وفـد عبد القـيس
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم النبيين والمرسلين، وهادي الناس بإذن ربه إلى نور الإيمان واليقين.. أما بعد:
فإن الله تعالى لما مكن لنبيه -صلى الله عليه وسلم- في الأرض، وفتح الفتوح العظيمة في الجزيرة العربية وما حواليها، جاءت إليه الوفود من كل بقعة يدخلون في دين الله أفواجاً، ومن تلك الوفود التي قدمت عليه -صلى الله عليه وسلم- وفد عبد القيس، قال ابن حجر: (وهي قبيلة كبيرة يسكنون البحرين، ينسبون إلى عبد القيس بن أَفْصى)
، يقول ابن عباس -رضي الله عنه-:
وفَدَ عبدُ القيس على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "مرحباً بالقوم غير خزايا ولا ندامى" فقال: يا رسول الله إن بيننا وبينك المشركين من مضر، وإنا لا نصل إليك إلا في الشهر الحرام، فحدثنا بجميل من الأمر إن عملنا به دخلنا الجنة وندعو به مَن وراءنا.
قال: "آمركم بأربع، وأنهاكم عن أربع: الإيمان بالله، هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله، وإقام الصلاة، وإيتاء الزكاة، وصوم رمضان، وأن تعطوا من المغانم الخمس. وأنهاكم عن أربع: ما ينتبذ في الدُّبَّاء، والنقير، والحنتم، والمزفت".
وكان ممن حضر في هذا الوفد رجل يقال له: أشج عبد القيس، وكان رجلاً حليماً وقوراً فقال له رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: "إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة"
وفي رواية أبي داود: قال: يا رسول الله أنا أتخلق بهما أم الله جبلني عليهما؟ قال: "بل الله جبلك عليهما" قال: الحمد لله الذي جبلني على خلتين يحبهما الله ورسوله.
وعن هند بنت الوازع أنها سمعت الوازع يقول: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم والأشج المنذر بن عامر -أو عامر بن المنذر- ومعهم رجل مصاب فانتهوا إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما رأوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وثبوا من رواحلهم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقبلوا يده، ثم نزل الأشج فعقل راحلته وأخرج عيبته ففتحها، فأخرج ثوبين أبيضين من ثيابه فلبسهما، ثم أتى رواحلهم فعقلها فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "يا أشج إن فيك خصلتين يحبهما الله عز وجل ورسوله: الحلم والأناة" فقال يا رسول الله أنا تخلقتهما أو جبلني الله عليهما؟ فقال: "بل الله جبلك عليهما" قال: الحمد الله الذي جبلني على خلقين يحبهما الله عز وجل ورسوله.
فقال الوازع: يا رسول الله إن معي خالاً لي مصاباً فادع الله له، فقال: "أين هو؟ آتيني به" قال: فصنعت مثل ما صنع الأشج: ألبسته ثوبيه وأتيته، فأخذ من ورائه يرفعها حتى رأينا بياض إبطه، ثم ضرب بظهره فقال: "اخرج عدو الله" فولى وجهه وهو ينظر بنظر رجل صحيح.
وعن هود العصري عن جده قال: بينما رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يحدث أصحابه إذ قال: يطلع عليكم من هذا الوجه ركب من خير أهل المشرق، فقام عمر بن الخطاب فتوجه في ذلك الوجه، فلقي ثلاثة عشر راكباً فرحَّب وقرَّب، وقال: من القوم؟ قالوا: قوم من عبد القيس، قال: فما أقدمكم هذه البلاد؟ التجارة! قالوا: لا، قال: فتبيعون سيوفكم هذه؟ قالوا: لا، قال: فلعلكم إنما قدمتم في طلب هذا الرجل؟ قالوا: أجل، فمشى معهم يحدثهم حتى نظر إلى النبي -صلى الله عليه وسلم- فقال لهم: هذا صاحبكم الذي تطلبون، فرمى القوم بأنفسهم عن رحالهم، فمنهم من سعى سعياً، ومنهم من هرول، ومنهم من مشى، حتى أتوا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذوا بيده يقبلونها وقعدوا إليه، وبقي الأشج -وهو أصغر القوم- فأناخ الإبل وعقلها، وجمع متاع القوم ثم أقبل يمشي على تؤدة حتى أتى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فأخذ بيده فقبلها، فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (فيك خصلتان يحبهما الله ورسوله) قال: وما هما يا نبي الله؟
قال: (الأناة والتؤدة) قال: أجَبْلاً جبلت عليه أو تخلقاً مني؟ قال: بل جبل، فقال: الحمد لله الذي جبلني على ما يحب الله ورسوله.
وأقبل القوم قِبل تمرات لهم يأكلونها فجعل النبي -صلى الله عليه وسلم- يسمي لهم هذا كذا وهذا كذا قالوا: أجل يا رسول الله ما نحن بأعلم بأسمائها منك، قال: (أجل) فقالوا لرجل منهم: أطعمنا من بقية الذي بقي من نوطك، فقام فأتاه بالبرني فقال النبي -صلى الله عليه وسلم-: (هذا البرني، أما إنه من خير تمراتكم إنما هو دواء ولا داء فيه)
.
قال ابن إسحاق: "وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم الجارود بن عمرو بن حنش، أخو عبد القيس". قال ابن هشام: "وهو الجارود بن بشر بن المعلى في وفد عبد القيس وكان نصرانيا، قال ابن إسحاق: وحدثني من لا أتهم عن الحسن قال: لما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كلمه، فعرض عليه الإسلام، ودعاه إليه، ورغبه فيه، فقال: يا محمد إني كنت على دين وإني تارك ديني لدينك أفتضمن لي ديني؟! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "نعم، أنا ضامن أن قد هداك الله إلى ما هو خير منه" قال: فأسلم وأسلم أصحابه، ثم سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحملان فقال: "والله ما عندي ما أحملكم عليه".
قال: يا رسول الله إن بيننا وبين بلادنا ضوالاً من ضوال الناس: أفنتبلغ عليها إلى بلادنا، قال: "لا، إياك وإياها، فإنما تملك حرق النار".
قال: فخرج الجارود راجعا إلى قومه، وكان حسن الإسلام صلباً على دينه حتى هلك، وقد أدرك الردة، فلما رجع من قومه من كان أسلم منهم إلى دينهم الأول مع الغرور بن المنذر بن النعمان بن المنذر، قام الجارود فتشهد شهادة الحق ودعا إلى الإسلام فقال: أيها الناس إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، وأكفر من لم يشهد.
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي قبل فتح مكة إلى المنذر بن ساوى العبدي، فأسلم فحسن إسلامه، ثم هلك بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ردة أهل البحرين، والعلاء عنده أميراً لرسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين ولهذا روى البخاري: عن ابن عباس قال: أول جمعة جمعت في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد عبد القيس بجواثى من البحرين، وروى البخاري عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخر الركعتين بعد الظهر بسبب وفد عبد القيس حتى صلاهما بعد العصر في بيتها.
قال ابن كثير: "لكن في سياق ابن عباس -أي ما جاء أول الدرس هذا- ما يدل على أن قدوم وفد عبد القيس كان قبل فتح مكة؛ لقولهم: وبيننا وبينك هذا الحي من مضر لا نصل إليك إلا في شهر حرام. والله أعلم".
ويؤكد هذا المعنى الحافظ ابن حجر حيث يقول: "والذي تبين لنا أنه كان لعبد القيس وفادتان: إحداهما قبل الفتح، ولهذا قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم: "بيننا وبينك كفار مضر" وكان ذلك قديماً إما في سنة خمس أو قبلها، وكانت قريتهم بالبحرين أول قرية أقيمت فيها الجمعة بعد المدينة، كما ثبت في آخر حديث في الباب، وكان عدد الوفد الأول ثلاثة عشر رجلاً، وفيها سألوا عن الإيمان وعن الأشربة، وكان فيهم الأشج... إلى أن قال ابن حجر: ثانيتهما: كانت في سنة الوفود، وكان عددهم حينئذ أربعين رجلاً، كما في حديث أبي حيوة الصنابحي الذي أخرجه ابن منده، وكان فيهم الجارود العبدي، وقد ذكر ابن إسحاق قصته وأنه كان نصرانياً فأسلم وحسن إسلامه. ويؤيد التعدد ما أخرجه ابن حبان من وجه آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم: "ما لي أرى ألوانكم تغيرت!" ففيه إشعار بأنه كان رآهم قبل التغير".
وقد جاء في مسند الإمام أحمد تفصيل خبر عبد القيس، كما روى ذلك شهاب بن عباد: أنه سمع بعض وفد عبد القيس وهم يقولون: قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد فرحهم بنا، فلما انتهينا إلى القوم أوسعوا لنا، فقعدنا فرحب بنا النبي صلى الله عليه وسلم ودعا لنا، ثم نظر إلينا فقال: "من سيدكم وزعيمكم؟" فأشرنا بأجمعنا إلى المنذر بن عائذ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: "أهذا الأشج؟" وكان أول يوم وضع عليه هذا الاسم بضربة لوجهه بحافر حمار، قلنا: نعم يا رسول الله، فتخلف بعد القوم، فعقل رواحلهم وضم متاعهم، ثم أخرج عيبته فألقى عنه ثياب السفر، ولبس من صالح ثيابه، ثم أقبل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقد بسط النبي صلى الله عليه وسلم رجله واتكأ، فلما دنا منه الأشج أوسع القوم له وقالوا: ههنا يا أشج، فقال النبي صلى الله عليه وسلم -واستوى قاعداً وقبض رجله-: "ههنا يا أشج" فقعد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم فرحب به وألطفه وسأله عن بلاده، وسمى له قريةً قرية: الصفا والمشقر، وغير ذلك من قرى هجر، فقال: بأبي وأمي يا رسول الله لأنت أعلم بأسماء قرانا منا! فقال: إني قد وطئت بلادكم وفسح لي فيها، قال: ثم أقبل على الأنصار فقال: "يا معشر الأنصار أكرموا إخوانكم فإنهم أشباهكم في الإسلام، أشبه شيئاً بكم أشعاراً وأبشاراً، أسلموا طائعين، غير مكرهين ولا موتورين، إذ أبى قوم أن يسلموا حتى قتلوا" قال: فلما أن أصبحوا قال: "كيف رأيتم كرامة إخوانكم لكم وضيافتهم إياكم؟" قالوا: خير إخوان ألانوا فراشنا وأطابوا مطعمنا وباتوا وأصبحوا يعلمونا كتاب ربنا تبارك وتعالى، وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم، فأعجبت النبي صلى الله عليه وسلم وفرح بها ثم أقبل علينا رجلاً رجلاً، فعرضنا عليه ما تعلمنا وعلمنا، فمنا من علم التحيات وأم الكتاب والسورة والسورتين والسنن، ثم أقبل علينا بوجهه فقال: "هل معكم من أزوادكم شيء؟" ففرح القوم بذلك وابتدروا رحالهم، فأقبل كل رجل منهم معه صرة من تمر فوضعوها على نطع بين يديه، فأومأ بجريدة في يده كان يختصر بها فوق الذراع ودون الذراعين، فقال: "أتسمُّون هذا التعضوض؟" قلنا: نعم، ثم أومأ إلى صرة أخرى فقال: "أتسمُّون هذا الصرفان؟" قلنا: نعم، ثم أومأ إلى صرة فقال: "أتسمون هذا البَرْني؟" قلنا: نعم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "أما إنه خير تمركم وأنفعه لكم" قال: فرجعنا من وفادتنا تلك فأكثرنا الغرز منه وعظمت رغبتنا فيه، حتى صار معظم نخلنا وتمرنا البرني، فقال الأشج: يا رسول الله إن أرضنا أرض ثقيلة وخمة وإنا إذا لم نشرب هذه الأشربة هيجت ألواننا، وعظمت بطوننا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشربوا في الدباء والحنتم والنقير وليشرب أحدكم في سقاء يلاث على فيه" فقال له الأشج: بأبي وأمي يا رسول الله رخص لنا في مثل هذه وأومأ بكفيه، فقال: "يا أشج إني إن رخصت لك في مثل هذه -وقال بكفيه هكذا- شربته في مثل هذه -وفرج يديه وبسطها، يعني أعظم منها- حتى إذا ثمل أحدكم من شرابه قام إلى ابن عمه فهزر ساقه بالسيف" وكان في الوفد رجل من بني عضل يقال له: الحرث، قد هزرت ساقه في شراب لهم في بيت تمثله من الشعر في امرأة منهم، فقام بعض أهل ذلك البيت فهزر ساقه بالسيف، فقال الحرث: لما سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم جعلت أسدل ثوبي فأغطي الضربة بساقي وقد أبداها الله تبارك وتعالى.
فهذه قصة وفد عبد القيس، سقناها واخترنا منها تلك الروايات التي تبين تفاصيل ما جرى بين النبي -صلى الله عليه وسلم- وأولئك الوفد العظيم الذي خلده التاريخ لما كان له من نصرة للإسلام وحب له ولأهله..
وفي ذلك الحدث العظيم من الفوائد والعبر ما لا يحصى، ولعل القارئ يجدها في غير هذا الدرس..
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وعلى صحبه الكرام وسلم تسليماً..
هذه الأسماء الأربعة لأنواع من الأوعية والآنية التي كانوا يضعون فيها النبيذ، وقد نهاه عن الانتباذ فيها لسرعة تخمر النبيذ فيها،، فالحنتم: الجرار يجلب فيها الخمر. والنقير: جذع ينقرون وسطه وينبذون فيه. والمزفت: الوعاء المطلي بالزفت، والزفت معروف من قديم الزمان، إلا أنه الآن طور وأنتجت منه مواد عديدة.