قال لي صاحبي يوما وقد ظهرت نتيجة امتحان آخر العام، وحصل أبناؤه على درجات منخفضة:
الساعات الطوال آمرهم بالمذاكرة وأنهاهم عن اللعب، لقد تابعتهم بكل دقة حتى إنهم قضوا معظم وقتهم بين الكتب، يذاكرون ويجتهدون ويجدّون، ووالله لم يعرف اللعب طريقه إلى حياتهم، فماذا حدث؟ لقد احترت وتعبت.. فماذا أصنع؟
فقلت له والحزن يملأ قلبي:
جزاك الله خيرا على هذا الجهد الكريم، ولكن اسمح لى أن أقول لك: إنك أنت السبب الرئيس فى تأخرهم الدراسي، وحصولهم على درجات منخفضة.. فقال مندهشا: ماذا تقول؟ هل هناك أب يضر أبناءه وهم أغلى شيء عنده فى الحياة؟ لا بد وأنك لا تعي ما تقول..
فقلت له: لا تنفعل يا صاحبي، ودعنا نناقش الأمر بهدوء:
الطفل بفطرته يحب اللعب حتى إنه يمكننا أن نعد اللعب لازمة من لوازم الطفولة، فكيف تحرمه من حاجة ضرورية ثم تطلب منه بعد ذلك أن يتفوق؟! إنك بهذا التصرف تجعله يكره المذاكرة دون أن تدري، وذلك لأنك تحرمه من شيء يحبه بل ويحتاجه، وتقول له عليك أن تذاكر بدل أن تلعب.
يا صاحبـي:
اللعب والمذاكرة وجهان لعملة واحدة، لا يصلح أحدهما بدون الآخر، وذلك لأن الصلة وثيقة بين لعب الطفل وتفوقه الدراسي بل والأخلاقي، حيث إن اللعب لا يراد به قتل الوقت بقدر ما هو نشاط يتخلص به الطفل من إرهاق التحصيل أو الكسل الحاصل بالنوم، ثم إنه يعده لمرحلة أخرى يكون فيها أقدر على المذاكرة والتحصيل من جديد، بنفس راضية وقلب مستريح، بعد أخذ حظه من اللهو البريء الذى تتفتح به النفس للحياة، لتقبل على المذاكرة والعمل بجد ونشاط.
ولذلك قال الإمام الغزالي -رحمه الله-: "ينبغي أن يؤذن له [أي للطفل] بعد الانصراف من الكُتّاب أن يلعب لعبا جميلا، يستريح إليه من تعب المكتب، بحيث لا يتعب في اللعب، فإن منع الصبي من اللعب وإرهاقه بالتعليم دائما يميت قلبه، ويبطل ذكاءه، وينغص عليه العيش حتى يطلب الحيلة في الخلاص منه رأسا".
فقال لي صاحبـي:
معنى كلامك أن اللعب يؤدي دورا مهما في حياة الطفل، لأنه المتنفس المشروع للطاقة الهائلة والزائدة عند الطفل، ولأنه وسيلة للتعبير عن الانفعالات العميقة عند الطفل، ولأنه في نفس الوقت الوسيلة المقبولة للاستمتاع والسرور والسعادة، ومن خلاله تنمو مهارات الطفل والتي منها مهارات التفكير والحفظ والفهم، ومعنى كلامك أيضا أننا حينما نحرم الطفل من اللعب بسبب حضه على المذاكرة والتحصيل، فإن ذلك يكون من أسباب تأخره الدراسي، ووقوعه في حالة من القلق والاضطراب وعدم الرضا.
فقلت له:
هذا فعلا ما أقصده، بل إن هذه الحقيقة ذاتها هي التي دفعت علماء النفس المعاصرين إلى القول بأن: "التعليم في الطفولة لا يؤتي أكله، ولا يمكن أن يتحمله الأطفال ولا يستسيغوه إلا إذا كان مصبوغا بصبغة الألعاب، إننا نريد طريقة تعليمية ظاهرها اللعب واللهو وباطنها العمل والجد والتعليم والتربية، ولعل السبب في كراهية أطفالنا للمذاكرة هو: أن معظم نظمنا التعليمية الحاضرة قد غفل واضعوها عن هذا المبدأ، فأسسوا بنيانهم على شفا جرف هار، فجاءت فاسدة عقيمة، نائية عن طبيعة الطفل، مرهقة لجسمه وعقله، تكرهه على تجرع ما لا يكاد يسيغه، وتقضي عليه بمزاولة أعمال لا يقل نظره إليها عن نظر السجين إلى أشغاله الشاقة.
فقال صاحبـي:
كان الله في عون أبنائنا، إنني لم أكن أشعر بكل هذه المعاناة التي يعانيها أبناؤنا، ولكني -والله- حريص على مصلحتهم، فماذا أصنع؟ هل أترك لهم الحبل على الغارب فيمرحون ويلعبون كما يشاءون؟ أم ماذا أفعل!؟
فقلت له:
لا يصح أن يكون لعب الطفل على حساب واجبات أخرى يكلف بها، ويدعى إليها، ويطلب في حقه تنفيذها.. كأن يشغل معظم وقته في اللعب بكرة القدم أو مزاولة أعمال السباحة أو اللعب بالمكعبات.. على حساب حق الله في العبادة، أو حق نفسه في المذاكرة وتحصيل العلم أو حق أبويه في الطاعة والبر.
لعب الطفل يجب أن يكون في حدود الوسط والاعتدال، وذلك لإيجاد التوازن مع سائر الواجبات الأخرى دون أن يطغى حق على حق أو يتغلب واجب على واجب.. تحقيقا لمبدأ التوازن الذي وضع أصوله نبي الإسلام -صلى الله عليه وسلم- حين قال لعبد الله بن عمرو بن العاص: ) يا عبد الله بن عمرو: إن لله عليك حقا وإن لبدنك عليك حقا وإن لأهلك عليك حقا.. فأعط كل ذي حق حقه (.
وهنا قال لي صاحبـي:
جزاك الله خيرا، وأعتقد الآن أن هذه القضية لا تحتاج -بعد ما ذكرته- إلى كثير كلام، فهيا بنا ولا تضيع الوقت، فأولادي ينتظرون العمل والتطبيق، والله ولي التوفيق.