على الأغنياء حيث لم يراعوا لهم حقوقاً ، ولم يدفعوا لهم حاجة ، فإذا صرف الأغنياء لهم شيئاً من أموالهم على رأس كل حول زالت هذه الأمور وحصلت المودة والوئام . فالزكاة أمر ضروري لإصلاح الفرد والمجتمع
ونحن نقرأ ونسمع أن المسلمين لما طبقوا هذا المبدأ العظيم في العصور الفاضلة، وعصر الخلفاء الراشدين من الصحابة رضي الله عنهم، وخاصة عهد عمر بن عبد العزيز لم يكن هناك فقراء ، ونجح هذا المبدأ في محاربة الفقر، وجعل الناس في أرفه عيش، وأتم نعمة، حتى أن الرجل في عهد عمر بن عبد العزيز -رحمه الله- كان يطوف بصدقه لا يجد من يأخذها منه! وذلك لشمول الزكاة كل الفقراء والمحتاجين...
إن للدولة الحق في أن تجبي وتجمع أموال الزكاة وتصرفها في مصارفها التي بينها الله –تعالى- ، لا أن دولة بين الأغنياء يستأثر بها الزعماء والوجهاء أو تصرف في غير محلها، بل يجب أن تصل إلى كل فقير محتاج، فتصل إلى ، والفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم والذين هم في الرق والمجاهدين في سبيل الله ، والمنقطعين في السبل ومن تحلوا الحمالات والديون ، من غير مذلة أو استجداء .
النذور: وصيغة النذر أن يقول الإنسان: (لله عليَّ ألف ريال أو دينار أو درهم صدقة على الفقراء) أو النذر المشروط (لله علي عشرة آلاف إن فزت أو نجحت أو نجاني الله من كذا...)) نحوها العبارات التي يلتزم بها المكلف على نفسه بالأداء . ويجب الوفاء بالنذر، لقوله –تعالى-:{وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ } (29) سورة الحـج.
ولقد مدح الله عباده وأثنى عليهم، وبين أن من أسباب دخولهم الجنة وفاءهم بالنذر:{يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا} (7) سورة الإنسان .
وفي النذر صورة تكافل اجتماعي لأن الإنسان إذا نذر عاد عائد الوفاء بالنذر على الفقراء صب في مصلحة المحتاجين.
الكفارات: جعلت الكفارات محواً للذنب، جراء الوقوع في الخطأ، أو التراجع عن فعل ما ألزم به العبد نفسه كالنذر واليمين.. ويعود النفع فيها أيضاً على المحتاجين والبائسين.. فمن الكفارات:
كفارة اليمين: من حلف يميناً ولم يوفِ بما حلف عليه- كأن يقول: (والله لأفعلن كذا) مصمماً وعاقداً عليه قلبه، ولم يفعل ذلك الفعل- وجبت عليه الكفارة، والدليل قول الله -تعالى-: {لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} (89) سورة المائدة.
كفارة قتل الصيد في الحرم أو قتل المحرم للصيد في الحرم وفي غيره: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّدًا فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ} (95) سورة المائدة.. أي أن من قتل أي صيد من صيد الحرم سواء كان غزالاً أو حماماً أو غيرهما فعليه الكفارة وهي كما ذكر الله في هذه الآية، وأيضاً من قتل الصيد وهو محرم بحج أو عمرة وإن لم يكن في الحرم المكي فإن عليه الكفارة السابقة، كمن كان محرماً من الميقات الذي يوافق بلده، فعرض له أثناء الطريق صيد فإنه لا يجوز له صيده، فإن صاده لزمته الكفارة.
كفارة من يحلق رأسه في الإحرام بالحج:{فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } (196) سورة البقرة.
كفارة الظهار : لقوله تعالى :{فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ} (4) سورة المجادلة.
وكذلك من أفطر في رمضان لمرض أو شيخوخة ولا يستطيع القضاء... وجبت عليه الكفارة قد بدلاً عن القضاء فيطعم عن كل يوم مسكيناً.
وهذه الكفارات شرعت لحكم عظيمة منها أنها تطهير للنفس من ذرن المخالفة و عوض النقص والخلل المحدث في الواجب، وكذا شرعت رحمة بالمحتاجين والفقراء..
4. صدقة الفطر:
عن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: (فرض رسول الله-صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر من رمضان صاعاً من تمر، أو صاعاً من شعير، على العبد والحر والذكر والأنثى والصغير والكبير من المسلمين) رواه البخاري ومسلم . وفي رواية لأبي داود من حديث ابن عباس " فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو والرفث وطعمة للمساكين من أداها قبل الصلاة فهي زكاة مقبولة ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات "
والوجوب هنا ليس على المكلف – بمعنى أن إخراجها ليس على المكلف فقط – بل تخرج على كل أفراد الأسرة لا يستثنى من ذلك أحد، وهي طهرة للصائم من اللغو والرفث، كما أنها طعمة للمساكين، وفرحة لهم يوم العيد..
ولو عمل الناس بهذه المبادئ لحلت كثير من مشاكل المجتمعات التي أصبحت تقض مضاجع الناس، وتؤرق عيون البائسين... إن الحل الوحيد لهذا الوباء القاتل ، وهذا الظلم الفادح الذي عمّ عالم اليوم، هو الرجوع دين الله الحق الذي أرسل به رسوله؛ ليخرج العالم من دياجير الظلام إلى رحمة العزيز الرحيم..
فما أعظم فرحة المسكين المحروم يوم أن تنظر إليه عيون الأغنياء، وتمتد إليه أيدي الأغنياء ، ليرفعوا عنه أنواعاً من البؤس والشقاء .
5. إسعاف الجائع والمحتاج:
إذا وجد جائع بين ظهراني المسلمين، وجب عليهم إطعامه، وهذا يعد من فروض الكفايات التي إذا قام بها البعض سقط الحرج عن الآخرين.. ولا يصح في شريعة الإسلام ولا يجوز في عرف الشهامة والمروءة أن يرى المسلم جاره أو قريبه يتلوى في العري والجوع والحرمان، ولا يقدم له معونة من مال أو لباس أو طعام... ويرى الغريب الذي انقطعت به السبل ثم لا يضيفه .
ولهذا فقد ثبت في البخاري عن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق -رضي الله عنهما- أن أصحاب الصفة كانوا أناساً فقراء، وأن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: (من كان عنده طعام اثنين فليذهب بثالث، ومن كان عنده طعام أربعة فليذهب بخامس أو سادس ) وروى مسلم عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: (من كان معه فضل ظهر -أي مركوب- فليعد به على من لا ظهر له، ومن كان له فضل زاد فليعد به على من لا زاد له) فذكر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من أصناف المال ما ذكره، حتى رأينا أنه لا حق لأحد منا في فضل).
وقا لعليه الصلاة والسلام : " أيما ضيف نزل بقوم فأصبح الضيف محروما فله أن يأخذ بقدر قراه ولا حرج عليه " . صححه الألباني من حديث أبي هريرة رضي الله عنه .انظر حديث رقم: 2730 في صحيح الجامع.
وعن أبي شريح الكعبي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليكرم ضيفه جائزته يوم وليلة والضيافة ثلاثة أيام فما بعد ذلك فهو صدقة ولا يحل له أن يثوي عنده حتى يحرجه . متفق عليه
وعن أبي الخير عن عقبة بن عامر قال قلنا للنبي صلى الله عليه وسلم إنك تبعثنا فننزل بقوم لا يقرونا فما ترى فيه فقال: "لنا إن نزلتم بقوم فأمر لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا فإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي له ". متفق عليه
فهذه هي الوسائل التي تحقق التكافل الاجتماعي في الإسلام شرعها الله إلزاماً ووجوباً على المسلمين، وفيها ما فيها من الأهداف العالية والمقاصد السامية.
وأما الوسائل المستحبة التي تحقق التكافل فمنها:
1. الأضاحي:
على قول من قال إنها سنة لا تجب على أحد.. والأضحية هي ما يذبحه الإنسان يوم عيد الأضحى ، وقد سنَّ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سنة طيبة في الأضحية تدل على الرحمة والاعتناء بالآخرين، حيث كان يأكل ثلث الأضحية، ويهدي ثلثها، ويتصدق بثلثها). وهذا يدل على تمام التعاضد والتكافل والنظر إلى الآخرين.
وقد أرشد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلى الإهداء والتصدق في يوم فرح الناس؛ لأنه كيف يحل أن يفرح قلة من الناس ويبأس آخرون؟.. هذا لا يصح في نظام الإسلام ، وعدله .
2. الأوقاف:
إن مما ينتفع به العبد بعد موته وينفع به المساكين ، الأموال والعقارات التي يوقفها على ما يعود بالنفع للمحرومين... وذلك كمن يوقف مزارع لفقراء معينين أو لأهل بلدة معينة.. ومن يوقف محلات تجارية وغيرها؛ ليعود صالحها للمحتاجين..
وقد قال -صلى الله عليه وسلم-: (إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقةٌ جارية، أو علم ينتفع به، أو ولدٌ صالح يدعو له) رواه مسلم.
3. الوصيَّة:
الوصية مشروعة في الإسلام ؛ بقوله الله –تعالى-:{مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ } (11) سورة النساء .
وقول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي به يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده) رواه البخاري ومسلم. وهي أن يجعل الإنسان جزءاً من ماله لإنسان معين غير الورثة؛ لأن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: (لا وصية لوارث)رواه أبو داود وابن ماجه وصححه الألباني, وذلك أن الوارث سيأخذ من مال الميت، فلا حاجة للوصية له.. والوصية تكون بالثلث فأقل؛ لقوله -صلى الله عليه وسلم- لسعد بن أبي وقاص: (الثلث والثلث كثير)رواه البخاري ومسلم. وذلك حتى لا يترك الميت ورثته فقراء.. وهي صورة من صور التكافل ووسيلة من وسائل تحقيق التعاضد والتكافل بين المسلمين؛ لأن فيها عطفاً وإحساناً، خاصة إذا ما كان الموصى له فقيراً محتاجاً .
4. العارية:
من وسائل تحقيق التعاون والتكافل العارية، وهي أن ينتفع الناس بحوائج الغير من غير مقابل، من وعاء، وإناء، ودلو، وفأس، وغيرها، مما تعارف عليه الناس، ثم يرد بعد الانتفاع به دون مقابل، وهذه من أعمال الخير والبر التي تحقق التآلف، والتعارف، والتكاتف، وقد ثبت أن النبي -صلى الله عليه وسلم- استعار فرساً من أبي طلحة فركبه، واستعار درعاً من صفوان بن أمية يوم حنين، فقال له صفوان: أغصب يا محمد أم عاريَّة؟ قال: (بل عارية مضمونة)صححه الألباني في السلسلة(631)، وهي داخلة في عموم قوله –تعالى-:{ وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ} (2) سورة المائدة ، وقد توعد الله من يمنع الناس هذه الحوائج ويحتكرها لنفسه، ولا يشارك في أعمال البر والتعاون بالوعيد الشديد؛ حيث قال:{فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَن صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ} والماعون كل ما ينتفع به الناس، ويعين به بعضهم بعضاً، وهذا الأمر من أهم ما يحقق التكافل بين الناس خاصة إذا ما كان المحتاج لذلك (الماعون) من الفقراء وكان المعير غنياً..
5. الإيثار:
وإن مما يدل على حب الله ورسوله والإيمان الصادق الإيثار، وهو تقديم الغير على شهوة وملذة النفس الدنيوية رغبة في الأجر، وهو من أرفع خصال درجات الإيمان؛ لأن المحققين له قلة قليلة، ولهذا امتدح الله الصحابة الكرام بهذا الشرف العظيم:{وَالَّذِينَ تَبَوَّؤُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} (9) سورة الحشر .
وقد ثبت في سبب نزول الآية قصة عجيبة سطرها التاريخ وحفظتها الأجيال:
عن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: (جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: إني مجهود – أي جائع ومتعب- فأرسل إلى بعض نسائه فقالت: والذي بعثك بالحق ما عندي إلا ماء، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (من يضيف هذا الليلة؟) فقال رجل من الأنصار: أنا يا رسول الله، فانطلق به إلى رحله – أي بيته- فقال لامرأته: أكرمي ضيف رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، وفي رواية: قال لامرأته: هل عندكِ شيء؟ قالت: لا، إلا قوت صبياني، قال: فعلِّليهم بشيء، وإذا أرادوا العشاء فنوّميهم، وإذا دخل ضيفنا فأطفئي السراج، وأريه أنا نأكل، فقعدوا وأكل الضيف وباتا طاويين (أي جائعين) فلما أصبح غدا على النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال: (لقد عجب الله من صنيعكما البارحة!) رواه البخاري ومسلم..
ومن الأخبار العجيبة في الإيثار ما فعلته عائشة -رضي الله عنها- حين تصدقت بمائة ألف درهم وليس عليها إلا ثوب قديم وكانت صائمة، فقالت لها خادمتها: لو أبقيتِ شيئاً لتفطري عليه! فأجابتها: لو ذكرتني لفعلت!! وتصدقت مرة برغيف ليس عندها غيره وهي صائمة، فذكرتها خادمتها فقالت: ادفعي الرغيف ولن يضيعنا الله! فأهدي إليها في المساء شاة وطعام، فقالت لخادمتها: كلي!! هذا خير من قرصك!) أي رغيفك.. رواه مالك في الموطأ.
(على مثل هذه المكارم من التضحية والإيثار ونكران الذات قام التكافل الاجتماعي في دولة الإسلام، وقامت معه الضمانات المعيشية على أساس من البر والخير والتعاطف والرحمة، فيا مفاخر التاريخ..! ويا عجائب الزمن!.. هل تلد الحياة أقواماً تلهج الحياة بذكرهم؟ وهل يطل على الوجود أناس تتغنى الدنيا بمآثرهم؟!)..
6. الهدية:
من وسائل تحقيق التكافل المستحبة: الهدايا بين الناس، وهدفها غرس المحبة والتآلف بين القلوب، وقد قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: (تهادوا تحابوا) رواه البخاري في الأدب المفرد والبيهقي وهو حسن، وروى البخاري عن عائشة أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يقبل الهدية ويثيب عليها (
).
فهذه أهم الوسائل العملية التي لو عمل بها الناس لحلت كثير من مشاكلهم الاجتماعية والاقتصادية.
نسأل الله أن ييسر من يحقق هذا الأمر.. وأن يصلح أحوالنا..
والله الموفق..