بتـــــاريخ : 9/17/2010 5:01:15 PM
الفــــــــئة
  • اســــــــلاميات
  • التعليقات المشاهدات التقييمات
    0 1179 0


    أبو البشر

    الناقل : SunSet | العمر :36 | الكاتب الأصلى : الشيخ الدكتور عائض بن عبد الله القرنى | المصدر : alislamnet.com

    كلمات مفتاحية  :

    هذه قصة أبينا آدم عليه السلام، قصة الخلق وسجود الملائكة له، وقصة الخطيئة، ونحن مثله أو أكثر، ومن شابه أباه فما ظلم، وتلك شنشنة نعرفها من أخزم.
    أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ((
    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)).
    هنا قضايا هائلة وأحداث عالمية عاشها
    آدم عليه السلام، وسمعها الأنبياء والرسل والملأ الأعلى.
    أولها: يقول سبحانه وتعالى: ((
    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ)) أي: كلفنا وأمرنا وتعبدنا الملائكة أن يسجدوا لـآدم .
    ((
    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ)) وفي هذه الكلمة قضايا:
    أولها: ما هو هذا السجود الذي يريده سبحانه وتعالى من الملائكة؟ وهل يُصرف السجود لغير الله؟
    في الحديث: أن
    معاذاً أتى من الشام قال: (يا رسول الله! رأيت العجم يسجدون لملوكهم وأنت أولى أن نسجد لك.
    قال صلى الله عليه وسلم: لو أمرت أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها، ولكن لا يكون إلا لله
    ) . (1)، فلا يسجد إلا لله، وهذه السجدة هي سجدة التشريف، ويوم تضع جبينك في الأرض على التراب يرفعك الله درجات، ففي حديث ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنك لن تسجد لله سجدة إلا رفعك بها درجة) (1) ، وعن ربيعة الأسلمي قال: قلت: (يا رسول الله! أريد مرافقتك في الجنة، فقال: فأعني على نفسك بكثرة السجود) (1) .
    كلما سجدت كلما رفعك الله، وكلما تحررت من العبادة لغير الله، من عبادة الوظائف والطواغيت والمناصب والدراهم والدنانير ارتفعت في مقامات العبودية.
    فهل هذا السجود الذي أمر الله به الملائكة لـ
    آدم السجود على الأرض مثلما نسجد للصلاة؟
    لأهل العلم رأيان أو قولان:
    يقول الأول: معناه: الانحناء والخضوع، وهو: أن يدهده رأسه وأن يخضع.
    والقول الثاني: معناه: أن يسجد للأرض، فالسجود لله، ولكن تكريماً لـ
    آدم ، وإجابة لأمر الله سبحانه وتعالى.
    والرأي الثاني هو الصحيح، وكان في شرع من قبلنا السجود للإكرام، قال سبحانه وتعالى في قصة
    يوسف : ((وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا))، أما عندنا في شريعتنا فلا يسجد إلا لله، ولا يسجد لعظيم مهما كان، ولا ينحنى له، فإن الانحناء محرم.
    وفي هذا قضايا أثارها
    ابن تيمية و ابن القيم وغيرهما: هل الملائكة أفضل أو بنو آدم أفضل؟
    قال بعضهم: الملائكة أفضل؛ لأنهم أقرب إلى الله، ولأن الله رفع أمكنتهم، ولأن الله ما جعل عندهم شهوات، فإنهم عقول بلا شهوات، وابن آدم شهوة وعقل، والحيوان شهوة بلا عقل.
    ومنها: أنهم يسبحون الليل والنهار لا يفترون، وكل ما في السماء من ملك كلهم سجود إلى قيام الساعة، وهناك ملائكة لهم اختصاصات عجيبة، ومجال التوسع في بسط الكلام عنها يكون في موضوع الحديث عن الملائكة.
    واستدلوا بأدلة: منها: أنهم يستغفرون لمن في الأرض، والفاضل يسغفر للمفضول، ليس المفضول يستغفر للفاضل.
    وقال قوم: بل بنو آدم أفضل؛ لأنهم ركبت فيهم الشهوة، وصارعوا الشهوات، يعني: الصالحين، أما الكفرة فلا يوازنون بالحمير ولا بالخنازير ولا بالكلاب: ((
    إِنْ هُمْ إِلَّا كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا)).
    والصالحون كما يقول
    ابن تيمية : العبرة بكمال النهايات لا بنقص البدايات.
    فأما في الدنيا فالملائكة أفضل؛ لأنهم أقرب إلى الله، ولأنهم لا يذنبون ولا يخطئون ولا يعصون الله، وأما في الآخرة فإذا قرب الله بني آدم ودخلوا الجنة -نسأل الله من فضله- أصبحوا أفضل من الملائكة.

    بالله لفظك هذا سال من عسل أم قد صببت على أفواهنا العسلا


    ((
    وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا)).
    أولاً: خلق الله
    آدم من طين لازب، من حمأ مسنون، قالوا: من فخار، والطين اللازب: هو الطينة اللزجة كالغرا، فلما خلقه الله تركه أربعين يوماً طيناً، تدخل الرياح من فمه وتخرج من دبره.. انظر إلى الخلق الضعيف، وانظر إلى أصل النشأة، وانظر إلى الناس جميعاً؛ ملوكاً ومملوكين، ورؤساء ومرءوسين، وأغنياء وفقراء، كلهم من هذا الطين، ثم انظر إلى المتكبرين المتجبرين في الأرض!
    الذي ما ينظر بعين البصيرة إنما ينظر بعين البصر يتيه تيهاناً، ويهيج هيجاناً، ويمشي وكأنه ليس من ذاك الأصل.
    أحد وزراء بني أمية وزير متكبر متجبر، عنده بغال وعنده خيول وسيوف، وعنده حشم، مرّ و
    الحسن البصري جالس، فقام له الناس إلا الحسن البصري .
    فالتفت الوزير قال: ما عرفتني؟
    قال
    الحسن البصري : لما عرفتك ما قمت.
    قال: من أنا؟
    قال: أنت الذي خرج من مخرج البول مرتين، أنت تحمل العذرة، وأصلك تعاد إلى جيفة قذرة، وأتيت من نطفة مذرة، فسكت، فكأنما أغشي على وجهه النار.
    دخل
    المهدي العباسي مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم فقام الناس له جميعاً إلا ابن أبي ذئب المحدث الكبير ما قام، جلس فسلم على الحضور، ثم التفت إلى ابن أبي ذئب قال: ما لك لا تقوم لنا وقد قام لنا الناس؟ قال: أردت أن أقوم لك فتذكرت قوله تعالى: ((يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ))، فتركت القيام لذلك اليوم، قال: اجلس والله لقد أقمت كل شعرة من رأسي.
    عن
    طاوس بن كيسان العالم الثقة الزاهد العابد المحدث تلميذ ابن عباس قال: دخلت الحرم فطفت، ثم صليت ركعتين عند المقام، ثم جلست أنظر في الناس أتفكر في هذه الخليقة، وهي والله عبرة من العبر انظر إلى المطارات إذا كنت في انتظار أو مغادرة، وانظر إلى الصالات والمستشفيات.. اختلاف الصور، اختلاف الأبدان، اللمحات، النظرات، السمات، كل واحد من الناس عالم مستقل في نفسه، هموم وغموم وأحزان وأقطار، شقي وسعيد، فقير وغني، سالم من الهموم ومتورط في المدلهمات فسبحان الباري!
    ومع ذلك فالله يراقب كل حركة من الناس، كل يوم هو في شأن، ما تفعل من حركة ولا سكنة ولا كلمة ولا خطوة إلا والله معك.. يموت هذا بعلم من الله، ويولد هذا يعلمه من الله، ويمرض هذا والله بعلمه، ويشفى هذا والله يعلمه.
    فجلس
    طاووس ينظر، فإذا بجلبة السلاح والحراس والرماح، فالتفت قال: فإذا هو الحجاج بن يوسف، قال: فالتفت فإذا جلبة السلاح فسكنت مكاني وإذا بأعرابي، أعرابي لكنه مسلم متصل بالله يطوف بالكعبة، فلما انتهى من الطواف أتى ليصلي ركعتين، فنشبت حربة في ثيابه فارتفعت فوقعت على الحجاج ، فمسكه الحجاج بيده.
    فقال له
    الحجاج : من أين أنت؟
    قال: من أهل
    اليمن .
    قال: كيف تركت أخي؟ وكان أخوه
    محمد بن يوسف عاملاً على اليمن .
    قال: من أخوك؟
    قال: أنا
    الحجاج أخي محمد .
    قال: تركته سميناً بطيناً -انظر إلى الإجابة ما أحسنها-.
    قال: ما سألتك عن حالته وسمنه وبطنته سألتك عن عقله؟
    قال: تركته غشوماً ظلوماً.
    قال: أما تدري أنه أخي؟
    قال: أتظن أنه يعتز بك أكثر من اعتزازي بالله؟
    قال
    طاووس : والله، ما بقيت في رأسي شعرة إلا قامت.
    قال
    ابن عبد الهادي : دخل ابن تيميةالإسكندرية ، دخل يريدون سجنه، فأخرجوه من سجنه إلى سجن آخر، لماذا يسجن؟ يسجن لتثبت لا إله إلا الله في الأرض، يرد على المبتدعة والملاحدة و الزنادقة و المعتزلة و الجهمية و الأشاعرة ، فقال له أحد المبتدعة: يا ابن تيمية! والله كل هؤلاء يطالبون بدمك، ويريدون قتلك الآن.
    فقال
    ابن تيمية : أتخوفني بالناس؟! ثم نفخ في كفه قال: والله كأنهم ذباب، لكن مَنْ مثل ابن تيمية ؟
    قال بعض المفسرين: لما خلق الله سبحانه وتعالى
    آدم تركه أربعين يوماً هكذا، فكان يمر به الشيطان فينظر إليه من طين فينفخ فيه فيجلجل نفخه فيه، فعرف أنه ضعيف لا يتماسك.
    قال الله عزّ وجل: ((
    وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا))، وخلق ظلوماً جهولاً، وخلق عجولاً، وهي في الإنسان طبيعة إلا إذا رتبها ونقاها وسيرها بالكتاب والسنة فإنها تصلح بإذن الله.
    فلما نفخ الله سبحانه وتعالى فيه من روحه -وهذا شرف- أحياه الله فقال للملائكة: (اسجدوا لـ
    آدم).
    ولنا أن نتساءل: لماذا أمر الله الملائكة بالسجود لـ
    آدم ؟
    أولاً: يمتحنهم للطاعة هل يطيعونه أم لا؟
    ثانياً: يرى من يعصي منهم.
    ثالثاً: يُري الناس فضل
    آدم عليه السلام، فقاموا فسجدوا جميعاً إلا إبليس تكبر، ولماذا تكبر؟
    قال
    ابن عباس : كان إبليس أعلم الملائكة لكن ما نفعه علمه، بل زهى وتكبر وافتخر.
    وقال في بعض الروايات -أوردها
    ابن كثير وغيره-: كان إبليس ملك السماء الدنيا، هو مسؤول عن السماء الدنيا، فأبى أن يسجد لما قال الله للملائكة: اسجدوا، فأتى يعترض ويقول لرب العزة الذي خلق السموات والأرض، ويعلم ما تحت الثرى، يقول: خلقتني من نار وخلقته من طين! أأسجد وأنا أشرف العناصر؛ عنصري من نار وعنصره من طين؟! والنار أشرف من الطين فكيف تسجد النار للطين؟! هذه الكلمة هي بداية الخذلان وبداية اللعنة وبداية الحرمان، اعتراضه هو الكبر: ((وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى)) هذه أشد المفتريات، رفض أن يسجد وأبى وامتنع، وما كفى في اللفظ أن يقول: أبى؛ بل قال: واستكبر؛ ولذلك كانت أركان الكفر ثلاثة:
    الحسد، والكبر، والكذب.
    فمن كان فيه كبر فقد أخذ ثلث الكفر، وما عليه إلا الباقي.
    الكبر هذا هو شعار
    إبليس -نعوذ بالله-.
    ومن علامات المتكبر: أنه لا يستفيد من غيره، ولا يرى الفضل لغيره، ولا ينقاد للحق إذا عرفه، ويعرف بلفظه ويعرف بمشيته، ويعرف بنحنحته، ويعرف بسعلته.
    قالت العرب: أحمق الناس المتكبر، ولذلك أحمق الطيور الطاووس؛ لأنه متكبر.
    ذكروا أن بعض الحمقى من السلاطين المتكبرين ما الله به عليم عزل عن منصبه، فذهب إلى قرية من قراه، ففرشوا له ملاحفهم وعمائمهم فى الطريق؛ لأنه جاد عليهم بمال وهو في عمله، فالتفت إلى الناس وقال: لمثل هذا فليعمل العاملون!
    ومر وزير من الوزراء العباسيين على الجسر -جسر
    بغداد - فوقف قبل الجسر وقال: والله إني أخشى أن لا يحمل الجسر شرفي، وأن ينكسر بي في النهر!
    وذكروا عن
    الحجاج بن أرطأة -أحد المحدثين- رحمه الله أنه دخل المجلس فجلس في طرف الناس، فقالوا: اجلس في الصدر، قال: حيثما جلست فأنا صدر، في أي مكان أجلس فأنا صدر، وهذه من عبارات الكبر التي اكتسبت فى أصل ذاك العنصر أو أخذت بالاقتباس.
    وفي هذه الآية: ((
    أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ)).
    قال المفسرون: كيف يقول: وكان من الكافرين ولم يكن هناك كافر، بل أول الناس
    آدم ؟
    قالوا: سوف يكون في علم الله أنه من الكافرين، وهو الرأي الصحيح.
    قال: ((
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ))، سجد الملائكة، وأراد الله إكرام آدم فأسكنه جنة الخلد، وقد أورد ابن القيم وغيره في الجنة التي أُسكنها وزوجه أقوالاً: هل هي جنة في الأرض وبستان في الأرض، أم هي جنة الخلد؟
    والصحيح: أنها جنة الخلد أدخله الله في جنة الخلد.
    قالوا: فاستوحش عليه السلام، وما كان معه أحد، فجلس فارغاً والتفت يريد أن يجلس مع أحد، لكن من يجلس معه؟ الملائكة لهم جنس خاص، الجن جنس خاص، وهو يريد من جنسه.
    ولما استوحش
    آدم عليه السلام نومه الله -كما يقول أهل التفسير منهم ابن كثير -: نومه، وأخذ من ضلعه الأيسر حواء.. ما أضعفنا، وما أذلنا، وما أقلنا، وما أحوجنا إلى رحمة الله! إنسان هذا خلقه، وهذه أمه، ثم يأتي الإنسان ويظن أنه واحد العالم، فريد العصر، وأن الناس ليسوا بشيء، يرتكب الكبائر، ويأتي بكل جُرم، وكل ما خطر له، وينسى تلك النشأة!!
    فخلق الله
    حواء، فالتفت آدم إليها بعد أن استيقظ، فرآها بجانبه فعرف أنها زوجته فسكن إليها: ((وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً)) لماذا سميت حواء؟ قالوا: لأنها من الحياة، والله أعلم.
    قال الله لهم: كلوا من الجنة واسكنوا في الجنة، وتمتعوا في الجنة، هذه قصورها وهذه أنهارها، وهذه ثمارها، وهذا كل ما لذّ وطاب، لكن هذه الشجرة لا تأكلا منها، لماذا؟ امتحان وابتلاء من الله ليرى عبوديتهم، وليرى صدقهم، وليرى إيمانهم.
    ما هي هذه الشجرة؟ اختلف أهل العلم فيها على أقوال:
    قيل: السنبلة.
    وقيل: العنب.
    وقيل: التين.
    وذلك كله لا يهم، يقول
    ابن جرير : إن الله لم يحددها اسماً بعينها، ولم يسمها لنا، ولم يأت بها قرآن ولا سنة فلماذا نتكلم؟
    فأحب شيء للإنسان ما منع عنه الآن، لو تدخله غرفة مكيفة مفروشة، عنده ما لذّ وطاب من الطعام والشراب ومرتاح، فتقول: احذر لا تخرج من هذه الغرفة، وإن خرجت عاقبناك عقاباً أليماً، فيأتي ويقول: منعني من الخروج، حبسني في هذا المكان، حسبنا الله عليه.
    قال
    علي بن أبي طالب : لو منع الناس من فت البعر لفتوه.
    ولذلك انظر إلى الخمر الآن، تذهب العقل واللب، وتفسد الأسر، وتسبب المذابح بين الأهل والأقارب، وترتكب بها الطامات، ومع ذلك يسافر لها بعض الذين لا يرجون لله وقاراً، ولا يخافون لله هيبة ولا رقابة يسافرون إلى بلادها، بل بعض الناس بلغ الثمانين من عمره وهو يعاقر الخمر ويشربها، وقد ذهب لبه وعقله وإرادته، وهو ممنوع منها، وكذا الزنا، وكذا النظر إلى المحرمات، والربا وغيرها؛ لأنه منع.
    وهذه هي التكاليف، ولو كانت المسألة بلا منع ولا حظر لما كان هناك ابتلاء، وكان الناس في الجنة، وما عرف الطيب من الخبيث والمؤمن من الكافر.
    فلما منعه الله أتى
    إبليس يوسوس له، هذه العداوة، والسؤال كيف دخل معه إبليس الجنة؟
    سبق وأن ذكرنا أنهم كانوا في السماء وخلق الله
    آدم في السماء، ثم أسجد له الملائكة، ورفض إبليس ، وجعل الله عزَّ وجلّ آدم وحواء في الجنة و إبليس بمنأى، فلما حذرهم الله من الشجرة أتى إبليس يوسوس لـآدم و حواء ، فأين وسوس لهما؟ لأهل العلم ثلاثة آراء وأقوال:
    القول الأول: قالوا: هو مطرود محروم؛ لكنه دخل يوسوس ولا يتنعم، فهو مطرود من رحمة الله، لكن جعله الله يذهب؛ لأنه سأل الله أن يمهله ليغوي
    آدم وذريته إلا قليلاً، فأنظره الله، فهو يدخل بلا حجاب، ويدخل بلا حرس، ويدخل عليك وأنت في فراشك، وأنت في السيارة والطائرة، وهو معك يجري منك مجرى الدم.
    والقول الثاني: قالوا: أخذته الحية، حية شارقة مارقة ابتلعت
    إبليس ، ثم دخلت الجنة أوردها أهل التفسير.
    والقول الثالث: قالوا: وسوس من بعيد، ما دخل الجنة، لكن أخذ يوسوس فوصلت الوسوسة.
    والراجح هو الرأي الأول: أنه دخل مطروداً محروماً، لكن أتى يوسوس، فانظر إلى وسوسته: ((
    وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ))، فصدقه آدم .
    الإنسان يصدق
    إبليس حتى الآن ولو كان مؤمناً، يأتيك فيقول مثلاً: جارك ما تكلم عليك بتلك الكلمة إلا لمقصد في نفسه، ما هو مقصده؟ قال: امتهانك واحتقارك والإزراء بك، فيقول: صدقت، ويذهب بسيفه وخنجره يقاتل جاره.
    يغض طرفه في السوق، قال: أنت ما نظرت إلى السحر الحلال، لو نظرت إلى الجمال نظرة واحدة فقط، حتى ترد نفسك بنظرة واحدة، فينظر النظرة فيكون هلاكه فيها.
    وتسمع الأغنية الماجنة يقول: ما عليك من الغناء، هذا حلال، والعلماء الذين قالوا بتحريمه ليس عندهم دليل ثابت، اسمع وتمتع قليلاً، وأنت ما ارتكبت جريمة، لا شربت خمراً ولا زنيت، أنت تستمع إلى أغنية، فيسمع الذي يقول: هل رأى الحب سكارى مثلنا، فيسكر ثم يزني، ثم يرتكب الفواحش فيتدهده على وجهه في النار.
    فوسوس لـ
    آدم ، فاستمع له آدم فأكل من الشجرة، وأكلت حواء ، فلما أكلا سقط اللباس الذي يواري عوراتهما، وعليهما لباس الجنة وحسن الجنة وحلي الجنة، وبهاء الجنة تناثر في الأرض.
    لا إله إلا الله، ما أشده من موقف، هذا موقف المسكنة، موقف الذنب والخطيئة.
    يقولون: إن
    يوسف عليه السلام لما هم بالمرأة وهمت به سمع هاتفاً يقول: يا يوسف ، لا تزني فإن من زنى كالطائر الذي عليه ريش نتف ريشه.
    وهذه مغبة المعصية، انظر كيف سلب الحياء والجمال والحلي وكل نعمة، فأصبح في موقف هو وحواء عراة، فأخذا أوراق الشجر عليه السلام وعليها السلام، يغطيان عوراتهما من الناظرين إن كان ملائكة أو غيرهم، فأتاهم الخطاب مباشرة ((
    اهْبِطَا))، فالعصاة لا يجاورون الواحد الأحد، وهذه والله أعظم مصيبة منينا بها.
    يقول
    ابن القيم :

    ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم


    يقول: نحن سُبينا من الجنة، سبانا
    إبليس وأنزلنا في الأرض، فيا ليت!! متى نعود لأوطاننا، نحن أهل الأوطان أهل الأنهار أهل القصور.

    يا راقداً يرنو بعيني راقد ومشاهد لأمر غير مشاهد


    تصل الذنوب إلى الذنوب وترتجي نزل النعيم وفوز خلد واحد


    ونسيت أن الله أهبط آدماً من جنة المأوى بذنب واحد


    فكيف بنا نحن وقد أتينا بعشرات من الذنوب؟

    فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم


    ولكننا سبي العدو فهل ترى نعود إلى أوطاننا ونسلم


    هبط عليه السلام، وانظر إلى الهبوط من علو من جنة الخلد هبط ووقع في الأرض، أرض يابسة أرض قاحلة.
    نقل أهل العلم، عن
    ابن عباس : أما آدم فهبط في الهند ، وبيده غصن شجرة، وقالوا: وأما حواء فهبطت بـجدة ، ونقل غيرهم: هبط آدم على الصفا وهبطت حواء على المروة ، ولا يهمنا هبط هنا أو هنا، فإن المقصود: أن الله أهبطهم إلى الأرض، أما آدم عليه السلام، فهبط بغصن شجرة، فنزل هذا الغصن فنبت في الهند ، فقالوا: كل بخور وكل طيب يأتي من الهند من آثار ذاك العود.
    ((
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ)).
    اسكن لفظ فيه حياة، ما قال: اقعد، ولا قال: اجلس، بل قال: اسكن، وهذه الكلمة فيها من اليقين والطمأنينة والفرح والبشر ما الله به عليم: ((
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا)) هنا ليس الرغد إلا في الجنة، قد يطلق مجازاً على الدنيا: عيش رغيد، لكن إذا سمعت الإنسان يقول: أنا في عيش رغيد مستمر، فلا تصدقه.
    هشام بن عبد الملك قال لوزرائه: تعالوا نحصي الأيام التي أتاني السرور فيها منذ توليت الخلافة، تولى الخلافة سنوات، فحسبها فوجدها ثلاثة عشر يوماً، سنوات كلها تصفي (13) يوماً سلم فيها من النكود والزلازل والفتن والمحن، يعني (13) يوماً استقر حاله فقط.
    فقال لوزرائه: لا جرم -يعني: لا جرم: لا ريب، لا شك- لأخلونّ غداً في بستاني، وعليّ الحراسة لأسعد من الصباح إلى المساء.
    قالوا: فخرج في بستان له في روضة
    دمشق وقال للحرس: لا تستقبلوا رسولاً -يعني: رسولاً موفداً- ولا تأذنوا لأحد، ولا تسمعوني مشكلة واتركوني في هذا البستان يوماً كاملاً.
    فجلس في هذا المكان من الصباح، فلما قرب الظهر وإذا هو بسهم فيه دم وقع بجانبه، فرفع السهم فوجده طار من اثنين تقاتلا خارج البستان وأتى إليه السهم، قال: ولا يوم واحد -حتى يوم واحد- يعني: ما نسلم من المشاكل.

    لا دار للمرء بعد الموت يسكنها إلا التي كان قبل الموت بانيها


    فإن بناها بخير طاب مسكنه وإن بناها بشر خاب بانيها


    يقول
    أبو الفتح البستي أحد العلماء:

    يا عامراً لخراب الدار مجتهداً بالله هل لخراب الدار عمران


    ومن العجيب أنك تجد الشيخ الكبير، عمره يناهز الثمانين، ومع ذلك تجده حريصاً على طلب الدنيا، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (
    يهرم ابن آدم وتشب منه اثنتان: الحرص على المال، والحرص على العمر) (1) .
    هذا هو الإنسان وهذه طبيعته، ولا يعرف حقيقة الدنيا إلا من عرف الله ورسول الله والدار الآخرة.
    عندما أتت
    هارون الرشيد سكرات الموت قال: أخرجوني أرى الجيش، فخرج جيشه فإذا هم تسعون ألفاً، فنظر إليهم، وقال: يا من لا يزول ملكه! ارحم من زال ملكه.
    الوليد بن عبد الملك بنى قصوراً في دمشق ما يعلمها إلا الله، وهو الذي وسع المسجد النبوي ووسع المسجد الأقصى، وأتى بالمشاريع الهائلة، بنى قصوراً وحدائق لا يعلمها إلا الله، فلما أتته سكرات الموت لبط وجهه في الأرض وضرب وجهه، وقال: ((مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ * هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ)).
    وهذا
    عبد الملك بن مروان عندما حضرته سكرات الموت سمع غسالاً! بجانب القصر، قال: يا ليتني كنت غسالاً يا ليت أمي لم تلدني! قال سعيد بن المسيب لما سمع الكلمة: الحمد لله الذي جعلهم يفرون إلينا وقت الموت ولا نفر إليهم.
    أما
    ميمون بن مهران وهو أحد الصالحين الكبار، فقد حفر قبراً له في قعر بيته، في حوشه في داره، فإذا أراد أن ينام توضأ ونزل في القبر وبكى كثيراً، ثم خرج من القبر قال: يا ميمون! عدت إلى الدنيا فاعمل صالحاً.
    ((
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا)).
    هذا الرغد لا يكون إلا في الجنة؛ رغد لا هم ولا غم ولا حزن، فأهلها لا يبولون ولا يتغوطون ولا يمرضون، ورشحهم المسك، قلوبهم على قلب امرئ واحد، خلا من كل حقد وحسد وغيظ وبغضاء، لا يخافون موتاً ولا جوعاً ولا هرماً، ولا يصيبهم سوء أبداً: ((
    أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ))، ((إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُوْلَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنتُمْ تُوعَدُونَ)).
    ((
    وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ)) فقربا من الشجرة فظلما أنفسهما، فنزلا إلى الأرض.
    ((
    فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ)) ونعوذ بالله من الشيطان، والحروز من الشيطان كثيرة:
    أولها: الوضوء دائماً أن تكون على طهارة الوضوء هذا حصن حصين.
    الأمر الثاني: الأذكار، الأذكار دائماً وأبداً، خاصة آية الكرسي، فهي تحرق الشياطين، والمعوذات وقل هو الله أحد، ولا إله إلا الله محمد رسول الله، ولا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، مائة مرة، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (
    من قالها في يوم مائة مرة كتبت له مائة حسنة ومحيت عنه مائة سيئة، وكانت له عدل عشر رقاب، وكانت له حرزاً من الشيطان يومه ذلك حتى يمسي، ولم يأت أحد بأفضل مما جاء به، إلا رجل عمل بعمله أو زاد عليه) (1) .
    ومن الحروز من الشيطان: أن تتبع أمر الرحمن من غض البصر، وحفظ الأذن، وحفظ اليد، وحفظ البطن، وحفظ الفرج، فهذه من الحروز.
    ومن الحروز أيضاً: أن إذا غضبت فلا تتكلم، وأن تسكت ليزيل الله عنك سبحانه وتعالى وسوسة الشيطان.
    ((
    فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا)) الشيطان من الجن على كل حال، بعضهم يكون من الملائكة، وبعضهم يكون من الجن، لكن قال سبحانه وتعالى: ((كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ))، هذا الشيطان.
    والشيطان فيه حجم كبير، وحجم صغير على كل المستويات، إذا كان الإنسان ضعيفاً يرسل له شيطاناً من الدرجة الثالثة، وإذا كان الإنسان من الغليظين يرسل له شيطاناً أقوى، والمؤمن شيطانه ضعيف، ضعيف جداً يقول: أنهكه وأضناه كالجمل الضعيف؛ لأنه كلما حاول الشيطان أن ينال هذا العبد قال: أستغفر الله، وعاد إلى الله وتاب إلى الله، وانهدم المبنى يجره معه، فإذا أراد أن يدخله بيته قطع الحبال وفر، فهو دائماً في صراع.
    ومن المؤمنين من لم يستطع لهم
    إبليس أبداً، حاول وحاول ثم ترك، أما بعض الناس فيأخذهم يميناً وشمالاً.
    رسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: (
    كل منكم له قرين وكل به -يعني: من الشياطين- قالوا: حتى أنت يا رسول الله؟
    قال: حتى أنا، لكن الله أعانني عليه فأسلم
    ) (1) ، أعانه الله على شيطانه فأسلم، أعلن الإسلام فلا يأمره إلا بخير، وأما نحن فالقرين مضاد دائماً، لكن نتحفظ منه بالآيات والأحاديث.
    يقول
    ابن عباس : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم يأتي كالحية، هكذا جاثم على القلب، فإذا سكت وغفل الإنسان وسوس، وإذا ذكر الله خنس، وهو يجري من الإنسان مجرى الدم.
    ((
    فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ)) من النعيم المقيم وقرة العين، أخرجهما إلى الدنيا.
    ((
    وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ))، إذاً: العداوة بين الناس قضاء كوني قدري من الواحد الأحد، ولكن تزول العداوة بالإيمان، والله عزَّ وجلَّ يقول: ((وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ)).

    ولكل شيء آفة من ضده حتى الحديد سطا عليه المبرد


    الحديد، وهو الحديد، سلط عليه الله المبرد، وهذا يقسمه نصفين، كل شيء له عدو، تجد الشاة ما تخاف من الحمار، ولا تخاف من الجمل، لكن إذا رأت الذئب خافت وثبتت مكانها، ولا تأخذ خطوة؛ لأنه عدوها، والحمار له عدو وهو الضبع، والثعبان للإنسان، وهذه المواشي لها الأسود ولغيرها، لكن هي فصائل.
    يقول أهل العلم: من العداء الذي جعله الله في الأرض العداء الذي جعله بين الأجناس؛ ولذلك نجد بعض الحيوانات
    تتوافق وبعضها تتعادى.
    قال: ((
    بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ)) فالله هو الذي جعل هذا العدوان لهذا الأمر، والناس كذلك بينهم عداء، والعداء على قسمين بين الناس:
    قسم بحق، وهو عداء أهل الحق لأهل الباطل: ((
    وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا))، ((وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأَرْضُ)).
    وأما العداء الباطل، فعداء المؤمنين بعضهم لبعض، وهذا يحصل، ولكن على المؤمن أن يُصلح، وأن يكظم الغيظ، وأن يحسن، وأن يحلم، وأن يصبر: ((
    وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)).
    ويقول سبحانه وتعالى: ((
    خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ)).
    ويقول سبحانه وتعالى: ((
    ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ)).
    يقول
    علي رضي الله تعالى عنه وأرضاه، في معركة الجمل لما رأى طلحة مقتولاً، مسح التراب عن وجهه، وقبله وقال: يعز عليَّ يا أبا محمد ، أن أراك مجندلاً على التراب، ولكن أسأل الله أن أكون أنا وإياك ممن قال فيهم الله عزّ وجلّ: ((وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ)).
    يعني: لا بد من شيء بين المؤمنين، حتى نجد من الدعاة والعلماء من يكون فيه غل؛ لكنه ينزعه سبحانه وتعالى يوم
    القيامة، فيصبحون أصفياء إخواناً أصدقاء أحباء، وهذا لا يكون إلا في الجنة، ولكن في الدنيا لا بد أن يسود الإخاء، يقول
    أبو تمام في مسألة الدين والإسلام:

    إنْ يُكدُ مطرف الإخاء فإننا نغدو ونسري في إخاء تالد


    أو يختلف ماء الغمام فماؤنا عذب تحدر من غمام واحد


    أو يفترق نسب يؤلف بيننا دين أقمناه مقام الوالد


    هذا هو نسبنا، نسب الدين.
    ((
    بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)) تستقرون في الأرض، ومتاع إلى زمن قريب، ووالله إنه زمن قصير، وإنه عيش بسيط سهل، إنها كلمحة البصر.
    عاش
    نوح عليه السلام ألف سنة، فلما أتته سكرات الموت قالوا له: كيف وجدت الحياة؟
    قال: وجدت الحياة كأنها بيت له بابان، دخلت من هذا وخرجت من هذا.
    وقال
    علي وهو يبكي في ظلام الليل: يا دنيا يا دنية طلقتك ثلاثاً، عمرك قصير، وسفرك طويل وزادك حقير، آه من قلة الزاد، وبعد السفر ولقاء الموت!!
    كل الدنيا ليست إلا لمحة: ((
    قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ * قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ * قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ)).
    ((
    وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ)) الدنيا متاع فقط، يعني خير متاع تتمتع فيه إلى حين، إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، أو إلى حين الموت: ((وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ * وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ))، فحين تفيض روحك فلا عليك من العالم أن يتأخر بعدك أو يتقدم إذا قامت قيامتك.
    ((
    فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ)) يا رب، لك الحمد ولك الشكر ولك الثناء الحسن.
    أذنب
    آدم وأُنزل وأُهبط، فأخبره الله بكلمات يقولها ليتوب الله عليه، قال له: قل: ((رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))، وقال له ولـحواء قولا: ((قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ)) فمد يديه عليه السلام، وقال: ربنا إننا ظلمنا أنفسنا، فإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين، فتاب الله عليهما، فمن فعل مثل أبيه في الذنب فليفعل مثله في التوبة.
    ((
    فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) وقالوا: الكلمات هى: لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين.
    وقالوا: الكلمات: لا إله إلا الله الحكيم العليم، لا إله إلا الله رب العرش العظيم، لا إله إلا الله رب السماوات والأرض رب العرش الكريم.
    وقالوا: الكلمات قال: أستغفر الله الذي لا إله إلا هو، وكلها تدخل في الاستغفار، إنما علمه الله كلمات فأنقذه بالكلمات، وهذه هي التوبة، وفي حديثه صلى الله عليه وسلم مرفوعاً: (
    يا ابن آدم! إنك ما دعوتني ورجوتني على ما كان منك، غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي، يا ابن آدم! لو أتيتني بقراب الأرض خطايا، ثم جئتني لا تشرك بي شيئاً لأتيتك بقرابها مغفرة) (1) .

    إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم


    ما لي إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم إني مسلم


    وقال الأول:

    سبحان من يعفو ونهفو دائماً ولم يزل مهما هفا العبد عفا


    يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا


    انظر ما أكثر المعاصي: زنا، وربا، وقطيعة رحم، وعقوق والدين، وضياع أوقات، وتفلت على أمر الله، وترك للصلوات، والرزق يأتينا من كل مكان.

    يعطي الذي يخطي ولا يمنعه جلاله عن العطا لذي الخطا


    ((
    فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ)) فقالها آدم وقالتها حواء ، فغفر الله لهما وتابا عليها، إنه هو التواب الرحيم، ما أحسن الكلمات!
    النصرانية تفتك الإنسان إذا أذنب قالت له: خزيت وبعدت ليست لك توبة، و اليهودية كانت التوبة عندهم قتل أنفسهم.
    قال سبحانه وتعالى: ((
    فَاقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ))، والإسلام يقول لك: إذا أذنبت توضأ وصلّ ركعتين، واستغفر الله من الذنب، وتب توبة نصوحاً.
    ما أسهل الإسلام وما أيسر الإسلام! وما أوسع باب الله! عطاؤه ممنوح، فضله يغدو ويروح، وبابه مفتوح؛ ولذلك أرهقتنا الذنوب؛ لأننا ما عرفنا طريق التوبة: ((
    فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ))، ((وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ))، ((قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ)) ويقول تعالى في الحديث القدسي: (يا عبادي إنكم تذنبون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعاً فاستغفروني أغفر لكم) (1) .
    ((
    قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ))، (قلنا اهبطوا منها جميعاً) من الجنة، قيل: هبط آدم و حواء ، وبعضهم يقول: مع آدم و حواء الحية والشيطان: ((فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى)) ما هو الهدى؟
    الهدى: دين الله الذي يبعث به رسله، كل الرسل أتوا بالهدى وكل له شريعة، وهم يتفقون أنهم أتوا بالإسلام: ((
    فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ)).
    ما الفرق بين الخوف والحزن؟
    الخوف على أمر مستقبل تخاف من أمر يأتيك، والحزن على أمر فات، فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون، وهذا كقوله
    سبحانه وتعالى: ((
    فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا)).
    قال
    ابن عباس : كتب الله عزَّ وجلّ على نفسه أن من اتبع هذا القرآن، فأحل حلاله وحرم حرامه، أن لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة: ((وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا))، معه دراهم ودنانير ودور وقصور وسيارات، لكن عليه الضنك وعليه اللعنة وعليه الغضب ((ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى)).
    ((
    قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى))، وقد أتى والله.
    والله لقد أسمعت دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم راعي الغنم في الصحراء.
    والله لقد سمعت بدعوته العجائز في بيوتهن، وفي خدورهن.
    والله لقد نفذ إلى العاتق من النساء، إلى البكر من النساء، إلى العذراء من النساء.
    من دعوته ما وصل علماء الصحابة في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم.
    والله لقد سارت دعوته مسير الشمس، ومسير الليل والنهار، فما هو عذرنا إذا قلنا: ما آتانا، ما بين لنا، ما وضحت الطريق؟ ولا والله قد وضحت كل الوضوح، وقد بينت كل البيان ((
    لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ))، فمن هو الحي؟؟ أهو الذي يأكل ويشرب ويزمر ويغني لياليه وأيامه؟ هذا صحيح يسمى حياً مجازاً، حياة الشاة؛ لأنه يأكل ويشرب، لكن قلبه ليس بحي: ((أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا))، لا سواء، فالحياة هنا هي حياة الإيمان، حياة القرآن، حياة الذكر، حياة الاتصال بالله، حياة حفظ الوقت، حياة طلب العلم، حضور مجالس الخير، واستماع إلى كلام الخير، هذه هي الحياة، أما غيرها فهي حياة (الخواجات).
    والله، كيف ينعم الإنسان كيف يهدأ باله وهو ليس مستقيماً، والله ليس راض عنه؟ عنده قصور، عنده دور، عنده مناصب، لكن الله غضبان عليه من فوق سبع سماوات، كيف يهدأ؟ كيف يرتاح؟ وبعد أيام يرتحل إلى الله: ((
    وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُمْ مَا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ))، أتى صلى الله عليه وسلم يخرج الناس من الظلمات إلى النور، فمن أطاعه اهتدى، ومن عصاه تردى.

    كلمات مفتاحية  :

    تعليقات الزوار ()